حظر "العدالة" التركي .. هل ينقلب السحر علي آخر قلاع العلمانية التركية؟
14 ربيع الأول 1429
جمال عرفة

نعم الجميع وضع يده علي قلبه عندما أعلن المدعي العام التركي تقدمه بطلب للمحكمة الدستورية لطلب حظر حزب العدالة والتنمية الحاكم ذي التوجه الإسلامي، وطلبه منع رئيس الوزراء أردوغان ورئيس الجمهورية ورئيس البرلمان السابق وقرابة 70 من قادة الحزب من ممارسة العمل السياسي وعزلهم لمدة خمسة سنوات ، لأن هذا هو نفس السيناريو الذي حدث مع حزب الرفاه بزعامة نجم الدين أربكان وأدي لعزلة عن السلطة، وخصوصا أن المحكمة الدستورية لها سوابق في غلق أربعة أحزاب إسلامية أخري .
ونعم زادت خشية الإسلاميين في تركيا من هذه الدعوي لأنه سبق أن صدر قرار بعزل أردوغان سياسيا ومنعه من ممارسة السياسة عندما كان رئيس لبلدية اسطنبول وألقي شعرا إسلاميا ، والعلمانيون لا ينسون لاردوغان أنه قد سجن أربعة أشهر لتلاوته هذا الشعر ذي التوجه الإسلامي قبل أن يؤسس حزب العدالة والتنمية في العام 2001م ، وخصوصا أنهم حرموه من تولي رئاسة حزبه الجديد لمدة عام لحين انتهاء سنوات العزل السياسي عليه ، كما حرموه مرة ثانية من تولي رئاسة الجمهورية حينما اعترضوا على فكرة أن يصبح اردوجان هو الرئيس الحادي عشر للدولة التركية خشية أن يتوج بذلك طموحاته لأسلمه تركيا من خلال الاستيلاء على آخر حصن للعلمانية كما يقولون ، ما اضطر حزب العدالة لترشيح وزير الخارجية والرئيس الحالي عبد الله جول !.
ولكن .. رد الفعل (القضائي) الذي قام به المدعي العام ضد حزب العدالة خصوصا بعد سماحه بالحجاب بتعديل دستوري – كان متوقعا انقلابا عسكريا – ورد فعل حزب العدالة الساخن ، يعكس دلالات ضعف لما تبقي من فلول العلمانية التركية ، وبالمقابل دلالات قوة كبيرة لحزب العدالة ..لماذا ؟
فليس سرا أن رباعي حماة العلمانية الأتاتورية التركية ( الجيش + المحكمة الدستورية + المدعي العام + مجلس الجامعات ) كان يعد العدة ويجهز الملفات لحزب العدالة التركي وقادته منذ فوزهم في انتخابات عام 2002 وتعزيز هذا النجاح في انتخابات 2007 بالفوز بـ47% من مقاعد البرلمان ، وزاد هذا الإصرار بعدما انتزع الحزب - ذي التوجه الإسلامي – منصب رئيس الجمهورية الذي كان أحد قلاع العلمانية وأدخل زوجة "جول" المحجبة في قصر الرئاسة لأول مرة ، كما أن الجميع كان يتوقع الضربة من الجيش عبر انقلاب عسكري خصوصا بعد السماح بلبس الحجاب في الجامعات وسعي الحزب لمنع بيع الخمور عموما.
ولكن أن تأتي الضربة منذ جانب القضاء التركي لا الجيش مباشرة خصوصا أن "الجرم" كبير ويتعلق بهدم أبرز معالم العلمانية وهو لبس الحجاب ، معناه – بداية- أن علمانيي تركيا باتوا أكثر ضعفا ، وأن تدخلاتهم العنيفة السابقة عن طريق الجيش عبر سلسلة انقلابات ضد الحكومات التي تبدو ذات توجهات إسلامية أصبحت محدودة ومقيدة.
أما المفاجأة الأكبر فهي رد فعل العدالة التركي الذي لا يقتصر رد فعله علي التنديد والاستنكار وانتظار الذبح بسكين المحكمة الدستورية المشهورة بعدائها للتيار الإسلامي، وإنما بادر بالتلويح بسلاح وسكين مقابل يمكنه ن يذبح به هذه المحكمة الدستورية ما نقل المواجهة هذه المرة لمعركة حياة أو موت للطرفين ربما تدفع العلمانيين في نهاية الأمر للرضوخ للأمر الواقع بدلا من دخول البلاد نفقا مظلما لن تخرج منه وسيترتب عليه تحول حلم الانضمام للاتحاد الأوروبي إلي سراب.
سكين "العدالة" مقابل سكين "الدستورية" !
