من حرب اليمن إلى جيبوتي: إرتريا نموذج الدولة المحاربة!!
13 جمادى الثانية 1429
طلعت رميح

ليس هناك من دولة في العالم شديدة الخصوصية في حركتها في المحيط أو في استراتيجيتها الإقليمية، كما هو حال دولة إرتريا، التي لا شك ،هي "النموذج الصريح" أو الحالة النموذجية أمام الباحثين في الجغرافيا السياسية، والجيواستراتيجي،في دراستهم وتطبيق كل القواعد والقوانين التي تعلموها، على حالة محددة غنية بالأحداث والدلالات التي تجعلها ..حالة دراسة نموذجية أو تطبيقية.
فإرتريا هي نموذج الدولة "الفقاعة" التي تلعب دورًا محوريًا وأساسيًا في إقليمها، دون أن تمتلك أية مقدرات استراتيجية تسمح لها بأداء هذا الدور،بما يجعلها "حالة" تتطلب الدراسة ،لتبين الأسباب التي جرت في موازنات المحيط بما غير وزنها وتأثيرها، إلى درجة حولتها من دولة تستطيع في أقصى حالات تعبئة طاقاتها وقدرتها على الدفاع عن نفسها وإقليمها وسيادتها ،إلى دولة تهاجم وتحارب دول أخرى أقوى منها وتصمد أمامها، وإلى دولة تنتقل من صراع وحرب إلى أخرى دون "كلل" ،بل إلى دولة تحاول تغيير النظم في الدول الأخرى ورسم التوازنات الاستراتيجية في الإقليم لتحقيق مصالحها.

وإرتريا هي نموذج الدولة ذات الطابع الفريد في استقلالها؛ إذ هي الاستثناء "الوحيد" من قرار الدول الإفريقية، التي أقرت "الحدود" التي حددها الاستعمار الأوروبي لدول القارة، وتوافقت على الحفاظ على الدول القائمة دون اعتراف بأية عمليات انقسام أو انفصال عنها.
كانت إرتريا، هي حالة الاختراق الوحيدة لهذا القرار الأفريقي ،بما يطرح للبحث أسباب وطبيعة هذه القوة غير التقليدية في التأثير على الموقف والقرار الأفريقي ،وإبعاد ومصادر تلك القدرة .

وإرتريا هي نموذج الدولة "الحائرة" في الانتماء؛ إذ هي لم تدخل إلى جامعة الدول العربية وهي "المطوقة" بدول الجامعة من كل حدودها إلا حدود البلد الذي انفصلت عنه كما هي لا تنتمي فعليا إلى أي تجمع إقليمي آخر ،بما يجعلها دولة بلا "غطاء" إقليمي، بل هي دولة يطوقها تحالف إقليمي، تجمع خصيصًا لمحاصرتها، يضم اليمن والسودان وإثيوبيا؛ فكيف وهى على هذا الحال "الإنفرادي" ،تتمكن من خوض كل النزاعات والصراعات والحروب .
وهل يمكن القول من جانب آخر أن تلك الحالة "الانفرادية" هي ما تجعلها في حالة حركة وحروب دائمة أو في حالة الدولة "المحاربة" ؟وهي كذلك الدولة التي خرجت للوجود "بتسليح إسرائيلي ودعم غربي"، لكنها في المرحلة الأخيرة، باتت تهاجم الولايات المتحدة.فعلى أي سند دولي تعتمد ..الخ .
هي حالة نموذجية إذن .

إرتريا: صراعات وحروب
منذ "نشأت" إرتريا بقيادة "أسياس أفورقي"، وهي نموذج للدولة المحاربة دومًا. خاضت إرتريا صراعًا مسلحًا مع اليمن حول جزر "حنيش"، حين بادرت باحتلال تلك الجزر اليمنية. جرت تطورات عسكرية وسياسية انتهت إرتريا خلالها إلى القبول بالتحكيم الدولي حول الجزر. وفي هذا الصراع جرى النظر للتحرك والعدوان الأريتري ضد اليمن، باعتباره ناتجًا عن تحالف أريتري صهيوني، ليس فقط كامتداد للدور التسليحي الصهيوني للقيادة الأريترية خلال "صراع الاستقلال"، ولكن لحساسية البقعة التي قامت إرتريا باحتلالها على صعيد الصراع الصهيوني – الإسلامي حول فلسطين؛ إذ كانت منطقة باب المندب، هي نقطة الخنق الاستراتيجية للكيان الصهيوني خلال حرب عام 1973 ، حين جرى إغلاقها بالتفاهم بين مصر واليمن.ولذا نظر للمعركة حول الجزر ،باعتبارها إنفاذ لخطط استراتيجية ارترية –صهيونية ،مشتركة .
وإرتريا في ذات الوقت كانت متدخلة في الصراع الداخلي الجاري في السودان، بل كانت ذات دور محوري في مساندة المعارضة المسلحة للحكم في السودان، التي فتحت جبهة صراع حربي في شرق هذا البلد، ضد جيش الدولة، انطلاقًا من الحدود الإرترية.

