الإنسان.. ذلك المجهول!
5 شعبان 1441
د. جاسم الشمري

سبحان الذي كتب على عباده الموت في الدنيا، ليكون هذا الغائب الحاضر" الموت" حقيقة من الحقائق الثابتة التي لا يمكن لا للملحدين ولا للمؤمنين نكرانها، فالجميع يؤمنون أنهم ميتون، وأنهم سينتقلون في لحظة من اللحظات إلى عالم آخر، عالم لم نألفه، وليس لدينا تصور كامل عنه، بل عالم آخر بكل معنى هذه الكلمة، والانتقال إلى هذا العالم سيكون بلحظة انفصال الروح عن الجسد، إذاً الكل ميت، والدنيا فانية شئنا أم أبينا.

 

العالم الآخر، الذي سننتقل إليه لا نستطيع مع ما بلغنا من أخبار صحيحة بخصوصه تصوره والوصول إلى حقيقته؛ لأنه جزء من عالم الغيب الذي لا يمكن أن نفهمه إلا بالرؤية، وهذه الرؤية بالنسبة لنا في الدنيا اليوم غير متحصلة، وبالنتيجة نحن لا نعرف حقيقة هذا العالم، رغم إننا مؤمنون به، لانه ركن من أركان الإيمان في الإسلام، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم " إني أرى ما لا ترون واسمع ما لا تسمعون؛ أطت السماء وحق لها أن تئط؛ ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدا لله " , " والله لو تعلمون ما اعلم لضحكتم قليلا, ولبكيتم كثيرا " قال أبو الدرداء : .."وما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله. لوددت إني شجرة تعضد". وهي آثار صحيحة بألفاظ مختلفة تقود بمجملها إلى بيان قدر جهلنا بحقيقة اليوم الآخر.

 

على العموم، الإنسان هذا الكائن العجيب المكون جسده من دم ولحم وروح هو المخلوق الأغرب والأعجب بين كل المخلوقات، فرغم سعة المحيطات والبحار والأنهار، إلا أن الإنسان أوسع منها بخياله وعقله، ورغم صلابة الجبال وجلادتها فان الإنسان في الكثير من المواقف اجلد واشد من الجبال التي بمقدور الإنسان تفتيتها وخصوصاً في زمن التي أن تي، والورود والأشجار والزهور رغم رقتها النادرة، وعطورها الزكية فان الإنسان برقته وطيبته يكون أحيانا ارق من الورود والإزهار.

 

الإنسان في حقيقته جملة من الأمنيات القريبة والبعيدة، وهذه الأمنيات هي التي تخلق الأمل، والأمل هو الذي يجعل الإنسان متعلقاً متشبثاً بالحياة، وأمنيات بني آدم كبيرة بكبر هذا الكون، وهذه الأمنيات لا دخل لواقع  الإنسان بها فالكل يحلم الفقير يحلم والغني يحلم، الحر  يحلم الأسير يحلم، بل أحيانا نجد أن الفقراء أكثر حلماً من الأغنياء، لان الأغنياء تتحقق اغلب أمنياتهم المادية والروحية، لكن الفقراء فهم لم يحققوا اغلب أمنياتهم.

 

غربة الروح هي أصعب أنواع الغربات، فلربما يكون الإنسان غريباً عن مجتمع ما، وبمرور الزمن يجد من يسلي نفسه برفقته، ولربما يكون الإنسان غريباً عن مكان ما، فإذا به بمرور الزمن يألفه بل ويعشقه أحياناً، إلا أن غربة الإنسان عن نفسه، لا يمكن أن يكون لها بلسم نافع، بل هي صورة من صور الدمار للإنسان، وبالتالي فأكثر آلام الإنسان هي الآلام الروحية؛ لان الآلام الجسدية غالباً ما يجد لها علاجاً، خصوصاً مع تقدم الطب والعلوم الحياتية.

 

ورغم كل هذه المنغصات التي تملا حياة الإنسان تجده يعمل وينتج ويضحك ويلعب، لا احد - غير الله - يعرف ماذا في دواخل هذا المخلوق العجيب، فلربما تجده يضحك وهو منهار من الداخل بدرجة لا يمكن تصورها؛ لأنه يخشى من شماتة الأعداء والحاقدين، ولربما تجده يمزح ويداعب الريح، وهو في ذات الوقت عبارة عن كتلة من الهموم والأحزان، ولربما ولربما، ولربما، تناقضات كبيرة تعيش في دواخلنا، ولا نعرف كيف نتخلص منها، ربما هي الحياة وهذا هو قانونها الذي لا يمكننا أن نغير منه شيئاً، أو لعل الأمر كما ذكر المولى سبحانه وتعالى هو من باب الاختبار والبلاء لبني ادم.
الإنسان الحر الناجح هو الذي يعرف كيف يتغلب على هذه الآلام والهموم لتكون سبباًُ للنجاح والفلاح، ولا تكون معولاً للهدم والخراب.

 

وهكذا تستمر الحياة، وفي عام من الأعوام، وفي يوم من الأيام، وفي ساعة من الساعات، وفي مكان من الأماكن تنفصل روح الإنسان عن جسده الضعيف، ليكون في هذه  اللحظة جثة هامدة وليكون، حينها، بقاؤه في هذه الدنيا تحت شعار: " إكرام الميت دفنه"، وساعتها تنتهي رحلة العمر اليسيرة لتبدأ بعدها الانطلاقة إلى مرحلة جديدة: إما روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار، أعاذنا الله وإياكم منها.