المشهد التركي.. لمن تكون الغلبة؟
25 رجب 1429
همة برس – خاص بالمسلم
يثير المشهد التركي اهتمام الكثيرين في العالم العربي والإسلامي، خاصة بعد نجاح حزب "العدالة والتنمية" ذي الجذور والتوجهات الإسلامية، في الوصول إلى سدة الحكم، في دولة تسعى بشدة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، هذا الحزب استطاع أن يجمع بين النقيضين، بين التوجه الإسلامي الذي يرفضه الغرب ويسعى لمحاربته التضييق عليه، وبين التواصل مع الأخر بمنتهى الحرية والديمقراطية.
ومن ثم – وكما كان متوقعًا- فقد ظهر على الساحة التركية معارضون للحزب ذي التوجه الإسلامي، يسعون جاهدين لمحاربته، ويعملوا بلا كلل وبشتى الطرق على حظره، فهل ينجح الإسلاميون في الصمود أمام هذه الهجمة؟، أم أن غلاة العلمانية سينجحون في القضاء على أحلام "العدالة والتنمية"، وإعادة تركيا لوجهها العلماني القبيح.. حول هذا الموضوع أجرى موقع "المسلم" هذا التحقيق الصحفي في محاولة لاستقراء مستقبل المشهد السياسي في تركيا.
حظر "العدالة" متوقع بنسبة 90%
في البداية؛ أكد الخبير والمحلل السياسي الدكتور إبراهيم البيومي غانم، رئيس قسم الرأي العام بالمركز القومي للبحوث الجنائية والاجتماعية بمصر: أن مسألة حظر حزب العدالة والتنمية أمر متوقع، فبنسبة كبيرة لا تقل عن 90%، ستوافق المحكمة الدستورية العليا بتركيا على حظر الحزب ذي التوجه الإسلامي وحظر ممارسة 71 من قياداته يتقدمهم رئيسه ورئيس الوزراء رجب طيب أردوغان، ورئيس الجمهورية عبد الله جول.
وقال البيومي في تصريحات خاصة لموقع "المسلم": "المشكلة ليست في حظر الحزب أو عدم حظره، ولكن المشكلة من البداية هي بين حزب العدالة والتنمية ومن يمثله، وبين الجانب الأخر وهو الحزب العلماني (حزب الشعب الجمهوري)، والمؤسسات العلمانية الداعمة للحزب الأخير، والتي لا تزال تمارس السلوك الاحتكاري، والتصرف بعقلية الاحتكار الزمني، منذ قيام مصطفى كمال أتاتورك بتحول تركيا من خلافة إسلامية، إلى دولة علمانية جمهورية"؛ مشيرًا إلى أنها "معركة كبيرة ومحتدة، بين حزب العدالة والمؤسسة الدستورية المتمثلة في المحكمة الدستورية العليا التي تنظر القضية، والتي يتوقع أن تحكم بحظر الحزب في الجلسة المقبلة".
وأضاف البيومي: أنصار حزب العدالة أنفسهم يعلمون جيدًا أن مسألة حظر الحزب باتت قريبة جدًا، ولذلك فإن كثيرًا منهم أعلن أكثر من مرة عن إنشاء حزب جديد يأخذ الشكل المعتدل، وهو تلميح لأن الحزب الجديد سيرفع صفة "الإسلامية" ليستطيع الاستمرار في ظل الحرب الضروس التي يلاقيها منذ جاء إلى السلطة في تركيا لأنهم يعلمون جيدًا أن السبب الأهم هو الخلفية الإسلامية.
وأوضح البيومي أنهم عندما يتحدثون عن حزب معتدل فإنهم يعطون انطباعًا لغلاة العلمانية بأن الأمور ستأخذ شكلاً آخر، وبالتالي سيعودون أكثر قوة، وبدون تبريرات يستند عليها العلمانيون للمطالبة بحظر حزبهم من جديد، وحينئذ ربما يعود الحزب للسلطة يومًا ما ووقتها يكون أكثر قوة ويستطيع أن يفرض أسلوبه.