كما هي وفرت مقرًا دائمًا للمعارضة المسلحة على أرضها،وذلك في وقت كان الأخطر في التأثير على مسار الصراع وتطوره بل ومصيره .
كان الدور الإرتري خطيرًا في تلك المرحلة لجوانب عديدة، أهمها، أن القوات السودانية كانت نجحت في دحر التمرد في الجنوب إلا من بعض القرى؛ بما جعل فتح جبهة في الشرق بمثابة إحياء للتمرد، كما كانت الحكومة السودانية قد انتهزت فرصة الاضطراب الحادث في إثيوبيا – ما بعد التغييرات السياسية التي جرت هناك – وتمكنت في تحسين العلاقات السودانية الإثيوبية، بما أثر بشكل واضح على الدعم الإثيوبي للمتمردين، فجاءت إرتريا لتوفر هذا الدعم السياسي ولتوفر نقطة انطلاق جديدة للأعمال العسكرية ،هي نقطة انطلاق استراتيجية وخطيرة بحكم ما تضيفه لقوات التمرد من فتح جبهة تمتد من الجنوب إلى الشرق في مواجهة الجيش السوداني. وكان الأخطر، في فتح تلك الجبهة أيضا ،أن البترول السوداني الذي كانت الحكومة السودانية قد نجحت في استخراجه وتصديره، إنما كان يصدر عبر ميناء بورسودان، الذي بات الطريق إليه واقعًا في مجال الهجمات المسلحة للمتردين من تلك النقطة -المدعومة إرتريا-خاصة بعدما تمكنت قوات التمرد من السيطرة على منطقة همشكوريب الحدودية.
ووقتها كان التفسير للسلوك الإرتري، هو أن "أسياس أفورقي" قد عاد بالتاريخ إلى زمن الحكم "الاستعماري"، حين جرت محاولات لاقتطاع جزء من السودان وضمه إلى إرتريا، باعتبار إرتريا بلا أرض زراعية واسعة صالحة للزراعة، وبلا مصادر مياه، وهو ما يمكن أن يتوفر لها باقتطاع أجزاء من السودان وضمها إليها،في منطقة الشرق ميلا باتجاه النيل الزرق زمنطقة سد الدمازين بالغة الحيوية والأهمية للسودان على صعيد الطاقة والأرض والمياه.
وفي ظل تلك الأوضاع دخلت إرتريا في حرب مدمرة مع الدولة التي انفصلت عنها (إثيوبيا)، ذكرت كثير من المصادر أن عدد القتلى فيها قد تخطى نحو 100 ألف من الطرفين.

كانت الحرب في ظاهر أسبابها، صراعًا حول ترسيم الحدود، وهي كانت كذلك في جانب منها، لكنها كانت حربًا ذات أبعاد استراتيجية أعمق. لقد استهدفت إثيوبيا من تلك الحرب توجيه ضربة إجهاضية للقوة والقدرة الإرترية، كما هي استهدفت إحداث تغيير في نظام الحكم في إرتريا، بما يحول إرتريا "المستقلة" إلى دولة تابعة لإثيوبيا ودولة ممر لصادرات وواردات إثيوبيا، التي كان الأخطر في استقلال إرتريا عنها، هو فقد تواصلها مع البحر، وتحولها إلى دولة محاصرة ذات جغرافيا برية.

وفي المقابل، حاولت إرتريا من خلال تلك الحرب تأكيد استقلالها، والحصول على حالة استقرار حدودي، كما رأت بعض التقديرات في السلوك الإرتري محاولة للحصول على بعض الأراضي من جارتها؛ إذ هي اعتبرت أن الاستقلال انتزع منها أراضي وطنية.
وهكذا كانت إرتريا طرف في حربين مباشرين، وفي صراع مع دولة جارة هي السودان، إلى أن جرت أحداث احتلال إثيوبيا للأراضي الصومالية، فتحولت إرتريا للتركيز الشامل على هذا الصراع الذي جاء في إطاره عملية التحرش الحدودي بجيبوتى، وكذا هي حاولت إضعاف القدرة الأثيوبية في الإقليم .

