المصالحة في الجزائر: وسيلة أم غاية؟؟
12 ذو القعدة 1427

هل صحيح أن الجزائر باتت تقف على عتبة تحقيق مشروع المصالحة الذي راهن الرئيس بوتفليقة على نجاحه منذ بلوغه سدة السلطة قبل أكثر من سبع سنوات من الآن؟ ما المشكلة التي تمنع اكتمال حق الجزائريين في العيش باستقرار و أمان في البلد الذي كان يطمح إبان عهد (الرئيس الأسب) هواري بومدين أنه سوف يبلغ مصاف إيطاليا و إسبانيا مع الألفية الثالثة و الذي يفاجأ مواطنوه أن جل حلمهم الآن لا يعدو أن يكون العودة بالجزائر إلى ما قبل التسعينيات بذلا من ذلك؟ ثم ماذا عن هذه الموجة المتصاعدة من ألأعمال المسلحة و التي قال آخر تقرير نشرته مصالح الأمن عنها أن ثمانية جنود قتلوا نتيجة لغم أرضي مزروع من قبل الجماعات المسلحة، انفجر في طريقهم ليطرح بذلك ألف سؤال و سؤال.<BR>الحقيقة أنه و حتى قبل انتهاء الآجال التي حددها مرسوم المصالحة الوطنية باتجاه المجموعات المسلحة لتقرر هذه الأخيرة الاقلاع عن نشاطاتها في سبيل أن تستفيد من التدابير التي شرعها ذات المرسوم، لم تدخر الجماعة السلفية للدعوة و القتال، الجسدق اختصارا، جهدا لكي تعلن عن موقفها الصريح تجاه ذلك بأنها ترفض أن تصافح ما أسماه الرئيس بوتفليقة على أنه 'يد ممدودة لها'.<BR>إذن و على العكس مما كان مفترضا و متوقعا حتى، ارتأت قيادة هذا التنظيم، الذي هو آخر معاقل الجماعات المسلحة بعد أن تم القضاء على غيره سواء من خلال التدابير الأمنية النظامية أو الترتيبات السياسية مثلما جرى مع الجيش الإسلامي للإنقاذ الذي قرر طواعية التنازل عن السلاح و عودة أفراده إلى الحياة الطبيعية، أن الظرف مناسب لكي تعمل على زيادة حدة عملياتها خصوصا في ناحية ولاية 'بومرداس' الواقعة على بعد بضع عشرات الكيلومترات إلى الشرق من العاصمة. في هذا الإطار، شهد شهر أيار/مايو السابق مثلا، انفجار قنبلة في وسط هذه المدينة أدت إلى إصابة خمس مواطنين بين شرطة و مدنيين بسطاء شاء القدر أن يكونوا متواجدين عند الانفجار و هي الرسالة التي فهم منها وقتها أن الجسدق قرر أن يواصل ضرباته في أي مكان و هذا ما تأكد بعد ذلك بنحو شهر إذ شهد يوم 19 حزيران/يونيو، انفجار قنبلة من صنع تقليدي أخرى، في أحد مداخل سوق منطقة 'تيجلابين' على مشارف العاصمة، و هي سوق للسيارات ذات شهرة وطنية كبيرة بمعنى أنها سوق يقصدها عدد كبير من الجزائريين و من مختلف مناطق البلاد و لقد أدى الانفجار إلى إصابة ثلاثة أفراد من دورية لقوات الشرطة المحلية وفقا لما قالته البيانات الرسمية ثم بعد ذلك و في السادس من الشهر التالي، سقط عنصران آخران من ذات القوة بانفجار وقع في المكان عينه و لكن هذا الانفجار الأخير، وقع بعيد انفجار آخر في المنطقة التي تسمى 'مربع الشهداء' الواقعة إلى الجنوب من مقر نفس الولاية دوما إلا أن هذا التفجير الأخير لم يوقع إصابات بشرية؛ لأن أفراد القوة الأمنية استطاعوا اكتشاف القنبلة التي كان يفترض أن تنفجر بالتزامن مع الحفل التأبيني الذي يقام عادة كل سنة في ذلك التاريخ الذي يصادف مناسبة الاحتفال بالذكرى السنوية لاستقلال البلاد في الخامس من شهر تموز/يوليو. <BR>هذه الانفجارات ليست العمليات الوحيدة في المنطقة لأن هذه الناحية التي هي من صلب إقليم القبائل الممتلئ أصلا بكل صنوف التنافر السياسي بين السلطة و المعارضة الأمازيغية التي تعرف باسم 'العروش'، تعرف و بشكل يومي تقريبا، وقوع أنواع