لبنان بعد عامين على اغتيال الحريري
25 محرم 1428

قبل نحو خمسين عاماً، اغتال الحزب القومي السوري الزعيم اللبناني البارز رياض الصلح، وبعد نصف قرن عاد حلفاء سوريا للاعتصام في الساحة المسماة باسمه، رافضين القرار الحكومي اللبناني بالموافقة على القرار الدولي بتشكيل محكمة دولية للتحقيق بشأن اغتيال (الزعيم اللبناني البارز) رفيق الحريري، واقفين كسد منيع أمام تدويل قضية الحريري لما قد يجلبه ذلك من أضرار على النظام السوري سواء كان ضالعاً في جريمة اغتيال الحريري أم ليس ضالعاً. <BR>والآن يمر عامان على اغتيال الحريري، ولا يدور الحديث اليوم عن "ذكرى" وإنما عن شظايا لم تخنس أبداً منذ تفجرت سيارة الحريري في الرابع عشر من شهر فبراير 2005م، فالقرار الدولي لم يجف حبره بعد، واستحقاق المحاكمة جاري التفاوض بشأنه خلال جولة عمرو موسى المكوكية، والقوى التي التأمت بعد شهر واحد من مقتله والمسماة بقوى 14 مارس قد دعت إلى تجمع جماهيري في "الذكرى الثانية" لاغتيال الحريري في ساحة الشهداء التي يقيم المعتصمون من المعارضة خيما في القسم الأكبر منها في إطار المطالبة بإسقاط حكومة فؤاد السنيورة. <BR>وأرملة رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري قد وجهت نداء إلى الأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصر الله دعته فيه بشكل غير مباشر إلى إنهاء اعتصام المعارضة في وسط بيروت وإلى "جعل الذكرى الثانية لاغتيال الحريري موعد محبة يجمع ولا يفرق وأن لا يحوط ضريح رفيقك الشهيد سوى من جاء ليدعو الله بالرحمة أو يقرأ فاتحة رب العالمين". على حد ما جاء على لسان نازك الحريري.<BR>والفريقان في مأزق في الساحات كما في السياسة، فأنصار الحريري لن يجدوا مكاناً آخر للتجمع غير جوار ضريح الحريري بساحة الشهداء، كما أن الموالين لسوريا المتواجدين على مقربة منهم ربما سيجدون أنفسهم في وضع حرج بين الاستحقاق الأخلاقي والسياسي وهما هنا متعارضان بالتأكيد، وفي الحالين يخسرون، إن في إخلاء المكان أو في الاحتكاك مع المؤبنين.<BR>ومهما يكن من أمر؛ فإن المشكلة الأهم لا تكمن في الساحات والميادين، بل فيما تخلف عن الاغتيال ذاته مما يستعصي معه إيجاد مخرج لأزمة اغتيال الحريري وما ترتب عليها من نتائج لم تعد رهينة السنتين الماضيتين فحسب، وإنما تتجاوز تداعياتها مدى زمنياً قصيراً نسبياً هكذا بكثير، لاسيما إذا ما قيست بحجم هذه الشخصية الكبيرة الغائبة التي لم تتكرر في التاريخ اللبناني الحديث كثيراً بكل ما تحمله من ثقل شخصي متشعب الأبعاد.<BR>فلقد كان للراحل رفيق الحريري كاريزما وعلاقات محلية وإقليمية ودولية قل أن تتوافر لزعيم لبناني معاصر آخر، ويعزز هذه الكاريزما نفوذ اقتصادي وافر وآلة إعلامية ممتدة، وبنية شخصية نازعة نحو تجاوز الحدود المتعارف عليها للزعيم السني في لبنان. <BR>ويعد ظهور الحريري بشكل مباشر ظاهر على الساحة اللبنانية إبان الإعلان عن نهاية الحرب الأهلية من مدينة "الطائف". وكان الحريري أحد أبرز عرابي ذلك الاتفاق عام 1989 الذي أصبح دستور لبنان الجديد، كما أن مما نتج عن اتفاق الطائف تعزيز صلاحيات رئيس مجلس الوزراء على حساب رئيس الجمهورية، وإن كانت هذه التعزيزات دون طموحات السنة في لبنان الذين يشكون من قلة تمثيلهم البرلماني