سر الانسحاب التركي المفاجئ من شمال العراق
11 ربيع الأول 1429
طه عودة

صدمة كبيرة انتابت تركيا بعد إعلان قيادة الجيش أن الحملة العسكرية التي استهدفت متمردي حزب العمال الكردستاني في شمال العراق انتهت وبأن الوحدات التي كانت تنفذها بدأت العودة إلى قواعدها حيث جاء القرار التركي بالانسحاب من شمال العراق بعد ساعات قليلة من الزيارة التي قام بها وزير الدفاع الأمريكي روبرت غيتس إلى تركيا والتي طالب فيها أنقرة بتحديد موعد زمني لسحب قواتها المسلحة من شمال العراق وهو ما شكل علامة استفهام كبيرة لدى العديد من المحللين السياسيين الأتراك الذين استغربوا قرار الانسحاب رغم أن الجيش حتى قبل الانسحاب بساعات كان يقول بأنه ربما يبقى لغاية عام في العراق إلى أن يحقق هدفه بالقضاء الكامل على المتمردين الأكراد وتدمير مواقعهم هناك والأمر الثاني هو أن إردوغان نفسه كان قد وزع صباح يوم الانسحاب نص الكلمة التي كان سيوجهها إلى الأمة مساء ذلك اليوم كانت تتضمن عبارة تفيد الاستمرار في العملية العسكرية بكل عزم وما هي إلا ساعات حتى كان إردوغان يسحب النص الذي وزع.وجاءت هذه التطورات لتطرح علامات استفهام حول ما إذا كان قرار الانسحاب قد اتخذ بسرعة قبل وصول الوزير الأمريكي أم أن إردوغان لم يكن أصلا على علم به.في جميع الأحوال يبدو أن المعلومات التي نشرتها صحيفة "حرييت" كبرى الصحف التركية كانت عاملا كبيرا في القرار التركي وهو أن وزير الدفاع الأمريكي غيتس قد وجه إنذارا إلى أنقرة بضرورة إنهاء العملية بسرعة تحت التهديد بقطع التعاون الاستخباراتي معها وأنه فكر جديا بإلغاء زيارته إلى تركيا لكنه قرر المجيء ليبلغ بنفسه الإنذار إلى الأتراك وقد كرر الرئيس جورج بوش دعوته إلى انسحاب تركي سريع،بعد انتهاء غيتس من لقاءاته مع المسئولين الأتراك.في المقابل حاول الجيش التركي إبعاد ظلال الشك عن دور أمريكي ضاغط لسحب القوات موضحا أن إطلاق العملية وإنهاءها تم تقريرهما من قبل الأتراك باعثا رسالة إلى واشنطن مفادها أن تركيا لا تتصرف وفق إملاءاتهم أما الرسالة الثانية التي وجهها الجيش عبر البيان هي أن المعركة ضد حزب العمال الكردستاني ستتواصل بكل عزم والثالثة موجهة إلى حزب العمال الكردستاني وبغداد وهي أن أنقرة لن تسمح باستخدام الحدود العراقية لتهديد أمنها.بعيدا عن كل هذه الأمور هناك سؤال محير للغاية وهو ما الذي جرى ودفع واشنطن التي قدمت الدعم المعلوماتي الكبير لأنقرة للعملية البرية في الحادي والعشرين من فبراير الماضي تعدل عن رأيها وتطالب بالانسحاب التركي الفوري بعد خمسة أيام؟.أعتقد أن هناك ثمة أمور مهمة وحيوية كانت السبب وراء تغير واشنطن لموقفها
ونقض اتفاقها مع تركيا ولا يمكن أن نتصور أن تكون واشنطن رجعت فجأة عن دعمها العملية لأنها اكتشفت أن العملية خلاف مصالحها لأن المصلحة الأمريكية مع تركيا وأكراد العراق لم تتغير قبل العملية وفي أثنائها ولكن العامل في التغيير هو "حزب العمال الكردستاني" فقد كشف موقع "البعد الإستراتيجي" التركي النقاب عن قضية هامة تتعلق
باللقاء الذي عقدته القوات الأمريكية مع قيادات عراقية كردية في مدينة اميدية بشمال العراق وخرج بعد اللقاء المتحدث باسم البيشمركة جبار الياور ليقول أن العملية البرية انتهت ولعله فطن إلى خطأ استعجاله إفشاء نتيجة الاجتماع فعاد ليصحح الخطأ ويقول إن العمليات توقفت في واد "الزاب" فقط ولعل هذا السيناريو هو تفسير إعلان وزير الخارجية العراقي الكردي هوشيار زيباري انتهاء العملية البرية قبل أن تعرف حكومة إردوغان.

