حصاد حرب الأيام الخمسة لـ "محرقة غزة" .. المكاسب والخسائر
4 ربيع الأول 1429

بعد خمسة أيام من الحرب الصهيونية علي قطاع غزة، أو ما يمكن تسميته "محرقة غزة " - تأسيا بما ذكره نائب وزير الحرب الإسرائيلي ماتان فيلنائي- أصبح حصاد هذه الحرب المصغرة غير العادية (لأنها المرة الأولي التي تطال فيها صواريخ القسام ثلاثة بلدات إسرائيلية وتصل لمدي 12 كم تقريبا ويظهر فيها صواريخ "جراد" الروسية و"أر.بي.جي" بكثافة) يحتاج لحساب من نوع آخر للمكاسب والخسائر.
فأجواء الحرب مختلفة هذه المرة عما سبقها سواء من حيث سبل المقاومة في التصدي لاجتياح جزء من جباليا بريا والتي دعت محمود الزهار القيادي في حماس لمطالبة الجنود الصهاينة أن يقولوا للإسرائيليين ماذا رأوا في غزة من مقاومة، أو لجهة الشراسة والإبادة الصهيونية التي أسموها هم "محرقة" والتي تكشف ضمنيا التخبط ورد الفعل المفرط في استخدام القوة لحفظ ماء الوجه أمام المقاومة، أو من حيث أهدافها، إذ يبدو أن الأهداف الصهيونية منها لإضعاف حماس انقلبت لأهداف مقابلة لصالح حماس محليا وإقليميا ودوليا.
وغني عن البيان هنا أن حسابات الربح والخسارة أو المكاسب والخسائر لا تقتصر علي النظرة الضيقة المتعلق بالضحايا وإنما الحصيلة السياسية أهم؛ فحصيلة الهولوكوست الصهيوني لأهل غزة في حرب الأيام الخمسة بلغ قرابة 125 شهيدا، مقابل 3 قتلي إسرائيليين (جنديان ومدني بقصف صاروخي) أي إسرائيلي واحد لكل 40 شهيد فلسطيني تقريبا (وذلك بحسب الإحصاءات الصهيونية ذاتها وإلا فمصادر حماس تتحدث عن عدد أكبر من هذا بكثير)، ومع هذا فهناك جملة تداعيات أو مكاسب وخسائر عديدة علي المستوي الفلسطيني الداخلي والمستوي العربي والدولي ناهيك عن تأثيره علي الداخل الإسرائيلي.
إسرائيل: فشلنا !
ولنبدأ بحصاد الحرب المصغرة علي الداخل الصهيوني، وليس هناك في هذا المقام أفضل من سماع شهادة العدو، فماذا قالوا : وزير الأمن الداخلي في حكومة الاحتلال أفي ديختر قال خلال جلسة الحكومة الأسبوعية ردا علي تحديد وزير الحرب "باراك" هدفه في وقف الصواريخ : "إن الجيش وبعد 5 أيام من المعارك لم يتمكن من تحقيق غايته المتمثلة في وقف إطلاق الصواريخ باتجاه جنوب إسرائيل"، وقال أنه علي العكس "مدى الصواريخ صار أبعد من ذي قبل ووصل إلى عسقلان والى نتيفوت (غير سيدروت) وأصبح الآن 250 ألف إسرائيلي تحت مدى الصواريخ الفلسطينية بدلا من 125 ألفا" !.
ونشير هنا إلي أن مدير مركز الطوارئ التابع للمجلس البلدي لعسقلان في الجنوب الإسرائيلي ذكر للتلفزيون الإسرائيلي إن مركزه تلقى 4000 مكالمة هاتفية في أقل من ساعة من مستوطني المدينة الفزعين والذين تملكهم الرعب عقب قيام كتائب القسام بقصف المدينة بعدد من صواريخ "جراد" يوم 28 فبراير 2008 فقط !.
ولو لخصنا ما قاله زعماء الحرب الصهاينة، سنقول أنهم يعترفون ضمنا بأن الحرب لم تؤتِ ثمارها وعلي العكس زادت كمية الصواريخ ( أكثر من 100 صاروخ أطلقت في بضع أيام) كما تنوعت وظهرت أنواع أفضل وأطول مدي وأنواع سوفيتية مثل (جراد)، وهو صاروخ كاتيوشا من نوع جراد تصميمه سوفيتي أصلا ومداه من 11 كم ( مثل الذي سقط علي مدينة عسقلان، إلي 20 كم (كالذي أستخدمه "حزب الله" الصيف الماضي )، ويعتقد الجيش الإسرائيلي أن هناك العشرات من صواريخ كاتيوشا طويلة المدى في أيدي المقاومة.
ويكفي أن نشير إلي أن صواريخ "القسام" تخطت سيدورت (7 كم ) لتصل في حرب الأيام السبعة إلي عمق حوالي 16 كم لتصل علي مشارف مدينة أشدود (22 كيلومترا عن حدود غزة الشمالية) كما وصلت إلى قلب مدينة المجدل التي تضم عسقلان وتبعد 15 كيلومترا عن تخوم غزة الشمالية.
وهو ما يعني ضمنا أن حماس تتبع إستراتيجية "حزب الله" في عدم الكشف عن ذخيرتها أو ادخارها لمراحل الاجتياح والغزو لمدينة غزة، ما يعتبر سلاح ردع في يد المقاومة ضد الاجتياحات، ويجعل بالتالي ما قيل عن أن هدف العدوان الأخير هو تقليص أوراق الربح في يد حماس والضغط عليها، هدفا عكسيا لصالح حماس عبر خلق توازن رعب رغم ضعف صواريخها، وتقوية موقفها داخليا وأوراقها الرابحة رغم الحصار المشدد.
ونشير هنا لحديث "عوزي بنزيمان" في جريدة هآرتس 3 مارس 2008 عن "المغزى الاستراتيجي المترتب على توازن الرعب مع التنظيمات الإرهابية الفلسطينية وقدرتها على تشويش الحياة في دوائر واسعة من الدولة (الإسرائيلية) "، وتصاعد الحديث عن وضع مشابه لما جري مع المقاومة اللبنانية، والأهم المطالبة داخل المستويات الإسرائيلية المختلفة لحوار مباشر مع حماس طالما أن الحل العسكري صعب، وتصاعد الغضب لحد دعوة معلقين إسرائيليين (كوبي نيف - معاريف ) لإرسال قادة الجهاز الأمني الإسرائيلي الفاشلين ليس إلى الحرب في غزة بل إلى منشأة الصحة النفسية !؟.