ويتابع البيومي: في رأيي أن الأزمة ليست بين حزبين، هما حزب العدالة الحاكم وحزب الشعب المعارض، وإنما هي بين جيلين من السياسيين، جيل قديم يمثله الحزب العلماني الذي يحاول الحفاظ على السلطة واحتكارها، وجيل جديد يمثله حزب العدالة والتنمية، خاصة إذا علمنا أن الأخير يضم بين طياته العديد من الشباب، ولعلك تعلم أن متوسط أعمار أفراد حزب العدالة في الثلاثينات والأربعينات، أي أنهم شباب ويتمنون تغيير السياسة التركية.
وبين البيومي أن هذا الجيل من شباب العدالة لديهم رؤية جديدة، مختلفة عن الرؤية القديمة، التي يمثلها حزب الشعب الجمهوري ذو الخلفية العلمانية، وهذا الاختلاف هو لب المعركة، بين جيلين- جيل قديم علماني احتكاري ومتسلط، وجيل جديد يعبر عن طبقة جديدة وشابة من السياسيين، يتطلعون لتقديم مشروع جديد للمنطقة، وإعادة الوضع السياسي لتركيا في المنطقة، وعلى خارطة السياسة الدولية والعالمية من جديد، وبشكل مختلف بحيث تكون دولة قائدة وليست تابعة كما كانت طوال عقود العلمانية.
غلاة العلمانية والخلفية الإسلامية للعدالة
ويتفق مع الدكتور إبراهيم البيومي في رؤيته؛ الكاتب والمفكر الإسلامي فهمي هويدي، ويضيف: بالفعل فإنه من الأرجح أنه سيتم حظر حزب العدالة والتنمية الحاكم بتركيا خلال الجلسة المقبلة، التي تنظرها المحكمة الدستورية العليا قريبًا، مشيرًا إلى أن غلاة العلمانية يستندون الآن لخلفية الحزب الإسلامية، ولذلك لجأ أنصار الحزب للتفكير في حزب جديد يأخذ شعار الاعتدال ليبعد عن صفة "الإسلامية ويستطيع الاستمرار والتواجد، وبالتالي العودة مرة أخرى للحكم إذا أتيحت له الفرصة.
ويقول هويدي في تصريحات خاصة لموقع "المسلم": المشكلة تكمن في الخلفية الإسلامية لحزب العدالة، وتوجهه الإسلامي، وهو الأمر الذي جعل غلاة العلمانية في تركيا يهبون لمحاربته، متذرعين بأشياء غير موجودة، ولا أساس لها من الصحة، كمحاولة منهم للعودة إلى بساط الحكم الذي سحبه من تحت أرجلهم حزب العدالة والتنمية ذي التوجهات الإسلامية.
وبعيدًا عن الجانب السياسي؛ وفيما يخص الشارع التركي وميوله؛ يوضح هويدي أن ميول الشارع التركي الآن باتت أكثر إسلامية، ويعيش الأتراك الآن حالة من العودة إلى مبادئ الدين الإسلامي الصحيح، بعد سنوات طويلة، عجاف من العلمانية، التي لم يُرَ فيها أي مكسب، بل يتعدى الأمر للحديث عن الخلافة الإسلامية، ومحاولة عودة تركيا إلى لعب دور قوي بالمنطقة كقائد.
وها هي قد بدأت تلك الخطوات على يد حزب العدالة والتنمية الذي توسط بين سوريا وإسرائيل، كما أنه على اتصال دائم بأزمة لبنان، ومنها ينتمي الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي أكمل الدين إحسان أوغلو، إذن تركيا بدأت بالفعل خطوات العودة إلى مبادئ الدين الصحيح، ونبذ العلمانية، لكن هذا الأمر سيأخذ وقتًا، لأن هناك من لا يرضى بذلك، من غلاة العلمانية، لأن مصالحهم الشخصية باختصار شديد تتعارض مع عودة مبادئ الإسلام الصحيح.
هل تعود تركيا كقوة إقليمية ودولية؟
ويتفق مع هويدي والبيومي فيما ذهبا إليه؛ المحلل السياسي الدكتور عمار علي حسن، مدير مركز الشرق الأوسط للبحوث والدراسات، ويضيف: التجربة التركية تثيرني جدًا، فهم قد اتخذوا خطوات جيدة نحو الحرية والديمقراطية، ولكن لابد لأي نظام احتكاري، وأنا أتحدث هنا عن العلمانية، أن يوقف بعض من مبادئه التي تُحكم بها تركيا منذ عقود طويلة.