والحكومي قياساً إلى نسبتهم. <BR>ومما يحسب للحريري على مائدة النفوذ القيادي أنه خلال ستة عشر عاماً قضاها فاعلاً بصورة كبيرة في السياسة اللبنانية منذ اتفاق الطائف، ظل بقاؤه في سدة رئاسة الوزراء لمعظم الحكومات المشكلة في لبنان، وحتى حين كان خارج الوزارة كان ينظر إليه على أنه الغائب الحاضر في السياسة اللبنانية وكان ينتظر صعوداً أكبر له قبل اغتياله، وهو ما منح خليفته شعبية كبيرة دون كبير عناء. <BR>ويحفظ اللبنانيون للحريري فضله في إعادة إعمار وسط بيروت الذي لم يسلم من انتقادات حادة من كثير من معارضيه، كما أن كثيراً من الجسور والطرق التي بناها الحريري قد جرى تدميرها في الحرب التي تلت اغتياله لتختفي بعض من مجهوداته مع غيابه. <BR>وأبرز ما يحفظه السنة للزعيم الحريري، ليس فقط مساهماته في التقليل من معدلات البطالة، وإنما نجاحه في تحجيم الانقسام في الطائفة السنية الذي ظل مهيمناً عليها في بيروت وصيدا وطرابلس (أبرز مناطق السنة) حتى ظهوره على المسرح السياسي اللبناني. <BR>كما، أن علاقاته الوثيقة بالعربية السعودية، وبمؤسسات اقتصادية عالمية قد مكنته من جذب استثمارات للبنان وتحفيز تلك المؤسسات على المساهمة الجدية في عملية إعمار لبنان. <BR> وتمكن شيئاً فشيئاً في خلال تلك السنوات من تأكيد زعامته على الطائفة السنية بأكملها، بعدما تحول إلى الرجل القوي إن لم يكن الأقوى بين رؤساء المواقع الطائفية الأخرى.<BR>بيد أن أبرز ما خلفه الحريري هو هذا الشعور الطاغي بحجمه الحقيقي كرمانة ميزان حافظت دوماً على قدر من التعايش بين الطوائف والقوى المختلفة برغم أنه كان شاهداً على زمن تنامى فيه النفوذ السوري على نحو جعل لبنان السلطة خارج السيادة الوطنية، ولم يكن بمقدوره وحده أن يحفظ للبنان قدراً من الاستقلال أعلى من ذلك الذي حاول أن يحققه له في ظل توازنات إقليمية ودولية هي من الصلابة بما يجعلها عصية على التليين من قبل قائد محلي مهما بلغت حظوظ نفوذه وتشعبات علاقاته. <BR>واليوم يبدو لبنان مستمر في دوامة عدم الاستقرار التي أرادها خصوم الحريري، وجعلت هذا البلد الهادئ في مهب الريح بانتظار ما تقرره طهران ودمشق وواشنطن وتل أبيب. <BR> وفي قلب المشهد اللبناني، يرى لبنان وهو يجاوز عامين على اغتيال الحريري ما زال أسير هذه العملية التي فجرت سيارة الحريري فانفجر معها لبنان كله، فرحل السوريون من لبنان واشتعلت حرب في الجنوب سقط فيها من الجانبين ما لم يسقط خلال عشر سنوات، وعاد عون وجعجع إلى الصراع، وتجاوز النفوذ الإيراني في لبنان نظيره السوري، وامتلأت الشوارع بأعلام لبنان التي يحملها الفرقاء، وتراجع النمو الاقتصادي، واهتزت الثقة بالاستثمار، وفقد السنة أكبر ظهير سياسي لهم في الداخل منذ اغتيال مفتي لبنان الأسبق في 16/5/1989على أيدي السوريين مثلما ألمح إلى ذلك ابنه سعد الدين خالد لمجلة الشراع اللبنانية، وكذلك خصم الشيخ، عبد الحليم خدام نائب الرئيس السوري السابق حين قال :"لقد قتل غازي كنعان لأنه يعرف حقائق اغتيال المرحوم رفيق الحريري ولأنه يعرف من قتل مفتي لبنان السابق الشيخ حسن خالد" وفقا لأخبار الشرق 5/7/2006، وعاد لبنان في قضية الإعمار ـ التي كانت أحد أبرز إنجازات الحريري ـ إلى نقطة البداية مجدداً، فكان الاغتيال نقطة فارقة في حياة لبنان مثلما كانت أحداث سبتمبر نقطة فارقة في حياة العالم. <BR> فقد مثل اغتيال الحريري نقطة تحول في كل أركان المشهد اللبناني ومحيطه الإقليمي وامتداده الدولي، فالحريري ليس شخصية سنية بارزة فحسب، بل قد تعدى نطاقه السني إلى الإبحار في أفلاك محلية وإقليمية ودولية.