من بوابة سوريا: عاد الهجوم على كوريا
5 جمادى الثانية 1429
طلعت رميح

مؤخرًا، عادت القضية النووية الكورية الشمالية تطل برأسها من جديد. كانت المناسبة شائكة في هذه المرة أيضًا؛ إذ جرت العودة أمريكيًا إلى طرح قضية الملف النووي الكوري من بوابة سوريا، أو بالدقة عبر التحول الذي أجراه الرئيس الأمريكي على قضية القصف الصهيوني لأحد المواقع في "دير الزور" السورية. في البداية قامت الإدارة الأمريكية بإبلاغ الكونجرس بمعلومات ولقطات فيديو للقصف الصهيوني، بما أشعل هجمة إعلامية ضد سوريا – بتهمة بناء مفاعل نووي سري قادر على إنتاج قنابل نووية حسب الزعم الأمريكي – لكن الرئيس "بوش" عاد ليغير الاتجاه في تصريحات تلت تلك الضجة، حين قال أن ما كشف النقاب عنه، يمثل رسالة إلى كوريا الشمالية، وهو ما تناغم مع معلومات أذيعت من كوريا الجنوبية في ذات التوقيت، ذكرت أن أفرادا كوريين شماليين قد لقوا مصرعهم في القصف "الإسرائيلي"، لما يعتقد أنه مفاعل نووي شيدته كوريا الشمالية في سوريا.
عادت قضية السلاح النووي الكوري والدور الكوري في تطوير القدرات العسكرية لدول أخرى – تصدير التكنولوجيا العسكرية – وفق لهجة أمريكية جديدة تختلف عن ما ساد منذ الإعلان عن اتفاق أمريكي كوري شمالي على نزع الأسلحة النووية الكورية وإغلاق المفاعلات النووية العسكرية، مقابل حزمة من الحوافز السياسية والاقتصادية تقدمها اليابان وكوريا الجنوبية والولايات المتحدة، وهو الاتفاق الذي تطور إلى حالة أقرب إلى تطبيع العلاقات بين أمريكا وكوريا الشمالية، وسط تصريحات أمريكية بقرب إغلاق المفاعلات ونهاية الأزمة.
وفي عودة الملف إلى حالة الاتهامات، يعود السؤال المتجدد دومًا بدوره، لِم صمدت كوريا الشمالية منذ الخمسينات وحتى اليوم في مواجهة الضغوط والحصار الأمريكي، ولِم نجحت فيما فشل فيه آخرون، وما هي الدروس التي يمكن لكل الواقعين تحت الضغط والحصار الأمريكي الاستفادة منها، وهل ستنزع كوريا سلاحها النووي، أم أن ذلك أمر لن يحدث أبدًا؟، وإذ كان الأمر كذلك، فلم تعقد كوريا اتفاقات على نزعه؟.

كوريا.. القصة:

بدأت قصة الصراع الأمريكي مع كوريا الشمالية، في عام 1950 ، حيث جرى عدوان أمريكي على هذا البلد، في أعقاب نهاية الحرب العالمية الثانية.
كان العدوان الأمريكي على كوريا استكمالاً للحرب العالمية الثانية ونتائجها، رغم أن مجريات الصراع بدأت بعد نهاية الحرب العالمية بعدة سنوات. ويعود اعتبار العدوان على كوريا امتدادًا للحرب العالمية الثانية؛ لأن الولايات المتحدة حاولت من خلال هذا العدوان، مد نتائج قصفها لليابان بالقنابل النووية – وما نتج عنه من استسلام لليابان – إلى الاستيلاء على المستعمرات اليابانية أو على الأماكن التي كانت سيطرت عليها القوات اليابانية (سيطرت اليابان على شبه الجزيرة الكورية، وضمتها رسميًا لها في عام 1910). كما يعود اعتبار العدوان على كوريا الشمالية أحد حالات استكمال نتائج الحرب العالمية الثانية؛ باعتباره جاء مرتبطًا بالصراع والحرب مع الاتحاد السوفيتي المنتصر الآخر في تلك الحرب، ومع الصين التي تحولت خلال الحرب من دولة إقطاعية إلى دولة يسيطر عليها الحزب الشيوعي الصيني، في زمن الصراع بين الرأسمالية والشيوعية.
لقد دخلت الولايات المتحدة تلك الحرب أو شنت هذا العدوان، ارتباطًا بحالة الزخم الذي أحدثه انفراد الولايات المتحدة بامتلاك القنبلة النووية. كان الامتلاك المتفرد للقوة النووية أحد الدوافع للشعور بالتفوق الأمريكي والإقدام على تلك الحرب، كما عاد الدافع الثاني إلى حدوث تغيير استراتيجي في التحرك الأمريكي في آسيا؛ إذ أظهرت تلك العملية العدوانية على كوريا، أن الولايات المتحدة خرجت من تصور أن أوروبا هي خط الهجوم الاستراتيجي الأول في مواجهة الشيوعية، فكان العدوان إعلانًا بالتغلغل للنفوذ والدور العدواني الأمريكي في آسيا أيضًا.
لقد بدأت الحرب بمحاولة توحيد كوريا من قبل الشمال باتجاه الجنوب، تحت شعار حرب تحرير الأرض ومواجهة عملية التقسيم التي رأتها كوريا الشمالية ناتجة عن التدخل الأجنبي خاصة الأمريكي، لتقسيم شعب موحد يعيش مستقرًا في كيان موحد لنحو 2000 سنة من قبل. واستمرت الحرب على مدى 37 شهرًا بين عامي 1950 و 1953 .
بدأت الحرب بصراع بين الكوريتين، أو بالدقة، بهجوم من كوريا الشمالية على الجنوبية (وفق التسميات الراهنة) ودخلت الولايات المتحدة إلى صف كوريا الجنوبية (التي لم تكن دولة مستقلة في ذات الوقت)، ثم تحولت الحرب إلى صراع بين كتلتين عالميتين: كتلة تتشكل من الاتحاد السوفيتي والصين وكوريا الشمالية، وأخرى من الولايات المتحدة ومعها تحالف مكون من 16 دولة إضافة إلى كوريا الجنوبية.
في بداية الحرب تفوقت قوات كوريا الشمالية وحققت هدف التوحيد، فجرى التدخل الأمريكي ضد كوريا الشمالية بقوة طاغية، فانسحبت من كوريا الجنوبية وصارت تطاردها قوات الغزو الأمريكي والغربي، التي تمكنت من دخول عاصمة الشمال، ولتتحرك للسيطرة التامة عليها.
وهنا جرى التدخل الصيني الذي قلب الموازين، حيث أجبرت القوات الأمريكية والغربية على الانسحاب إلى كوريا الجنوبية، لينتهي الأمر إلى توقيع اتفاقية وقف إطلاق النار في عام 1953.
الخلفيات:

كانت كوريا قد قسمت بعد الحرب العالمية الثانية بعد استسلام اليابان، على أساس الأمر الواقع لعوامل القوة على الأرض في ختام الحرب، قسم شمالي وآخر جنوبي، ففي أغسطس 1945 وفور استسلام اليابان، قام جنرال أمريكي برسم الخط الفاصل بين القوات الروسية من جهة، والأمريكية من جهة أخرى، ووفقًا للاتفاق قامت القوات اليابانية بالاستسلام للقوات الأمريكية في الجنوب وللقوات الروسية في الشمال، واتفق الروس والأمريكان على تشكيل لجنة مشتركة لإدارة البلاد، لمدة 4 سنوات، تصبح بعدها كوريا مستقلة تقرر شأنها بيد شعبها، على أن تقوم القوة المحتلة في كل قسم بترك إدارة الجزء المحتل لأهل كوريا.
لكن كلاً من القوات الأمريكية والروسية عملت على قيام وترسيخ وجود حكومة تتفق مع أيديولوجيتها في القسم الخاضع لها، قام بذلك الأمريكيين كما قام به الروس، فجرت سلاسل من التمردات وأعمال المقاومة، كان أهمها الاضطرابات التي جرت ضد الوجود الأمريكي في كوريا الجنوبية، إذ وصل عدد الذين قتلوا على يد قوات الاحتلال الأمريكي خلال سنة ونصف نحو 100 ألف كوري من الجنوب.
هنا وجدت قوات كوريا الشمالية الفرصة مواتية لبدء حرب توحيد الأرض والشعب، لتبدأ في 25 يونيو 1950 هجومًا شاملاً من الشمال باتجاه الجنوب، لم يستغرق سوى ثلاثة أيام فقط، كانت كافية لدخول قوات كوريا الشمالية عاصمة الجنوب سيول، فكان التدخل والعدوان الأمريكي تحت غطاء دولي.
بدأت الغارات الأمريكية بتدمير الجسور والمنشآت ومحطات القطارات، ومعامل تكرير البترول والموانئ، وترافق ذلك مع حرب تجويع على الشمال. وكان كل ذلك يجري من القواعد الأمريكية في اليابان، وبعد النزول على الأرض وصل عدد القوات الأمريكية والحلفاء إلى 180 ألف جندي.
انتهى الأمر إلى غزو كوريا الجنوبية، لكن قوات الغزو واصلت عدوانها باتجاه آخر معاقل جيش كوريا الشمالية، تحت شعارات ومطالبات أمريكية بامتداد الحرب اتجاه الصين، وهنا بدأ التحذير الصيني من العدوان، إلا أن المخابرات الأمريكية أبلغت الرئيس الأمريكي "ترومان" – صاحب قرار القصف النووي لليابان – بعدم إمكانية تدخل الصين في الحرب، وأن الفرصة مواتية أمام الولايات المتحدة للسيطرة على كوريا تمامًا، فعبرت القوات الأمريكية خط عرض 28 ، فكان أن أعلن الزعيم الصيني ماوتسي تونغ تكوين جيش الشعب التطوعي وأمرهم بالتحرك، لتبدأ حرب من نمط آخر مختلف.
وانتهت الحرب إلى إعادة تقسيم كوريا، وبتدمير كوريا كليًا، وبمقتل مليون مدني، وتشرد نحو 4 ملايين كوري، وفقدت الولايات المتحدة 33 ألف قتيل، و54 ألف جريح، وفقدت الصين 900 ألف قتيل وجريح، وكوريا الشمالية نحو 520 ألف قتيل وجريح، لنكون أمام مليون قتيل.
وكان هذا الأساس الذي جعل كوريا الشمالية دومًا في حالة استعداد لمواجهة عدوان أمريكي، إلى أن وصلت إلى التفجير النووي، حيث تنفق 30 سنت من كل دولار على حماية أمنها القومي.
فكيف طورت كوريا من أوضاعها؟، وكيف حافظت على قدرة متطورة في مواجهة الولايات المتحدة؟.
عودة الصراع