أخرى من الأنشطة المسلحة التي تسيل المزيد من دماء الجزائريين و التي بات بعضها حاليا يأخذ طابع عمليات العصابات المسلحة الإجرامية كتلك الاختطافات الكثيرة التي انتشرت مؤخرا لأناس يجري التفاوض بعدها مع أهاليهم في سبيل 'فديتهم' في حين أن إمام مسجد منطقة 'قدارة' المنتمية لذات الولاية أُغتيل في نهاية شهر يوليو نفسه من قبل مجموعة مسلحة تقول السلطات أنها من الجسدق و ليس هذا كل ما في الأمر لأن الاغتيالات ما تزال مستمرة لحد كتبة هذا التقرير و لقد أدت إلى مقتل العشرات من الناس و بنفس الطريقة تقريبا: بضع رصاصات كفيلة بأن تودي بحياة أي شخص لتنقلب بعدها حياة عوائل بأكملها رأسا على عقب.<BR>الغريب أنه و بالتزامن مع وقوع هذه الفجائع، يجري الحديث على أن المصالحة الوطنية ماضية في طريقها لأن الإدارات تعكف على معالجة ملفات آلاف من المسلحين الذين قرروا توقيف أنشطتهم خلال السنوات الماضية من عمر الأزمة الدامية التي مر عليها لحد الساعة أكثر من أربعة شعر عاما كاملة و خلفت باعتراف الجهات الرسمية نفسها، سقوط ما لا يقل عن المائة ألف جزائري و الواقع أن هذا الرقم الأخير لا يمثل غير نصف ذلك الرقم الذي تورده منظمات حقوقية أخرى مضافا إليه رقم آلاف عديدة من شريحة 'المفقودين' الذين باتوا هم أيضا يمثلون مستندا شائكا في ملف المأساة و لا تبدو نهايته قريبة بما أن قضية هؤلاء التي تتجاذبها تنظيمات مدنية كثيرة، ليست على مرمى حجر من التوصل إلى صيغة ترضي أُسَرهم و ذويهم.<BR>في هذه الأثناء، لا ينفك الحديث الذي يتناقله الشارع الجزائري عندنا يفيد بأن قرب الخروج من النفق بات قاب قوسين أو أدنى خصوصا مع عودة الأستاذ رابح كبير، مسئول الهيئة التنفيذية للجبهة الإسلامية للإنقاذ من منفاه في ألمانيا على الرغم من أن هذه 'العودة' التي كانت في أيامها الأولى تمثل دليلا قويا على حسن نية السلطة في إيجاد مخرج عملي للأزمة، صارت حاليا لا تمثل غير مجرد حلقة جديدة من مسلسل 'الاستدراج' الذي تمارسه الجهات العليا في الدولة بقصد تفريغ جيوب الحزب الإسلامي الأكبر في الجزائر و ربما في العالم العربي برمته، من كل تأثير سياسي فعلي من خلال خلق انقسام بنيوي داخلي فيه و هذا ما توضح جليا حينما أعلن هذا العائد أنه سوف يسعى إلى تشكيل حزب سياسي جديد على أنقاض الإنقاذ لولا أن غيره من القيادات التاريخية صرحوا في أكثر من مناسبة أن خطوة من هذا الحجم كان ينبغي إقرارها بالتشاور مع كل الأطراف داخل الحزب.<BR>على رأس هؤلاء، كان موقف الدكتور عباسي مدني الذي أعلن أنه يرفض و بشكل مطلق، فكرة أن يعمد كبير إلى تأسيس الحزب بطريقة منفردة حتى و إن كان الدكتور عباسي أعرب على أنه لا يعارض فكرة أن يتأسس الحزب تحت مسمى جديد و هو الموقف الذي يمكننا عده بحقه، تطورا مهما لأن القيادة التاريخية ظلت قبل اليوم تصر على أن أول خطوة نحو الحل الفعلي للأزمة لا بد و أن تمر حتما، عبر بوابة إعادة الحقوق إلى أصحابها و أول هذه الحقوق بطبيعة الحال هي عودة الجبهة الإسلامية للإنقاذ باسمها القديم و تحت قيادة رموزها الفعليين بلا استثناء و إن كانت الأزمة الدموية قد أدت إلى مقتل عدد كبير من بينهم.