أخيرا "الأسد الأفريقي" سلة غذاء العالم العربي !
13 ربيع الثاني 1429
جمال عرفة

هل سيتحقق الحلم أخيراً؟ هل زالت الضغوط الغربية والأمريكية التي كانت تفرض علي الأنظمة العربية وتمنعها من إطعام شعبها ذاتياً بالتعاون مع دول عربية أخري كي تظل الإدارة العربية مرهونة ورؤوس حكوماتنا تحت مقصلة المعونة الغذائية الأمريكية من القمح ؟
منذ نعومة أظافرنا ونحن نسمع وندرس مقولة أن (السودان هو سلة غذاء العالم العربي) لأنه يمتلك أراضي شاسعة صالحة للزراعة وموارد مائية ومناخ جيد ولكن يحتاج لأيدي عاملة ولأموال لزراعة هذه الأراضي ووسائل نقل لنقل المنتجات المزروعة، ولكننا كنا ندري أن (الإرادة السياسية) غير متوافرة أدي الحكومات لأنها مرهونة لدي أمريكا والغرب، فما هو الجديد الذي سيجعل هذا الحلم حقيقة في السنوات المقبلة ؟
الجديد باختصار كما كشفه لـ (المسلم) د.مصطفي إسماعيل عثمان مستشار الرئيس السوداني عمر البشير خلال زياراته الأخيرة لمصر أن ثلاثة عوامل توافرت لم تكن موجودة في السابق هي، ( الأول) توافر الإدارة السياسية العربية هذه المرة لجعل السودان سلة غداء حقيقية للعالم العربي، ومن أعلي المستويات العليا في الحكومات العربية بعدما أصبح الأمر مسألة حياة أو موت ويمكن أن يتسبب نقص الحبوب والقمح في هذه الدول لثورات شعبية، فضلا أن التوجه للاستثمار الزراعي في السودان هذه المرة سيقوم به بشكل أكبر القطاع الخاص وليس الحكومات العربية نفسها بعدما تغير نمط الاقتصاد العربي وأصبح أكثر ليبرالية، وربما يكون هذا ميزة تعرقل أي ضغوط أمريكية أو أجنبية علي الحكومات نفسها و(الثاني) قيام الدول التي تزرع القمح والحبوب الغذائية بتصنيعه وتحويله إلي طاقة بسبب ارتفاع أسعار البترول لأرقام خيالية، ما قلل المنتج المطروح في السوق من الغذاء وصعب من مهمة الدول الكبرى في رهن إرادة الدول الصغرى عبر توفير قمح لها؛ لأنها أصبحت تعاني بدورها، و(الثالث) والأهم هو أن السودان نفسه جهز الأراضي ومناخ الاستثمار لاستقبال الاستثمارات العربية .
أي أن استراتيجية تامين الغذاء العربي مستقبلاً من السودان أصبحت أمرا مفروضا علي الحكومات العربية بصرف النظر عن الخلاف مع السودان أو عدم الرغبة في التعاون معه لأن البديل هو الجوع أو اللجوء لدول أخري أجنبية غير مضمونة لزراعة القمح فيها مع ما يعنيه ذلك من زيادة التكلفة والمخاطرة المالية .
ويبدو أن هذا هو ما جعل د. عثمان يقول – ردا علي سؤالي- عن مدي توافر الإرادة العربية هذه المرة لجعل خيار السودان سلة غذاء العالم العربي واقعي وحقيقي لأن التدخلات والضغوط الخارجية أفشلت هذا سابقا – " أنا علي ثقة ولدي معلومات أن إستراتيجية تأمين الغذاء العربي من السودان جاءت من أعلي المستويات في هذه الدول وليست فقط اجتهادات، وإنما توجهات إستراتيجية " .
وما جعل معادلة (السودان سلة غداء العالم العربي) تنجح هذه المرة وتطبق بلا شعارات أن السودان نجح مؤخرا في تجهيز وإعداد دراسات اقتصادية حقيقية مؤكدة ليكون بالفعل سلة غذاء العالم العربي، حيث جري تحديد الأرض وفحص التربة وتحديد مصادر المياه بحيث لو جاء أي مستثمر اللآن وقال: إنه يريد أن يزرع قمح مثلا في السودان سيجري توجيهه للأراضي الجاهزة لذلك .
أيضا تمت دراسة قضية توافر المياه في السودان والتي لا تعني فقط مياه النيل،وإنما المياه الجوفية السودانية وكذا مياه الأمطار أكثر في السودان من مياه نهر النيل، وهذا فضلا عن ميزة لا تتوافر في أي دولة في العالم سوي في السودان تقريبا وهي أن السودان يتمتع بأربعة مناخات استوائية بحيث يمكنه أن ينتج أربعة أنواع من أغذية أربعة مواسم مختلفة، كما أن انتعاش البلاد بفعل أسعار النفط السوداني وإعادة بناء البنية التحتية سهل الاستثمار .