ومنذ هذا التاريخ، والولايات المتحدة لا تعترف رسميًا بالحكم في كويا الشمالية، وتحاصرها؛ بما جعل الصراع حالة متجددة دومًا، خاصة بعد التقديرات الأمريكية بخطورة الدور الكوري في إنتاج وتصدير التكنولوجيا العسكرية، ومد كل اعداء الولايات المتحدة بها.
اتهمت كويا بإمداد العراق وسوريا ودول عربية أخرى، ثم إيران، بتكنولوجيا إنتاج الصواريخ بعيدة المدى، خاصة صواريخ سكود، التي هي ذات الصواريخ التي قصف العراق بها، الكيان الصهيوني خلال عدوان عام 1991 .
كما اهتمت كوريا بتطوير القدرات النووية للدول الأخرى، بتشييد مفاعلات نووية قادرة على إنتاج القنابل النووية.
وجرت مفاوضات عبر مراحل متعددة، كان أهمها المفاوضات التي جرت خلال عهد الرئيس الأمريكي "جيمي كارتر"، والتي انتهت إلى توقيع اتفاق أمريكي كوري شيمالي، بوضع المفاعلات النووية الكورية تحت إشراف هيئة الطاقة النووية، ومنع تصدير السلاح المتطور للدول الأخرى، مقابل "اعتراف" أمريكي بنظام الحكم هناك، وحزمة من الحوافز الاقتصادية وعلى صعيد إمدادات الطاقة، وهو ما أتاح الفرصة لبدء مفاوضات بين الكوريتين وتطبيع العلاقات بينهما، على المستويات السياسية والاقتصادية، لكن مجيء الرئيس الأمريكي "جورج بوش"، ووضع كوريا على لائحة دول محور الشر، أعاد القضية إلى نقطة الصفر.
وقد انتهزت كوريا الشمالية، فرصة الانشغال الأمريكي بالحرب على أفغانستان والتحضيرات لشن العدوان على العراق، لتعلن من طراف واحد إنهاء الاتفاق (ديسمبر 2002) وطرد خبراء هيئة الطاقة النووية، لتبدأ حالة صراع أخرى بين الطرفين، خاصة بعدما عادت كوريا لتجربة الصواريخ متوسطة المدى فوق بحر اليابان، ثم إعلانها امتلاك القنبلة النووية.
عادت الأوضاع إلى سيرتها الأولى، وتدخلت الصين لدى كوريا الشمالية والولايات المتحدة، لبدء ما سُمي بالمفاوضات السداسية، التي تضم إلى جانب كوريا الشمالية والولايات المتحدة، الصين واليابان وكوريا الجنوبية، وانتهى الأمر إلى عقد اتفاقات جديدة، تكشف بمقتضاها كوريا الشمالية عن أبعاد مجمعها الصناعي العسكري – خاصة النووي منه – وأن توقف تطوير الصواريح (خاصة وقد أعلنت امتلاك صواريخ قادرة على الوصول إلى السواحل الامريكية)، وتصور العالم أن الأمور انتهت.
غير أن دورة الأحداث عادت من جديد إلى حالة الصراع؛ إذ لم تقم كوريا بإنفاذ ما تعهدت به الولايات المتحدة وكويا بعدم إنفاذ الاتفاقات، وكان الإعلان الأمريكي حول قصف ما سمته مفاعل نووي شيدته كوريا في سوريا (دير الزور)، أحد أشكال العودة إلى حالة الصراع.
لكن المهم هو: لِم تتمسك كوريا بأسلحتها، وكيف صمدت طوال تلك المرحلة؟وكيف من الاصل طورت دفاعها عن نفسها وهى تحت كل هذا الضغط الامريكى ؟، وما هي الدروس التي تفيدنا دراسة تلك التجربة؟.