<BR>وبالتالي فقد تعدى تأثير غيابه على هذا النحو النطاق الطائفي ـ إن جاز التعبير ـ إلى آفاق أوسع مما يعتقد للوهلة الأولى: <BR>محلياً: <BR>تلقى السنة ضربة قوية بغيابه، وبالتالي بدا بعد ذلك صعوبة حلول شخصية تأثيرية محله في قيادة الطائفة السنية سياسياً، غير أن عوامل أخرى قد ساهمت في إعادة العقرب قليلاً إلى الوراء، بما لا يعني بالضرورة عودة كاريزما الحريري إلى خليفته أو خلفائه، وإنما تأثر السنة تحت طائلة الشعور بالتهميش الذي قد يحدث لهم بالحاجة إلى قدر أعلى من اللحمة. <BR>والحق أن الظروف الإقليمية ساهمت كثيراً في تعزيز مكانة السنة نتيجة ضغوط مورست بالفعل على إيران وسوريا في لبنان غلت أيديهما كثيراً عن التحرك الداعم للقوى المناوئة لتيار المستقبل الذي كان للرئيس الحريري وحل محله ابنه سعد الحريري. <BR>كذلك؛ فإن ما يحدث في العراق من مشاهد القتل الطائفي ساهم إلى حد كبير في زيادة مخاوف السنة اللبنانيين من امتداد لهيب الحرب الأهلية إليهم، وقد تنوقلت على الفور لدى اشتداد الأزمة اللبنانية بعد تصعيد فريق 8 مارس لهجته التخوينية لفريق 14 مارس، أنباء عن عودة تسلح معظم الطوائف لاسيما تيار المستقبل (الحريري) واللقاء الديمقراطي (وليد جنبلاط) والقوات اللبنانية (جعجع). <BR>وقد تحول على الفور تيار المستقبل بزعامة رفيق الحريري الذي كانت خصومته مع الرئيس لحود و"حزب الله" على مدى سنوات غير قليلة حبيسة الأروقة السياسية المغلقة، لدى اغتياله إلى خصم سياسي، وزادت هوة الخلافات بين الفريقين السني والشيعي، وحدث استقطاب يكاد ينذر بحرب أهلية. <BR>إقليمياً، يعد اغتيال الحريري ضربة قوية للنفوذ العربي السني في لبنان، لاسيما لدى السعودية التي كان الراحل قريب الصلة بالأسرة المالكة، وكان للأخيرة دورها في جمع الفرقاء في الطائف خارجين باتفاقية حقنت الدماء اللبنانية لمدة طويلة نسبياً. <BR>وإقليمياً أيضاً، سرى شعور شعبي، لم ينفك عن الأحداث الطائفية الدائرة على مقربة من لبنان (العراق)، والتي أوصلت رسالة شعبية ـ قد تكون صحيحة أو لا ـ باستهداف متعمد للسنة على خلفية طائفية. <BR>دولياً، لم يخف تأثير الاغتيال على ازدياد النفوذ الأمريكي في لبنان على حساب فرنسا من جهة، وإيران وسوريا من جهة أخرى، ويُعرف الحريري كأحد حلفاء فرنسا الوثيقين، والذي ترجمت فرنسا اغتياله مباشرة بإعادة اللعب مجدداً بورقة ميشيل عون المنفي لديها لمدة 15 عاماً، كما أن غياب الحريري، وإن كان في محل خصومة مع سوريا مؤخراً وأيضاً بدرجة ما مع إيران؛ فقد أثر عليهما سلبياً لأنه جعل الأولى في دائرة إطلاق الاتهامات، بما استتبع ذلك من التلويح بعصا ملاحقة كبار المسؤولين في سوريا تحت طائلة المحاكمة الدولية بشأن اغتيال الحريري. <BR><BR>ومن ثَم، يبقى المؤشر على انحرافه لم يبرح مكانه منذ اغتيال الزعيم اللبناني الأبرز في لبنان، ولا يبدو في الأفق ما يهيئ لبنان إلى التعافي من آثار هذا الاغتيال..<BR><br>