إثيوبيا: العدو الاستراتيجي
في متابعة تطور الاستراتيجية الإرترية، والسلوك السياسي لقيادتها، خلال المرحلة الأخيرة، نجد أنها باتت تركز على الصراع مع إثيوبيا، واعتبارها مصدر التهديد لأمنها الوطني؛ بما جعلها تغير من نمط علاقاتها مع دول الإقليم الأخرى،وتنتقل في بعض الأحوال من الضد إلى الضد.
انتهى الصراع مع اليمن بالتحكيم الدولي-بما أوقف تفاعلات الصراع بين البلدين- غير أن الأهم هو أن إرتريا قد غيرت سياستها تجاه السودان على نحو "عجيب"، إذ تحولت من الضد إلى الضد تمامًا!

فإرتريا لم تتوقف فقط عن مساندة تمرد الجنوب، ولم تغلق فقط مقار التمرد والمعارضة، ولم تعد تسمح لها بأي وجود سياسي أو عسكري، وإنما هي باتت تلعب دورًا بارزًا في الحفاظ على وحدة واستقرار السودان ونظام حكمه ،بمساهمتها في إخماد التمرد "الجديد" في شرق السودان، الذي اعتمد هذه المرة صيغة الاختلاف القبلي والجوي من خلال مؤتمر البجا، وظلت تتابع الأمر حتى توصلت الحكومة السودانية إلى اتفاق مع قيادات التمرد.

كما لعبت إرتريا دورًا داعمًا للحكم في السودان في مواجهة حركة التمرد في دارفور، وفي الصراع السوداني التشادي حيث كان رئيس النظام الأريتري "ضيفًا" على كل الحوارات والمناقشات والاتفاقات،ومساهما فيها ،رغم أنها على الطرف الآخر -جغرافيا -من حدود السودان مع إرتريا.

وبانتهاء الصراع مع اليمن وبتحسين العلاقات مع السودان، تمكنت إرتريا من إضعاف تجمع صنعاء، الذي ضم اليمن والسودان وإثيوبيا، في مواجهة إرتريا. كانت التحركات الايجابية تجاه اليمن والسودان،هو ما أظهر تحول إرتريا للتركيز على الصراع مع إثيوبيا، لكن ما أظهر ذلك بشكل أشد قطعًا هو ما جرى من دور إرتري في الصراع الجاري في الصومال، وكذا الأمر بالنسبة للضغط الإرتري على جيبوتي إلى درجة الاشتباكات المسلحة.

لقد وجدت إرتريا في دخول القوات الإثيوبية للصومال واحتلاله، تطورًا خطيرًا في الدور الاستراتيجي لإثيوبيا في الإقليم، واعتبرت أن نجاح إثيوبيا في احتلال الصومال تطويرًا للقدرات الإثيوبية في إدارة الإقليم وتحديد معالمه السياسية والجغرافية والاستراتيجية، وإجهاضًا لمحاولات إرتريا "حصار" النظام الأثيوبي، كما هي وجدت في "التورط" الإثيوبي فرصتها الاستراتيجية لإنهاك إثيوبيا وإضعافها استراتيجيًا.

كانت إرتريا قد وجدت من مصلحتها دعم حركة المقاومة الصومالية – مع محاولة السيطرة على قرارها – سياسيا وعسكريا لإحداث أوسع حركة استنزاف للقوة والقدرة الأثيوبية، امتدادًا لقرار سابق بإضعاف القوى المرتبطة بإثيوبيا على الأرض الصومالية.

وتطورت الأمور على الأرض الصومالية باتجاه إفشال المشروع الأثيوبي، حيث لم تتعرض القوات المحتلة لعمليات إنهاك فقط، بل أن إثيوبيا تعرضت إلى هزيمة حقيقية، حيث تمكنت المقاومة الصومالية من توسيع دوائر المساندين والمؤيدين لها، على حساب الحكومة العميلة لإثيوبيا، عبر انشقاقات في القوى التي دخلت اللعبة مع الاحتلال، ومن خلال اجتذاب قطاعات واسعة من القوى الرافضة للاحتلال من خارج دائرة المحاكم الإسلامية.

