هل يتجه السودان إلى المجهول بعد عملية "أم درمان"؟
16 جمادى الأول 1429
جمال عرفة

وفقاً للمعلومات المتوافرة حتى الآن عن حجم ونتائج محاولة الانقلاب التي سعت لها حركة العدل والمساواة الدارفورية سقط قرابة 500 قتيل ، 400 منهم من المتمردين و100 من القوات الحكومية ، كما تم أسر 300 من قوات المتمردين وتدمير 30 عربه والاستيلاء على 23 أخرى .
ولو قورنت هذه الحصيلة - المعلنة بشكل غير رسمي عبر مصادر حكومية مختلفة - مع ما أعلن في بداية التمرد والهجوم على دارفور من أن الهجوم ضعيف وأن عدد السيارات المهاجمة التي وصلت من شمال كردفان (300كم عن العاصمة) كان قرابة 50-100 سيارة من أصل 300 سيارة خرجت أصلا من دارفور للهجوم ، لأشار هذا إلي أن الهجوم لم يكن انتحاريا أو فرقعة إعلامية كما قيل في البداية .
بل أن مشاركة قياديين من حركة العدل والمساواة في الهجوم وإعلان الخرطوم مقتل اثنين منهم أبرزهم مساعد رئيس الحركة ومسئول استخباراتها ، بل وإعلان قائد الحركة الدكتور خليل إبراهيم وجوده في الخرطوم غرب أم درمان في الوقت الذي أعلنت فيه الحكومة إنهاء التمرد ، ثم إعلان خروجه منها .. كلها مؤشرات تنبئ بأن الهدف لم يكن هجوما عشوائيا غير مخطط ، وإنما هو هجوم مخطط بدقة غرضه أكبر من حجم التمرد وهو الانقلاب في الخرطوم وعزل حكومة البشير بالقوة المسجلة من خارج الخرطوم لأول مرة في التاريخ السوداني بعدما كانت الانقلابات تنبع من الداخل ومن الجيش نفسه .
ووفقا لهذه المعلومات الجديدة فمن الطبيعي أن ينظر للحكومة وتداعياته المستقبلية على السودان من هذه الزاوية .. نعم هناك مساعدات من دول خارجية لا يمكن إنكارها أو على الأقل هناك تعاطف منها خصوصا تشاد ومن وراءها الدول الأوروبية (فرنسا وبريطانيا) وأمريكا ، ولكن أحد العوامل الأهم التي سعي المتمردون للتعويل عليها لنجاح انقلابهم كانت توقع قيام تعاطف شعبي داخلي معهم وتحول الثورة المسلحة لثورة شعبية على غرار ما جري في انقلابات سابقة من تأييد شعبي وفر لها أرضية الفوز ، وهو ما توهمه زعيم العدل والمساواة ولم يحدث ، بل وحدث عكسه بالتفاف غالبية القوي السياسية بما فيها حركة التمرد الجنوبية حوله !
الأوضاع الداخلية

