مشرف ـ سكاشفيلي ـ هزائم أفغانستان والعراق: تراجع النفوذ الأمريكي
3 رمضان 1429
جمال عرفة
ليس لهم عهود أو مبادئ .. مصالحهم فقط هي أنجيلهم .. هذا ما كشفت عنه التجارب الأمريكية مع غالبية قادة العالم والدول التي استعملوها واستغلوها ، ويركبون ظهورها متعهدين بالدفاع عن أنظمتها .. ولكن في أول أزمة وعند تبدل مصالحهم يتركون حلفاؤهم هؤلاء لمصيرهم يندبون حظهم ويغيرونهم كما يغيرون أحذيتهم !.
هذه السياسة الأمريكية السلبية ، ظهرت هذا الأسبوع مرة أخرى بتخلي واشنطن عن حليفها الاستراتيجي الجنرال الباكستاني برويز مشرف الذي فتح لها أبواب أفغانستان لتغزوها ، وساعدها في ضرب تنظيم القاعدة ، وعلى توطيد أقدامها في شبه الجزيرة الهندية ، ومع هذا تخلو عنه عندما جفت ورقته وذبلت وسقطت واحترقت، وأصبح مطلوبا للمحاكمة أمام البرلمان الباكستاني !
هذا الموقف الأمريكي الانتهازي لم يقتصر على الرئيس الباكستاني ، وإنما كان هو أيضا مصير حليف واشنطن في الفناء الخلفي الروسي، وهو رئيس جورجيا (ساكاشفيلي) الذي شجعته أمريكا على دخول الحلبة وحده لمشاكسة الدب الروسي ثم تركته وحيدا ليدهسه الدب الروسي بقدميه !
ومن قبلهم قائمة طويلة لقادة آخرين ونظم تخلوا عنهم عندما تعارض بقاؤهم في السلطة مع مصالحها بصرف النظر عن أشخاص الحكام الذي ساندتهم ووقفت بجوارهم سابقا كي ينفذوا لها مصالحها ويكونوا وكلاء أعمالها ، ثم تركتهم بعدما احترقت أوراقهم واستنزفتهم وانتهى دورهم .
قادة وحكومات دول عديدة اعتمدوا علي أمريكا وساروا وراء شعارات الديمقراطية الزائفة التي ترفعها ورفعوا الرايات البرتقالية وغامروا بمستقبل بلادهم ودخلوا في حروب وصراعات ومواجهات أملا في وقوف النسر الأمريكي بجوارهم وعندما تغيرت المصالح الأمريكية لفظتهم !
إعدام العملاء
فبعد خدمة امتدت 9 سنوات ربط فيها بين مصير بلاده وبين المصالح الأمريكية في المنطقة ودخل بسببها في صراعات وقتال دموي مع أقسام من شعبه وقضاته، أعلن (الرئيس الباكستاني) برويز مشرف استقالته يوم الاثنين من الحكم قبل مساءلة وشيكة عن "جرائمه" في حق شعبه ، كان الائتلاف الحاكم يعتزم القيام بها وتصل عقوبتها للإعدام .
وجاءت استقالة مشرف بعد ساعات من إعلان واشنطن تخليها عنه رسميا ، وعدم تردد (وزيرة الخارجية الأمريكية) كوندوليزا رايس في القول إن مسألة منح أو عدم منح اللجوء السياسي للرئيس الباكستاني "أمر غير مطروح"، ما اعتبر تخل فج عن أقرب حلفائها ورفض حتى توفير ملجأ آمن له !
لماذا تخلت أمريكا عن الرئيس الباكستاني برفيز مشرف، ولماذا تركته وحيدا بعد كل ما قدمه للسياسة الأمريكية ومن قبله حكام مثل شاه إيران وماركوس وغيرهم ممن تخلوا عن شعوبهم ولفظتهم واشنطن ؟ وهل هذا مؤشر على فشل السياسة الأمريكية في العالم ؟
سقوط مشرف رغم كل ما قدمه للسياسة الأمريكية .. ودفع جورجيا ثمناً باهظاً لتحالفها مع أمريكا ، في نزاعها مع روسيا .. وفشل الثورات البرتقالية (التي انطلقت من جورجيا) .. وفشل القوات الأمريكية في تركيع المقاومة في أفغانستان والعراق ، وعودة القطب الروسي بقوة .. كلها مؤشرات لا تخطئها العين علي تراجع النفوذ الأمريكي في العالم .
 
مشرف 'الحليف الأكبر'
فالرئيس الباكستاني المستقيل قدم نفسه لأمريكا على أنه المدافع عن العالم ضد تنظيم القاعدة وحارب لأجلها قطاعات من شعبه في منطقة القبائل بدعوى تحالفهم مع القاعدة ، وكان هو الحليف الرئيس للولايات المتحدة في حربها ضد ما سمي (الإرهاب) الذي اخترعته واشنطن ليكون الكرباج الذي تجلد به شعوب المنطقة العربية والإسلامية .