ولحسن حظ السودان أن العوامل الدولية سهلت هذا الخيار بتوجيه الاستثمارات الزراعية إليه، من ناحية تدهور قوة الولايات المتحدة اقتصاديا وسياسيا وعدم قدرتها علي التدخل بنفس قوتها الأولي في شئون العالم، فضلا عن تزايد الصناعات الكبرى التي تعتمد علي القمح في الطاقة عبر تحويله لغاز الايثانول الغالي الثمن ما أدي لارتفاع أسعار القمح عالميا بشكل جنوني في عدة أشهر، حتى أن دول مثل الصين والهند التي لديها مليارات بشرية ربما تعاني من أزمة قمح ما يعني مزيد من الطلب الرهيب علي القمح، وهذا أمر يمكن الاعتماد فيه علي زراعة أرض السودان .
هجوم استثماري عربي علي السودان
وقد انعكست هذه العوامل الداخلية السودانية مع العوامل الخارجية مع الإرادة العربية وأصبحت هناك إرادة قوية في مصر والسعودية وقطر والإمارات وتوجيهات سياسية نحو الزراعة في السودان، حيث بدأت الدول العربية تولي وجهها بالفعل شطر "سلة غذاء العالم"، أي السودان، وسط الإغراءات السودانية العديدة للمستثمرين العرب ودعوات لجب ألاف الفلاحين المصرين بعائلاتهم للعيش في السودان وزراعة الأرضي لمواجهة هجوم اللاجئين الأفارقة وفيض العمالة الأسيوية التي توطنت في السودان .
وفيما ظهرت بوادر هذا الهجوم الاستثماري في صورة حضور كثيف في الملتقى الاقتصادي السوداني المصري الذي بدأ أول أبريل الجاري 2008 في السودان بمشاركة واسعة من رجال الأعمال المصريين (35 شركة مصرية) والسودانيين ووزيري الاستثمار المصري والسوداني ونائب رئيس الجمهورية، وكشف جلال الدوقير وزير الصناعة السوداني، تلقي حكومة بلاده عروضاً من مصر وقطر والإمارات، لاستزراع ما يقرب من ستة ملايين فدان قمح .
والأمر ليس قاصرا علي القمح وإنما هناك تحدي سوداني لسد فجوة الغذاء العربي .. فوفقا لتقدير "الكندي يوسف" وكيل رئاسة الجمهورية السودانية فإن ما ينفق علي الفجوة الغذائية في الوطن العربي أكثر من 40 مليار دولار والسودان – وفق تأكيده - يشكل المخرج من هذه الفجوة، لان الخرطوم تمتلك من القدرات ما يمكنها من توفير كثير من الحاجات في مجال الغذاء والصناعات الغذائية .
وربما تكون التجربة المصرية الليبية السودانية في هذا الصدد هي الأنجح في التكامل الزراعي خصوصا لتجاور البلدان الثلاثة وسهولة نقل المنتجات الزراعية بينهما فضلا عن أن معادلة (الأرض + الأيدي العاملة + الأموال) تتوافر في الدول الثلاثة علاي التوالي ( السودان + مصر + ليبيا)، وقد أشار أمين أباظة وزير الزراعة المصري أن هناك محاولات جادة تبذل بالتعاون بين مصر والسودان والسعودية وليبيا، لتحقيق التكامل الزراعي العربي لتحقيق الاكتفاء الذاتي من الحبوب للمنطقة العربية وأن الآراء العربية تتفق في التوجه إلي الأماكن المتوافرة فيها المياه، مثل الحدود المصرية - السودانية، لاستغلال المياه في التوسع في زراعة الحبوب .
فمن المعروف أنه توجد علي الحدود المصرية - السودانية مساحة مليوني فدان، منها 1.3 مليون فدان علي الجانب السوداني و٧٠٠ ألف فدان في الأراضي المصرية، يمكن من خلالها البدء في تحقيق الحلم العربي في تحقيق الاكتفاء الذاتي من الحبوب، ومواجهة ارتفاع أسعار الحبوب عالمياً .
وقد حرص مستشار الرئيس السوداني خلال زيارته الأخيرة لمصر وعدة دول عربية علي نقل رسالة اقتصادية بحتة للمستثمرين العرب تقول أن السودان في انتظارهم، وأنهم سيجدون تسهيلات ضخمة ودراسات سودانية جاهزة للأراضي التي يرغبون في زراعتها وتوافر المياه، فضلا عن توافر مناخ استثماري وتسهيلات خاصة للمستثمرين العرب تجعلهم يربحون الكثير .
ولم يكن السودان هذه المرة في حاجة لشرح التطور والتقدم الملموس الذي حدث به بالفعل للمستثمرين بدليل أن الاستثمارات الهندية والصينية والماليزية تتكالب عليه وهي استثمارات ذكية تدرك تماما أن ذلك سيعود عليها بالخير الكثير، خصوصا أن الأمم المتحدة تؤكد ذلك .