أهداف العملية

ما زال قرار الانسحاب التركي المفاجئ من شمال العراق غامضا على الرغم من تصريحات كبار المسؤولين السياسيين والعسكريين الأتراك بأنهم اتخذوا القرار بمحض إرادتهم لكن يمكن القول بأن العملية العسكرية البرية في شمال العراق حققت عدة أهداف كانت تركيا بحاجة ماسة إليها وهي:كسرت المقولة القائمة منذ الاحتلال الأمريكي للعراق 2003 أن تركيا لن تتوغل في شمال العراق بريا حتى وإن حصلت على ضوء أخضر أمريكي،كانت تركيا (حكومة وجيشا) بحاجة إلى نصر معنوي خصوصا بعد الهجمات التي تعرض لها الجيش التركي في أكتوبر الماضي وأسفرت عن مقتل عدد من جنودها وأسر ثمانية آخرين،العملية جاءت في وقت الشتاء البارد مباغتة لمقاتلي حزب العمال الكردستاني أكسبت الجيش التركي خبرة في فن القتال في ظل الظروف الجوية القاسية في درجة حرارة تحت الصفر والأهم أنها أرسلت إشارة واضحة للمتمردين الأكراد أن منطقة شمال العراق لن تكون آمنة له في جميع الظروف.

خفايا قرار الانسحاب

انكشف المستور مع الزيارة الأخيرة التي قام بها وزير الدفاع الأمريكي روبرت غيتس إلى أنقرة وفيها تحدث عن أمور واضحة مطلوبة من تركيا ألا وهي:
-إنهاء العمل العسكري في أقرب وقت ممكن"... طبعا، السبب واضح ففي حال استمرار العمليات العسكرية البرية، فإن ذلك يهدد بالقضاء الكامل على المتمردين الأكراد وخروج المنظمة عن السيطرة الأمريكية.. وهذا ما لا تريده الولايات المتحدة التي ستحتاج دوما إلى هذه المنظمة لكي تبقي تركيا تحت سيطرتها أيضا.
-"حلول سياسية للمسألة الكردية".. تريد الولايات المتحدة الأمريكية بعد ذلك حل المشكلة الكردية بالطرق السياسية."
-إرسال قوات عسكرية تركية إلى أفغانستان"... الكل بات يعلم أن الولايات المتحدة غرقت في مستنقع أفغانستان، وتكبدت أضرارا كبيرة على أيدي حركة طالبان، وهي عاجزة حاليا عن السيطرة على الوضع هناك. وفي حال استمرار هذا الوضع، فإن خططها بالشرق الأوسط مهددة بالانهيار، وبالتالي هي بحاجة إلى قوى مسلحة جديدة إلى جانبها.. وطبعا، هي تحاول تأمين ذلك من تركيا..
-"المطلوب سياسة تركية أقسى مع إيران".. وهي تريد تحقيق هدفها عبر تركيا..
وأخيرا... يطرح السؤال نفسه من جديد هل أسباب الانسحاب التركي الحقيقية من شمال العراق هل هي رغبة تركية بالتجاوب مع الضغوط الأميركية أملا باستمرار التعاون الاستخباراتي مع واشنطن حول مسلحي حزب العمال الكردستاني؟ أم أن أنقرة رفضت الضغوط الأمريكية بشأن أفغانستان أو الاعتراف بالسلطة الكردية في شمال العراق أم أنها رفضت أي تعاون ضد إيران أم رفضت توسيع استخدام أراضيها من قبل القوات الأميركية الموجودة في شمال العراق؟.كل هذه الأمور ستتضح خلال الأيام القليلة القادمة.