كان يظن أن أمريكا لن تتخلى عنه بسبب خدماته لها فتحول لمحاربة شعبه مسندا ظهره لها ، وفوجئ أنهم أول من هاجموه عندما بدأ نجمه يأفل ، بل وقللوا من أهمية خدماته وقالوا له: إن محاربته للإرهاب لم تعد مجدية !
تخلت عنه واشنطن وتمكن الائتلاف الحكومي الذي شكل في مارس الماضي من آصف علي زرداري (زوج الراحلة بنازير بوتو) ومن (رئيس الحكومة السابق) نواز شريف من إقصاء مشرف من رئاسة الجمهورية من دون إراقة دماء .
مشرف الذي كان ملء السمع والبصر، والذي وصفه الرئيس الأمريكي يوما بأنه (رجلنا) ، والذي دخل في مواجهات مع القوى الإسلامية والقضاة وأحزاب المعارضة وأعلن حالة الطوارئ في نوفمبر 2007 وعزل كبير القضاة لأن المحكمة العليا كانت تنوي النظر في شرعية انتخابه رئيسا ، لم يجد عندما تكالبت عليه سكاكين المعارضة الحامية ، وتغير مزاج واشنطن السياسي ، من حكام أمريكا سوى التجاهل والإنكار لكل خدماته !
جورجيا تدفع الثمن
وجورجيا التي حملت لواء الثورات البرتقالية في أوروبا الشرقية ، وشجعتها واشنطن على تحدي الدب الروسي ودخول عرينه ومشاكسته لحد الهجوم على جمهورية أوسيتيا الجنوبية التي توجد بها أقلية روسية هامة ، ومن قبلها جمهورية أبخازيا (التي تسمى بلاد الأباظة المسلمة) ، ووصل بها التحدي لدعم متمردي جمهورية الشيشان التي تطالب بالاستقلال عن روسيا الاتحادية .. هذه الدولة لم تتحرك واشنطن خطوة واحدة لنجدة نظامها (البرتقالي) عندما أوشكت روسيا على إسقاطه .
الثمن الذي دفعته جورجيا ورئيسها (ساكاشفيلي) بسبب مغامرتها العسكرية مع روسيا والتي دفعتها اليها واشنطن دفعا ، كان باهظا كبير جدا، وتركها الأمريكان وهي تعاني من وجود قوات روسية على أراضيها بكثافة وهزيمة على أيدي الانفصاليين في أوسيتا وأبخازيا ودمار لاقتصادها !
الوعود الاقتصادية الأمريكية لجورجيا عقب تمردها على روسيا التي ظلت تعتمد عليها اقتصاديا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي تبخرت واقتصر الحديث عن "مساعدات إنسانية"، لتظل جورجيا تعتمد على تحويلات الجورجيين العاملين في روسيا والتي بلغت في الربع الأول من هذا العام 142 مليون دولار ، وتعادل ثلاثة أضعاف ونصف حجم التبادل بين روسيا وجورجيا !
وبدلا من الحلم الجورجي الذي غذته واشنطن بالرخاء الاقتصادي والانضمام لحلف الناتو لحمايتها عسكريا من روسيا ، اضطر الرئيس الجورجي بعدما تخلى عنه الأمريكان لطلب الرحمة من الروس !
لم يتعلم أحد من طغاة العالم والحالمين بالحلم الأمريكي أي شيء من دروس الماضي وتخلي واشنطن عن أقرب حلفائها لمجرد تبدل مصالحها أو انتقالها من حجر زعيم احترقت أوراقه لزعيم آخر جديد ، وكأن دروس لفظهم شاه إيران أو ماركوس الفلبين أو "جيش لحد" في جنوب لبنان وغيرها الكثير لاتكفي ! 
هزيمة الصهاينة في جورجيا
ولم تقتصر الصفعات علي جورجيا في صراع القوقاز الأخير مع روسيا ، وإنما نال الصهاينة صفعات مماثلة وهزيمة منكرة بعدما ساندوا – بطلب أمريكي وتشجيع من وزير الدفاع الجورجي (الإسرائيلي الأصل)- الجيش الجورجي بالسلاح وقرابة 1000 من الخبراء المرتزقة الصهاينة ، ما سيجعل دول عديدة تعزف عن طلب مساعداتهم مستقبلا .
وقد نشر موقع "ديبكا فايل" الاستخباري الإسرائيلي تقريراً كشف فيه حجم التورط الصهيوني وأن الدبابات وقوات المشاة الجورجية استولت على عاصمة أوسيتيا الجنوبية "تسخينفالي" يوم الجمعة 8-8-2008 م "بمساعدة خبراء عسكريين إسرائيليين " .