ويقول الدكتور عمار في تصريحات خاصة لموقع "المسلم": الحقيقة أن أهمية التجربة التركية تكمن في أنها وضعت منذ تأسيس الجمهورية عام ١٩٢٣ مجموعة صارمة من القواعد والقوانين، التي فرضتها بالقوة علي النخبة والمجتمع، وبدت رغم تطرفها وصرامتها أحد عوامل التطور في هذه التجربة، لأنها وضعت مقياسًا دستوريا وقانونيا موضوعيا - أيا كان الرأي فيه- يكون هو الحكم بين فرقاء الساحة السياسية، ويقبل على أساسه وجود أي تيار في المعادلة السياسية.
وهذا – حسبما يرى د. عمار- ما فرض على الإسلاميين أن يعيدوا النظر في كثير من توجهاتهم، وينحوا في اتجاه الاعتدال، الأمر الذي دفع جانبًا من النخبة العلمانية إلى مراجعة توجهاتها الاحتكارية الأولى، تجاه الإسلام والإسلاميين بل حتى المتدينين، وتصبح القواعد الديمقراطية هي الأساس الذي دفع كل تيار نحو التطور واحترام الآخر.
ويتوقع الدكتور عمار أن تتغير تركيا إلى الأفضل، خلال السنوات القليلة المقبلة، فرغم الضيق الذي يلقاه الإسلاميون وأتباعهم من المحجبات مثلاً، إلا أن هذه الأمور تأتي كمحاولة لتبيان أنها دولة علمانية، وتستحق الانضمام للاتحاد الأوروبي، ولكن مع مرور الوقت واليأس من تحقيق هذا الحلم، لن يكون أمام أي حزب حاكم حتى لو كان حزب الشعب المغالي في العلمانية إلا أن يتقبل الآخرين، وأعني هنا الإسلاميين والمحجبات لكي يتم السماح لهم بدخول الجامعات بحرية مثل الأخريات.
ويتحدث الدكتور عمار عن أزمة أخرى مغمورة، لا أحد يتحدث عنها كثيرًا، ألا وهي التخوف العلماني من أن ينحى الإسلاميون في حال تملكهم لكافة عناصر الحكم من جيش ومؤسسات سياسية وخلافه، للقضاء على أو تغيير كافة مبادئ العلمانية، مؤكدًا أن هذا لن يحدث، لأنه حتى هؤلاء الإسلاميين تربوا على تلك المبادئ التي عاشت لعقود طويلة، ولا يمكن حلها فجأة، كما أن مؤيدي العلمانية ليسوا بالشيء الذي يستهان به.
وينصح الدكتور عمار علي حسن حزب العدالة وأي حزب يتخذ التوجه الإسلامي مبدأ له أن يوصل رسالة إلى العلمانيين، مفادها أنه لا تغيير في سياسة الحكم، إلا فيما يتعلق بعودة تركيا إلى موقعها كقوة إقليمية ودولية مؤثرة، وأيضًا إعطاء الجميع حرية تنفيذ الموروثات الدينية، وقتها ستنعم تركيا، وستتحول إلى فاعل قوي بالمنطقة، وربما في العالم كله، لأنها ببساطة تحظى باحترام العديد من دول العالم، وعلى علاقات إستراتيجية معها، وتستطيع لعب الدور الحيوي بالمنطقة لو أحسنت التصرف.
وينتهي الخبير والمحلل السياسي د. عمار علي حسن إلى القول بأنه إذا ظل الأمر على ما هو عليه، واستمر غلاة العلمانية في محاربتهم للأحزاب الأخرى، على اعتبار أنها ستنهي عقودًا من العلمانية، فإن ذلك لا يعني إلا استمرار الخلافات، واستمرار تواري تركيا خلف الأنظار، بعيدًا عن التطور العالمي، وستنبئنا الأيام القليلة القادمة بما ستنتهي إليه الأحداث.