وخطورة هذا الهجوم الأخير أنه كشف خرقا أمنيا غير عادي في تأمين العاصمة ، ولفت أنظار خصوم الخرطوم من حركات التمرد الأخرى لفكرة نقل الخلاف في أقاليمهم في الغرب أو الجنوب للخرطوم مباشرة وتوسيع الصراع كنوع من الضغط المباشر على الحكم ، وهو ما ظهر في إعلان فصيل متمرد أخر هو "حركة تحرير السودان نيتها السير على خطي ما فعلته حركة العدل والمساواة .
والأكثر منه خطورة أن هذا الهجوم الذي هز حكومة الخرطوم التي تنعم باستقرار منذ 18 عاما ، ربما ينعكس على تحول آلة الصراع من الصراع السياسي مع فصائل أخري لصراع عسكري .. من ذلك مثلا تطور الخلافات في منطقة أبيي التي تعد نقطة الحدود بين شمال وجنوب السودان والمتنازع عليها بين الخرطوم والحركة الشعبية الجنوبية شهدت تصعيدا عسكريا ليس بين القبائل العربية (المسيرية) والجنوبية (دينكا نوق) ، وإنما تعداه لصدام بين قوات من الجيش السوداني وقوات من حركة التمرد .
وهو تطور غير مرغوب لأن نزع الانفصال الجنوبية لا تزال ساخنة رغم التصريحات المتفائلة ، وموعد الحسم (الاستفتاء على الاستقلال أو البقاء داخل السودان الموحد) حان في 2011 أي بعد ثلاثة أعوام فقط ، كما أن دخول الخرطوم في مواجهات عسكرية مع حركات التمرد في الغرب (دارفور) قد يغري الجنوبيين بتنفيذ مشروعهم الانفصالي أو يشجعهم عليه .
أيضا من تداعيات هجوم أم درمان انه قد يعرقل الاستثمار الذي بدأ لتوه من جانب الحكومات العربية للزراعة في السودان ففي الوقت الذي أعلنت فيه الخرطوم بدء تدفق الاستثمارات العربية لزراعة القمح بغرض تحويل السودان لسلة غذاء عربية حدث الهجوم على الخرطوم من قبل متمردي دارفور المدعومين من حكومة الرئيس التشادي ديبي المتفقة معهم قبليا (قبيلة الزغاوة) وربما دول غربية .
فوفود من السعودية ومصر والإمارات وقطر والكويت كانت تتقاطر على الخرطوم وتعقد اتفاقيات لزراعة ملايين الأفدنة من القمح والحبوب للتغلب على شهر الغرب سلاح الغذاء في وجه العرب وتحويله القمح والذرة لغاز الميثانول كوقود جديد بدل النفط في الوقت الذي جاء فيه الهجوم الأخير .
والهجوم الذي نفذه قرابة 3000 من متمردي دارفور بقرابة 300 عربة لاندكروز مسلحة بمدافع مضادة للطائرات ومدافع رشاشة ثقيلة ، والذي تورطت فيه تشاد بلا شك قد تكون له تداعيات اكبر على الداخل السوداني والصراع بين الفرقاء السودانيين في الداخل .. ففي الوقت الذي كانت تجري فيه محادثات لراب الصدع بين القطبين الإسلاميين البشير والترابي وتحقيق مصالحة كبيرة بينهما وبين الخرطوم وباقي القوي الشمالية بغرض حشد أصحاب الهوية الإسلامية العربية ضد أنصار الهوية الأفريقية العلمانية للسودان التي يقف وراءها جنوبيين وعلمانيين ، جاء اعتقال الدكتور الترابي واتهام الخرطوم لطابور خامس في الداخل قيل أنه سهل الهجوم على أم درمان .
ومع أن هناك قناعة أن الهجوم على أم درمان يقف وراءه بالفعل مساندين محليين ولو من أبناء دارفور أنفسهم المقيمين في الخرطوم أو المتعاطفين معهم ، فقد تمنى كثيرون ألا يؤثر هذا على تأجيج الخلافات بين الشماليين خصوصا مع اقتراب انتخابات 2009 .
ومع هذا فلا ينبغي إغفال أن هناك مخطط استعماري قديم خاص بتفتيت السودان وهدم استقراره ومن ضرب خطط الزراعة التي تسعي الحكومة لها مستفيدة من الظروف الدولية وارتفاع أسعار الغذاء التي دفعت دول خليجية وأخرى أسيوية للتدفق على السودان وتكثيف استثماراتها في مجال إنتاج الغذاء والزراعة .. أي أن الهدف هو منع تحقق هدف العرب والمسلمين المتعلق بتحويل السودان لسلة غذاء عربية وإسلامية تكفي العرب وتفيض ما سينزع عن الغرب سلاح طالما رفعوه وهددوا به منذ استخدام العرب سلاح النفط في مواجهتهم عام 1973 .
وقد كشف على كرتي وزير الدولة بوزارة الخارجية السودانية على هامش زيارته الأخيرة للقاهرة لحضور اجتماع وزراء الخارجية العرب ضلوع منظمات يهودية في محاولة الانقلاب الفاشلة التي شنها متمردون من حركة العدل والمساواة سعيا للسيطرة على الحكم بالقوة المسلحة" ، وأكد في الوقت ذاته تورط "جهات سياسية" في الداخل السوداني في هذه المحاولة سعيا منها لعرقلة الانتخابات المقبل عام 2009 .
وقال في شرحه للتورط اليهودي : "إسرائيل لم تتورط بشكل مباشر في محاولة الانقلاب الأخيرة لكن منظمات يهودية تبلغ نحو 150 منظمة في الغرب ولها فرع في إسرائيل تجمع أموال طائلة من أجل دعم حركات التمرد بشكل عام والعدل والمساواة تحديدا .
وذكر أن "المنظمات اليهودية الموجود في الغرب ويتواجد ممثليها في إسرائيل تعمل ليل نهار على مساعدة حركات التمرد من جهة ، والضغط أيضا داخل الكونجرس لتأليبه وإصدار قرارات ضد الحكومة السودانية ، وأن هذه المنظمات تساندها جهات داخلية تعمل على تنفيذ مخطط أمريكي استراتيجي هدفه تقسيم الكيان السوداني الكبير عبر تقسيمها إلى 5 أقاليم .
وعدد كرتي أسباب مخطط التقسيم قائلا أن في السودان موارد جمة أقلها البترول والمعادن ، وبها أكبر دورة مائية وأكبر إمكانيات للزراعة، وتنوع في الطقس والموارد المائية يتيح وجود عدة مناخات لإنتاج محاصيل مختلفة في ذات الوقت وهو تنوع نادر قلما يوجد في دول أخرى .

ومن الواضح أن هدف الهجوم كبير واكبر من تطلعات المتمردين ، فغرض المتمردين لفت الأنظار إلي أن السودان غير مستقر ومن ثم ضرب الاستثمارات التي بدأت تتدفق على السودان وتعطيل الانتخابات المقبلة العام القادم ، ومن ثم تحقيق مصالح صهيونية وغربية بألا تظهر دولة سودانية كبري ذات اكتفاء ذاتي من البترول والطعام .
خطورة هجوم أم درمان أنه قد يتكرر - برغم أنه نبه الخرطوم لمصادر الضعف – وأنه قد يعيد السودان لنقطة الصفر سواء في بقاءها بدون استقرار أو بقاء أرضها بلا زراعة وإفشال فكرة سلة غذاء العرب ، بل وقد يعيد أجواء الحرب وعدم الاستقرار بين كافة القوي القبلية ويفتت السودان أكثر .
ولذلك أهم خطوة للتغلب عليه هي السعي للسير على نفس الخطي السابقة بلا تراجع ومزيد من الانفتاح على القوي المختلفة خصوصا في الشمال وتشكيل تحالف عربي إسلامي يدعم السودان واستقراره.