<BR>موقف الدكتور عباسي على الرغم من أنه يعد متطورا إلا أنه من ناحية أخرى أيضا يصطدم بحقيقة أن هذا الشرط المبدئي لم يعد عمليا إن صح التعبير بدليل أن كبير الذي هو قيادي تاريخي أيضا، لم يعد موافقا عليه و لعل في تصريحه الذي أدلى به في المؤتمر الصحفي الذي عقده عشية عودته إلى ألمانيا مسافرا هذه المرة، و الذي قال فيه بالحرف الواحد: "إنني أرفض أن تعود جبهة الإنقاذ للساحة حتى و لو قبلت السلطة ذلك". في هذا الكلام دليل إضافي على أن جزائر 2006 لم تعد تلك الجزائر التي قررت قيادة الجيش فيها أوائل العام 1992 أن الطريقة المثلى لحفظ النظام الجمهوري هناك تتمحور حول إلغاء نتائج الدور الأول لأول انتخابات تعددية حقيقية أجريت فيها و عرفت فوزا ساحقا لمرشحي الإنقاذ مثلما هو معروف.<BR>من بين المواقف المعارضة الأخرى لمنطق الأستاذ كبير في صفوف الإنقاذيين، يمكننا هنا أن نسجل أيضا موقف تيار البناء الحضاري الذي يمثله الدكتور أنور نصر الدين هدام المقيم في العاصمة الأمريكية واشنطن و هذا الأخير على الرغم من أنه أبدى استعداده أكثر من مرة لأجل العودة و المساهمة في تقوية جناح 'المصالحين' داخل دواليب السلطة إلا أنه لم يربط هذه العودة بعودة الإنقاذ وفقا لوجهة نظر كبير و إنما اكتفى فقط بأن هدفه الأولي سيكون: تعزيز المصالحة وصولا إلى توفير أجواء داخلية أفضل من هذه و بالتالي، تحقيق شروط الحل الكلي للمأزق دونما حاجة إلى تقديم تنازلات مجانية لجهات ليست بالضرورة تعمل في سبيل تحقيق التصالح بين عموم الجزائريين.<BR>صحيح أن مطلب المصالحة بات خيارا تتبناه كل الجهات الظاهرة على الساحة السياسية في البلاد و لكنه من الصحيح أيضا أن جهات كثيرة من هذه 'الأطراف' لا تعدو أن تكون 'عرائس قراقوز'، وفقا لتعبير الشيخ علي بن حاج الذي ما يزال مصرا على أن طريق الحل واحدة و لم تتغير منذ البداية: الاعتراف بالخطأ التاريخي الذي ارتكب في حق مسيرة الجزائر المعاصرة و عودة الجبهة تحت اسمها الذي بات، على حسب بن حاج دوما، إرثا لا يمكن التفريط فيه أو المساومة عليه. هذا يعني إذن أن كثرة المطبلين للمصالحة في الوقت ليسوا في الواقع غير ديكور فرضته 'ضوابط' السير مع الرئيس بوتفليقة لأن نفس هؤلاء المتملقين كانوا سابقا من أشد أنصار الحل الأمني الاستئصالي حينما كان الجنرال زروال على رأس البلاد.<BR>من هنا يمكننا أخيرا أن نستنتج أن الأزمة التي شارف عمرها على العقدين، سوف تظل حاضرة ما لم تعمل الجهات المؤثرة حقا و بطريقة ناجعة في سبيل إزالة مسبباتها و صناعة ظروف تمنع تكررها لأن ما يقع في الوقت الحالي على حد تعبير المفكر الأستاذ الطيب برغوث، الذي هو من أبرز رموز العمل الدعوي في الجزائر و المغرب العربي عموما، لا يعدو أن يكون تأجيلا للصراع و حلا لأزمة حالية من خلال غرس بذور أزمات مستقبلية قد تبقي البلاد تحت رحمة دوامة من المآزق و الصراعات لأجيال لاحقة و التي لن تأخذ بالضرورة صبغة الصراع السلطة و الإسلاميين و إنما قد تصير مستقبلا صراعا عماده الانتماء المناطقي و العرقي لأن الجسدق على الرغم من أنها تقول أنها ذات طابع جهادي إسلامي صريح إلا أنها من ناحية أخرى خفية، تنظيم ينتمي أغلب أفراده إلى منطقة القبائل الأمازيغية فضلا على أن التفجير الذي أقدمت عليه أواخر شهر تشرين الأول/أكتوبر الأخير و الذي استهدف مركزين للشرطة في بومرداس دائما و أسقط في هذه المرة عددا من القتلى و الجرحى واقدامها قبيل ذلك على اغتيال رئيس المجلس الولائي المنتخب لولاية 'تيزي وزو' القبائلية أيضا، رسالة أخرى مفادها أن لهؤلاء حسابات أخرى لا تتوقف عند مجرد عودة فلان أو خروج علان.<BR><br>