فماذا فعل حزب "العدالة" ؟! .. لأن معركة حظر حزب العدالة التركي هذه المرة هي معركة حياة أو موت مع الفصيل العلماني الذي يحكم تركيا منذ إسقاط الخلافة الإسلامية عام 1928، فقد بدأ حزب العدالة وقادته حملة مضادة ليس فقط بتأكيد عدم التراجع ، بل والرد على الدعوى المرفوعة بإغلاقه بخوض جولة جديدة من التعديلات الدستورية التي تستر وراءها لهدم أصنام العلمانية ، بحيث تستهدف هذه المرة إعادة تنظيم الهيكل القضائي – الذي يمس آخر قلاع العلمانية التركية وهو القضاء والمحكمة الدستورية ، رافعًا شعار ( نحو المزيد من الديمقراطية) !.
وهو تحدي خطير موجه للمحكمة الدستورية نفسها ولجهاز القضاء ربما للتهديد به لو تم الشروع في إجراءات المحكمة من أجل حظر الحزب - لأن عمل نواب الحزب في البرلمان الذين يمثلون أغلبية سيظل مستمرا حتي لو تم حل الحزب وعزل قادته سياسيا - ما لم يتم حل البرلمان نفسه ، هو ما لن يتأتى سوي بانقلاب عسكري واضح فاضح يقلب الطاولة كلها علي الجميع ويعيد تركيا عشر سنوات للوراء.
فقد اجتمع مجلس إدارة حزب العدالة والتنمية برئاسة رجب طيب أردوغان رئيس الوزراء بعد 24 ساعة من تقديم طلب المدعي العام للمحكمة الدستورية (16 مارس)، وأكد عزمه "عدم التقهقر خطوة واحدة عن التقدم في المسيرة الديمقراطية"، وقرر "طرح حزمة جديدة من التعديلات الدستورية من شأنها إعادة تنظيم الهيكل القضائي في تركيا"، ويتردد أن المستهدف من هذه التعديلات الدستورية هذه المرة – بعد تكبيل الجيش بتعديلات سابقة – هو زيادة نفوذ البرلمان في اختيار أعضاء المحكمة الدستورية، والتحجيم من مسألة إغلاق الأحزاب السياسية. وسيتم طرح مسودة التعديلات الدستورية التي أعدها البروفيسور (أرجون أوزبودون) وستة من الأكاديميين المتخصصين للنقاش قريبًا، حيث تحمل هذه الحزمة من التعديلات مسمى (التعديل الدستوري المصغر)، وتشتمل على ما يلي: رفع عدد أعضاء المحكمة الدستورية من 11 عضوًا (حاليا) إلى 17 عضوًا، وأن يتم اختيار القسم الأكبر منهم من قبل البرلمان التركي على النحو التالي: 8 من قبل البرلمان التركي، 4 من مجلس قضاء الدولة، و4 من مجلس شورى الدولة، وعضو من قبل المجلس المحاسبي العام.
أيضا تستهدف التعديلات الدستورية تقييد سلطة المدعي العام بشأن حل الأحزاب، فالدستور الحالي ينص على وجوب قيام النائب العام للجمهورية برفع دعوى إغلاق الحزب السياسي أمام المحكمة الدستورية، بينما تنص مسودة التعديل الدستوري الجديدة التي سيتقدم بها البرلمان على أن تقوم المحكمة الدستورية بإنذار الحزب بناء على طلب النائب العام، وفي حال عدم استجابة الحزب للإنذار في خلال شهرين من تاريخ الإنذار، يكون من الممكن رفع دعوى إغلاق الحزب.
كما سيتم تعديل أصول اختيار رئيس مجلس قضاء الدولة ونوابه؛ إذ إن الدستور الحالي ينص على أن يقوم رئيس الجمهورية باختيار النائب العام للجمهورية من بين خمسة مرشحين يتم اختيارهم بالاقتراع السري من بين أعضاء نواب الجمهورية، ومجلس قضاء الدولة ، بينما يستهدف التعديل الدستوري المقترح الجديد ، إلغاء سلطة رئيس الجمهورية في اختيار النائب العام، وأن يتم انتخابه من قبل مجلس القضاء العام من بين رئيس مجلس قضاء الدولة، ونوابه، ورؤساء الدوائر وأعضاء مجلس نواب الجمهورية
مأزق العلمانيين يتسع
ولا شك أن هذا الهجوم المضاد لحزب العدالة التركي سيجعل ما تبقي من المعسكر العلماني يفكر مليا قبل تفعيل نظر قضية حزب العدالة ، خصوصا مع وقوف غالبية الشعب واتحاد رجال الأعمال والاتحاد الأوروبي مع حزب العدالة، لأن الشروع في حظر حزب العدالة في المحكمة الدستورية سيتم الرد عليه بتمرير التعديلات الدستورية لتكبيل دور هذه المحكمة، ولو حدث هذا الصدام قد يتدخل الجيش – آخر قلاع العلمانية - بانقلاب – ولو حدث وهو ما يعني في نهاية الأمر أن الطلب الذي قدمه عبد الرحمن يالتشينقايا النائب العام التركي بحظر حزب العدالة يوم 14 مارس 2008 بسبب ما زعم أنها "نشاطاته التي تتعارض مع العلمانية" سيرتد علي العلمانيين ويزيد مأزقهم ويضعف حجتهم خصوصا أن هذا القرار أدي لتدهور سريع في الاقتصاد التركي وانخفاض سعر العملة التركية.