وفى العام الماضي كلف الرئيس الجورجى مئات من المستشارين العسكريين من شركات أمن إسرائيلية خاصة، يقدر عددهم بما يصل إلى ألف بتدريب القوات الجورجية ، وتدريبات في مجالات الاستخبارات العسكرية والأمن لنظام الحكم ، واشترت تبليسى أيضا من إسرائيل أنظمة استخبارات وحرب إلكترونية، وهؤلاء المستشارون العسكريون كانت لهم علاقة وثيقة بتحضيرات الجيش الجورجى للهجوم على عاصمة أوسيتيا الجنوبية مؤخرا.
وقد أعترف الصهاينة بالفشل والهزيمة في حرب القوقاز ، وكتب الخبير الإسرائيلي "أنشيل بابر" يقول في صحيفة (هارتس) أن حرب القوقاز بينت مرة أخرى استمرار "فشل الرهانات الإسرائيلية"، كما فشلت في الماضي في تحالفها مع قسم من الموارنة في لبنان، ونظام الديكتاتور بيونشيه في تشيلي، ونظام عيدي أمين في أوغندا وتشيلي والأرجنتين.
وقال بابر: "المؤسسة الرسمية الإسرائيلية وقعت مرة تلو الأخرى في إغراء الوهم القائل إن بإمكان إسرائيل أن تتصرف كدولة إقليمية عظمى، وفي كل مرة دفعت ثمنا مؤلما .
فشل السياسة الأمريكية
وفشل مشرف في باكستان وتخلي واشنطن عنه ، وكذا الفشل في جورجيا ، ما هو إلا آخر حلقات فشل السياسة الأمريكية وشعارات الديمقراطية والثورة البرتقالية التي رفعها الرئيس بوش كعنوان جديد للمصالح الأمريكية ، وعندما ظهرت سلبياتها سرعان ما تخلي عنها وعاد للاعتماد على قادة وأنظمة أخرى طالما هي من ستحقق هذه المصالح .
وهو فشل يضاف لفشلهم في أفغانستان والعراق حيث القتل والدمار والدماء تسيل تحت لافتة الديمقراطية الأمريكية ، بعدما تهاوت سياستهم هناك وباتت المشكلة هي البحث عن "مخرج مشرف" من وحل العراق وأفغانستان !
الخلاصة
الخلاصة: إذا أن أمريكا لا تعرف الأصدقاء ولكن فقط من ينفذون مصالحها .. وهؤلاء تنتهي صلاحيتهم حينما يتوقف عطاؤهم للمصالح الأمريكية ويجري التضحية بهم بون أدنى ندم والمجيء بغيرهم لأن المصالح لا تعرف العواطف .
وأن سياسة محاربة الإرهاب ما هي سوى أداة من أدوات تحقيق المصالح الأمريكية .
وأنه ليس هناك عزيز لدي الأمريكان في السياسة الدولية .. فقط مصالح
الإمبراطورية الأمريكية إلى زوال .. وتهاوي النفوذ الأمريكي في العالم وانكماش واشنطن عسكريا وهرب الأمريكيين من التجنيد في الجيش خشية الموت .. أكبر دليل على ذلك .
ورب ضارة نافعة .. فعودة الحرب الباردة بين روسيا وأمريكا هو لمصلحة العرب والمسلمين ، ونهوض الدب الروسي كما ظهر في ضرب جورجيا والتصعيد المرتقب بسبب نشر الدرع الصاروخي الأمريكي في بولندا ، غالبا ما سيدفع روسيا للأمام كي تعود للساحة الدولية لموازنة الانفراد الأمريكي بالعالم .. ما سيعيد توفير حماية لدول مثل سوريا وإيران ضد الهيمنة الأمريكية .  
وهنا يبرز سؤال هام : هل تآكل النفوذ الأمريكي في العالم بصورة أكبر بعد الهزيمة والفشل في جورجيا وباكستان ، ومن قبلها العراق وأفغانستان ؟ وهل من مصلحة العرب عودة الحرب الباردة وعودة روسيا لمساندة الحقوق العربية؟
ثم كيف يمكن للعرب أن يستفيدوا من هذا الصراع المتجدد بين القطبين الأمريكي والروسي ؟ هل بعودة التحالفات مع روسيا المتعطشة لتأديب أمريكا ومعها إسرائيل (بعدما ثبت تورطها في دعم الجيش الجورجي عسكريا بالعتاد والمرتزقة) ، أم بالتحالفات العسكرية مثل سماح سوريا بنشر منظومة صواريخ روسية ردا علي نشر بولندا الدرع الصاروخي الأمريكي ، أما بالحياد والاستفادة من الطرفين في ممارسة الضغط ؟