كما المقاومة تمكنت من توسيع عملياتها لتشمل إقليم الأوجادين الصومالي المحتل "قديمًا" من قِبل إثيوبيا، بما شتت قوة التركيز الإثيوبية ومكن المقاومة من الوصول إلى حد الاستيلاء على القرى والبلدات و بعض المدن الصومالية ثم الانسحاب منها، مع استمرار عملياتها في العاصمة، بل هي مدت نطاق عملياتها إلى بيدوا التي كانت آخر معقل للحكومة التي تعاونت مع قوات الاحتلال الأثيوبية، والتي جرى الاحتلال قبل أن تتمكن قوات المحاكم من الوصول إليها.

جيبوتي.. وإثيوبيا
كانت جيبوتي قدمت بديلاً استراتيجيًا لعزلة إثيوبيا – ما بعد "استقلال إرتريا" – عن البحر الأحمر؛ إذ صارت إثيوبيا تستورد وتصدر عبر جيبوتي. كما دخلت جيبوتي في تحالف فعلي مع إثيوبيا بحكم مصالحها كبوابة وممر، ومن خلال وجود القواعد العسكرية الأمريكية على أرضها – التي تستخدم فعليًا في الهجمات على المقاومة الصومالية – إلى جانب القواعد العسكرية الفرنسية.
لكن الأخطر جرى حين بدأت جيبوتي تلعب دورًا في حل أزمة ومآزق قوات الاحتلال الإثيوبية في الصومال، من خلال المفاوضات التي جرت على أرضها – تحت إشراف الأمم المتحدة – بين قيادات من تحالف إعادة تحرير الصومال والحكومة المتعاونة مع الاحتلال الإثيوبي.

وإذا كان سبق تلك المفاوضات أن هاجم شيخ شريف (أحد قيادات المحاكم) الدور الإرتري، فإن ما نتج عن المفاوضات من اتفاق على وقف الأعمال العدائية لمدة ثلاثين يومًا، وتطوير الاتفاق خلال الثلاثة أشهر التالية باتجاه حضور "قوات دولية" وبدء انسحاب القوات الإثيوبية، قد أشعر إرتريا بالخطر؛ إذ نظرت لإفلات عدوها الاستراتيجي من الصومال-حتى مع هزيمته الظاهرة العسكرية- خوفا من أن تتحول إثيوبيا نحو التركيز على إرتريا وحدها في الصراع داخل الإقليم ،بسبب استمرار التوتر والصراع والمشكلة الحدودية بين البلدين.

تحركت إرتريا باتجاه جيبوتي عسكريًا، لتحقيق جملة من الأهداف، أولها إشاعة التوتر في الإقليم على نطاق واسع، وثانيها، للتأثير على الدور الإرتري في الصومال، وعلى دورها كممر استراتيجي لإثيوبيا، ووضعها في مواجهة خيارات صعبة، خاصة وأن سكان هذا البلد، لا يتعدون نحو 700 ألف مواطن.

الدور الحائر
تبدو القضية الأولى، هي أن ما وفر لإرتريا المحدودة القدرات والإمكانيات، أن تمارس كل هذا الدور الإقليمي، هو أن القوى الإقليمية الكبرى في الإقليم تعاني من حالة ضعف، خاصة إثيوبيا والسودان والصومال،بما فتح "المجال الحيوي" أمام حركة إرتريا وهى الدولة الأضعف .

غير أن ذات أوضاع الضعف في القدرات خاصة الاقتصادية، بحكم شح الموارد وقلة الأرض الزراعية – مع التمرس في الأعمال الحربية خلال حرب الانفصال – إضافة إلى "طبيعة حكم الأقلية" المتحكمة في أهل إرتريا، يمثل الدوافع الداخلية لهذه التحركات والحروب والصراعات.
وكذا يمكن القول، بأن عدم انتماء إرتريا إلى منظمة أو تجمع من بين الدول الإقليمية، بما يجعلها دولة تواجه دولاً ذات انتماءات وامتدادات، هو أحد دوافعها للقلق الاستراتيجي، خاصة وأنها الدولة الأضعف ضمن محيطها الذي يضم السودان وإثيوبيا، إضافة إلى أن الصومال يملك إمكانيات وقدرات تفوق إرتريا، حال وقوفه على أقدامه.

هي دولة لا تعيش إلا وفق وضع إقليمي متبعثر؛ ولذا رأيناها تغير من مواقفها وتحالفاتها، بعد انعقاد تجمع صنعاء (اليمن – الصومال – إثيوبيا) وقد نجحت بالفعل في تغييب ضرورة بقائه ونشاطه بتحركاتها، كما هي دولة تبحث عن وجود في الإقليم ولذا هي تنتقل من صراع إلى آخر ، وفي الأغلب يشعر نظامها أنه لا استقرار له إلا بإشغال المجتمع بحالات صراع خارجية.