وربما لهذا لوحظ أنه عندما نظرت المحكمة الدستورية العليا في تركيا يوم 17 مارس الطلب الذي تقدم به المدعي العام، قال عثمان علي فايز باكسوت نائب رئيس المحكمة إنها ستحيل الطلب إلى خبير قانوني لدراسة أوجه الاتهام، مضيفا أن "الدراسة المبدئية" ستستغرق 10 أيام، وأوضح أنه يتعين على أعضاء المحكمة الدستورية العليا وعددهم 11 الموافقة على (الاتهام) الذي وجهه رسميا كبير ممثلي الإدعاء في محكمة الاستئناف ضد حزب العدالة والتنمية على أسس إجرائية قبل بدء النظر في قضية جديدة، وهو تصريح لا يجزم بسير إجراءات المحاكمة أصلا لأن تداعيات ذلك ربما تكون أخطر علي المحكمة الدستورية وعلي تركيا ككل.
فليس من الطبيعي – كما ألمح اردوغان- أن يتم تجاهل 16.5 مليون ناخب صوتوا لحزب العدالة والتنمية في الانتخابات التشريعية الأخيرة في يوليو 2007، حصل الحزب على نسبة 47% من أصواتهم "، و"لا يمكن لأحد أن يقول إن هؤلاء الناس هم معقل أنشطة مناهضة للعلمانية".
لقد أصدرت المحكمة الدستورية التركية – إحدى أبرز قلاع العلمانية في تركيا – قرارات سابقة تحظر أحزابا دينية بتهمة القيام بأنشطة غير علمانية ، ومنذ إنشاء المحكمة في 1961، حظرت أربعة أحزاب بالدافع نفسه "أنه حزب إسلامي رجعي !" آخرها حزبا الرفاه في 1998 والفضيلة في 2001 ،وهما حزبان تخرج مسئولو حزب العدالة والتنمية سياسيا منهما .
وسوابق المحكمة نفسها مع حزب العدالة ليست مبشرة، وهي تنظر بالفعل في استئناف من حزب الشعب الجمهوري المعارض ذي التوجه العلماني بشأن مدى سلامة التعديلات الدستورية التي أقرها البرلمان الشهر الماضي بما يسمح برفع جزئي للحظر على الحجاب.
ولكن الدعم الذي يلقاه حزب العدالة داخليا وخارجيا يقوي موقفه .. فقد تلقى حزب العدالة والتنمية التركي مساندة أوروبية لأنه يقوم بهذه التعديلات وتوسيع الحريات – ومنها حرية ارتداء الحجاب – ضمن حزمة قرارات هدفها وضع قدم تركيا علي أعتاب الاتحاد الأوروبي وتوفيق قوانينها مع قوانين أوروبا، وشدد مفوض شئون توسيع عضوية الاتحاد الأوروبي "أولي ريهين" على ضرورة "ألا تتدخل السلطة التنفيذية في أحكام وشئون القضاء، كما يجب ألا يتدخل النظام القضائي في العملية السياسية".
أيضا لقي الحزب مساندة معنوية قوية من رجال الأعمال الأتراك خصوصا أنهم سيكونون هم الخاسر الأكبر في حالة انهيار حكم حزب العدالة وتدهور الأوضاع في تركيا، وقال أكبر منتدى لرجال الأعمال في تركيا إن قرار ممثلي الادعاء العام الساعي لإغلاق حزب العدالة والتنمية الحاكم ومنع رئيس الوزراء والرئيس من العمل السياسي ينتهك المبادئ الديمقراطية.
والأهم أن العدالة لوح بهجوم تشريعي مضاد يطال هذه المرة المحكمة الدستورية، مثلما فعل سابقا بهجوم تشريعي قلص صلاحيات الجيش في التدخل بالحياة السياسية ، ونجح في تحييد رئاسة الجمهورية بإيصال أحد أنصاره (جول) لها ، كما بدأ يهدم المحظورات الأخرى وخصوصا الحجاب .
وهو ما يعني أنه لو قبلت المحكمة الدستورية طلب حل الحزب وبدأت مناقشته – التي تستمر ستة أشهر غالبا – فسيطرح حزب العدالة بدوره التعديل الدستوري الخاص بتقليص صلاحيات المحكمة ومنها صلاحيته في حل الأحزاب .. أي واحدة بواحدة .. فهل يرتدع العلمانيون أن يستمروا في حماقاتهم فيقلب العدالة الطاولة عليهم.