والخلاصة هنا أن حكومة أولمرت التي نجت من تقرير فينوجراد توشك أن تقع في كارثة سياسية أخري في غزة لأنها تتبع نفس السيناريو العسكري، فضلا عن أنها تثير حالة متصاعدة من الغضب في العالم تجاه الدولة الصهيونية اضطرت الخارجية الإسرائيلية لإرسال مبعوثين للدفاع عن مجازرهم في غزة.
النظم العربية..خسائر مضاعفة
وإذا كانت الخسائر الصهيونية باهظة سواء علي الصعيد الاستراتيجي أو حتي العسكري، فخسائر النظم العربية خصوصا المعتدلة التي تتفق مع إسرائيل وأمريكا في ضرورة تحجيم حماس ولا تعترف سوى بسلطة عباس، تبدو مضاعفة، ليس فقط لأنها فقدت مصدقتيها أمام الشارع العربي، وإنما لأن صمتها علي ما جري من مذبحة وسعيها لتحميل حماس المسئولية كشف حالة من التواطؤ غير المعلن والرضا عن المحرقة وفق تصور مغلوط أنها موجهه ضد حماس في حين أنها موجهه ضد الشعب الفلسطيني نفسه.
والنتيجة هنا أن صمت الحكومات – ومعها صمت حكومة عباس – أكسب حماس والمقاومة مصداقية أكبر لدي الشارع العربي المتعطش لأي صمود حقيقي ومقاومة تواجه الصلف الصهيوني، ويكفي أن شعار "واحد.. اثنين.. الجيش العربي فين؟" عاد ليتردد في الشارع العربي، وظهرت نعوش "الكرامة" العربية في المظاهرات، ناهيك عن السخرية من مواقف بعض القادة العرب.