فأخر تقارير اللجنة الاقتصادية لأفريقيا التابعة للأمم المتحدة كشف أن أكبر دولتين فيهما نسبة نمو في أفريقيا حاليا هما السودان وأنجولا، حيث حقق السودان مع أنجولا أعلى نسبة في التنمية في أفريقيا للعام الماضي، وبلغت نسبة النمو في السودان 11% حسبما ورد في التقرير، كما أن نسبة التضخم في السودان تقلصت من 66& قبل أعوام إلى 9% فقط مؤخرا وتقل، والعملة السودانية شهدت استقرارا كبيرا لدرجة أن بنك السودان يتدخل لمنع ارتفاع سعرها لعدم تأثر الصادرات !.
إن الكويت تستثمر حاليا أربعة مليارات دولار في السودان في مشاريع مختلفة، والاستثمارات المصرية زادت من 100 مليون دولار قبل 2006 إلي 750 مليون دولار حاليا، وهناك استثمارات إمارتيه وسعودية من أفراد في الأسمنت والمواد الغذائية والبنوك والبترول والخدمات في طريقها للتزايد، وهناك رجال أعمال مصريين وعرب كبار بدءوا بالفعل التعاقد علي مشاريع استثمارية زراعية وصناعية وترفيهية .
أيضا بدأت منطقة الحدود بين مصر والسودان تشهد تكاملا أجهضته الخلافات السياسية بين النظامين طوال سنوات، وطلب الرئيس مبارك سرعة استكمال الطريق الساحلي بين مصر والسودان والذي يبلغ طوله حوالي 280 كيلومترا وتم تنفيذ 140 كيلومترا منه من قبل الجانب المصري على أن تتم تسوية الأمور المالية في وقت لاحق لأن هذا الطريق معناه تواصل البلدين مباشرة ونقل السلع والبضائع بين البلدين .
وهناك 20 مشروعا زراعيا جاهزا للتنفيذ بين القطاع الخاص المصري والسوداني في الذرة الصفراء والأرز والزراعة العضوية وإنتاج الأعلاف وتجهيز اللحوم واستزراع الأسماك وتنمية مصايد أسماك بحرية، لأن مصر باتت تدرك أن التوجه إلى السودان هو الحل لمشكلة ارتفاع أسعار الغذاء عبر زراعة أراضي بالحاصلات الزراعية.
ولو تصورنا إن تكلفة استصلاح واستزراع أرض تكفي لإنتاج مليون طن قمح سنوياً في السودان لا تتعدي ٢ مليار دولار وأن زراعة القمح في السودان بتقنيات حديثة ستصل بسعر الطن إلي نصف ما هو عليه بالأسواق الدولية، فلا شك أن هذا سيكون مكسبا عربيا كبيرا، فدولة مثل مصر تستورد ٦ ملايين طن قمح سنوياً، فيما يستورد السودان نفسه مليوني طن، ويتطلب توفير هذه الكمية زراعة ما بين ٣ - ٤ ملايين فدان فقط لسد العجز في البلدين أن التطورات الأخيرة في البنية التحتية السودانية وخصوصا بناء سدود وشق طرق وجسور وتوفير وسائل اتصال ومواصلات، خصوصا مع تزايد العائدات السودانية من النفط، أدت لتوقع مستثمرين ظهور ما أطلق عليه لقب " الأسد الأفريقي" في السودان قريبا علي غرار النمور الآسيوية من قبل .
وقد أطلق وصف "الأسد الأفريقي" الدكتور ديفيد هويل رئيس مجلس العلاقات الأوربية السودانية للشؤون العامة أثناء مداولات ملتقى العلاقات السودانية الأوروبية الذي انعقدت جلساته بالخرطوم في المدة من 10-12 مارس 2008م برعاية نائب رئيس الجمهورية علي عثمان محمد طه في إشارة علي التطور والازدهار الذي يشهده السودان .
ويقول خبراء سودانيون أن السودان يمكن أن يلعب دور الأسد الأفريقي بمساعدة الصين والهند وماليزيا ودفع التحالفات الاقتصادية بين آسيا وأفريقيا، وأن التجربة مع الصين قد أسست فكرة أن السودان قد أضحى نافذة ومدخلاًً للعملاق الآسيوي إلى القارة الأفريقية، وتبع هذا دخول عدة دول أخري في اتفاقيات للتعاون الاقتصادي .
ويعتبر السودانيون أن هذه الإنجازات والتعاون مع الدول العربية والآسيوية لإنشاء مشاريع استثمارية هامة وتوفير الغذاء يشكل هزيمة للسياسة الرامية إلى إعاقة التنمية في أفريقيا .
فمن بين "سياسات الاستهداف" في القارة التي وردت في الوثيقة الإستراتيجية سيئة السمعة التي أعدها وزير الخارجية الأمريكي كيسنجر عام 1974 لتدمير أفريقيا اقتصادية واستخدام سلاح الغذاء مقابل سلاح النفط، عن طرق تشجيع ما عرف بالفرسان الأربعة المدمرة للتنمية ومن بينها الجوع والمرض والحروب للقضاء على سكان أفريقيا ليتسنى للمصالح الأجنبية التحرك لنهب المواد الخام والمعادن والثروات الضخمة في القارة .
فهل سيصبح السودان أخيرا سلة غذاء العالم العربي بحيث يكتفي العرب ذاتيا من الغذاء وينتهي رهن إرادتهم للغرب ؟!