وقد نجح صمود المقاومة في إجبار حكومات علي الخروج من عزلتها وإظهار بعض المواقف كي لا يشتعل نار الغضب الداخلي – خصوصا مع تضرر معيشة المواطن العربي نتيجة ارتفاع الأسعار والإحباط والبطالة – فاضطر الرئيس عباس لوقف التفاوض مع إسرائيل (بصورة مؤقتة كما قالت وزير الخارجية الإسرائيلية)، وفتحت مصر معبر رفح علي استحياء لاستقبال 40 جريحا مات منهم 4 بسبب التفتيش الأمني علي الحدود لمدة أربع ساعات وتأخر نقلهم للقاهرة، وصدرت تصريحات من "مصدر مسئول" في عواصم عربية تحذر من استخدام "القوة المفرطة" من جانب إسرائيل، وكأن استخدام السلاح ضد الفلسطينيين أصلا يجوز !؟.
الداخل الفلسطيني.. عودة الحجارة !
أيضا كشفت حرب الأيام الخمسة أن هناك شوقا شعبيا فلسطينيا داخليا داخل تياري حماس وفتح وباقي الفصائل لوحدة جميع الفصائل لمقاومة الاحتلال وليس للتفاوض معه، يكفي أن نشير للمظاهرات العفوية في مدن الضفة الغربية، وعودة حرب الحجارة لأول مرة وتوالي البلاغات عن سقوط قتلي بسلاح الاحتلال في الضفة – كما في غزة – وسقوط مصابين من الجنود الصهاينة والمستوطنين بحجارة الشباب الفلسطيني، ويكفي أن نشير لتكاتف الفتحاويين والحمساويين وغيرهم من الفصائل – بأعلامهم المختلفة – في المظاهرات في الضفة قبل غزة، ولا ننسَ إعلان كتائب الأقصى الفتحاوية أنها في حل من التهدئة مع إسرائيل.

وليس هذا سوي تعبير عن حالة غضب داخلي فلسطيني علي مستوي التدني في الكرامة الفلسطينية تجاه الاعتداءات الصهيونية وتجاهل أولمرت لعباس أو استغلاله في ضرب المقاومة، وسريان روح الاستسلام التام بين فريق عباس لحد ترديد نفس مقولات إسرائيل بشأن تحميل حماس مسئولية محرقة غزة ومقتل 125 فلسطيني مثلما فعل وزير الإعلام الفلسطيني في حكومة فياض !.
ونشير هنا أيضا لتصاعد الصراع داخل فيصل فتح بين تيارين أحدهما يمثل عباس والتفاوض مع إسرائيل والثاني مع خيار المقاومة مع اقتراب الانتخابات الداخلية للحركة، وخروجه للعلن عبر مناوشات ساخنة بين أقطاب من فتح كشفوا ضمنا أنه كان هناك مخططا لتصفية حماس في غزة قبل أن تتغذي حماس بهم !.
يمكن الحديث بالتالي عن معادلة جديدة في الحرب أفرزتها حرب الأيام الخمسة في صورة توازن رعب بصواريخ القسام وكاتيوشا، وعن معادلة جديدة صعدت بدور حماس والجهاد وخيار المقاومة عموما لأعلي بعد محاولات إسرائيلية وعربية لتحجيم قوتها وإخراجها من المعادلة كي يسهل فرض حل سلمي بالمعايير الإسرائيلية والأمريكية يجعل الدولة الفلسطينية لها وظيفة أساسية هي حماية أمن الدولة الصهيونية (حسبما أشار تقرير لمركز راند الأمريكي عن هذه الدولة المنتظرة) !.

وتبقي مسألة تشديد الحصار التي يشارك فيها أطراف عربية قبل إسرائيل علي حكومة حماس لتطرح تساؤل أو تخوف من أن يصعب علي حماس – نتيجة الاجتياحات الصهيونية المتعددة وتواصل محرقة غزة – تعويض خسائرها من العتاد والسلاح خصوصا الصواريخ.. صحيح أن أغلبها يصنع محليا ومن مواد إسرائيلية مهربة، ولكن الحصار بدأ يأخذ أشكال مشابهة لما كان يحدث في العراق مثل عدم توافر الأقلام الرصاص للطلبة بحجة أن رصاصها يستخدم في أسلحة، فهل يراهن الصهاينة علي هذا أم أنه رهان فاشل !.