تونس: إلى انفراج أم انفجار ؟
11 صفر 1427

ربما مثلت تونس على مدار سنوات طويلة أقسى نماذج انتهاكات حقوق الإنسان في منظومة الاستبداد العربي على قسوتها جميعا ، فمنذ أن اعتلى ابن علي سدة السلطة عام 1987 عبر الانقلاب وتعيش الدولة التونسية وشعبها حالة من حالات الاحتقان العام التي تعتمل في جوهر المجتمع وجنباته، وتقريبا منذ العام 1990 قد أصبحت سياسة تونس الأمنية نموذجاً فريداً في القمع، ويذوق التونسيين الأمرين من نظام سياسي يضيق بالحريات العامة وحقوق الإنسان ويتدرع بحماية القطب الأوحد الذي يمثل له الظهير المساند <BR>وفي الأيام الأخيرة شهدت تونس حالة من حالات الانفراج السياسي، ففي يوم السبت 25 فبراير 2006 تم الإفراج عن عدد كبير من المساجين ( 1600)، سواء عن طريق العفو الرئاسي أو السراح الشرطي، ومن الذين تم الإفراج عنهم أكثر من سبعين سجينا سياسيا حوكم أغلبهم بتهمة الانتماء إلى حركة النهضة، وكانت قد صدرت بشأنهم أحكام تصل إلى 24 سنة أمام المحاكم المدنية والعسكرية رغم أن تلك المحاكمات تمت في ظل ظروف لم تتوفّر فيها أدنى ضمانات حقوق الإنسان بالإضافة إلى تعرضهم للتعذيب في مقرات وزارة الداخلية وإقامتهم في ظروف جدّ متردّية بالسجون التونسية. <BR><font color="#0000FF"> تاريخ طويل من الاستبداد </font><BR>المطالع لكل تقارير المنظمات الحقوقية الدولية يلحظ المساحة الواسعة التي تحتلها تونس في تلك التقارير وما ذلك لشيء إلا لفداحة الانتهاكات التي يتلقاها البشر في تلك الدولة الصغيرة والتي اشتهر عنها محاولاتها في تصدير الخدمات الأمنية وتدريب أجهزة الشرطة في بعض الدول العربية على انتزاع الاعترافات وتلفيق الاتهامات الخطيرة بمحاولات قلب نظام الحكم خاصة للإسلاميين <BR>فكما جاء في تقرير منظمة هيومان رايتس ووتش (تقرير عام 2005) : "تواصل الحكومة التونسية استغلال خطر الإرهاب والتطرف الديني كذريعة لقمع المعارضة السلمية. وتفرض السلطات قيوداً مشددة تعوق ممارسة الحق في حرية التعبير وحرية تكوين الجمعيات والانضمام إليها. وكثيراً ما يتعرض من ينتقدون الحكومة للمضايقة أو السجن بتهم ملفقة بعد محاكمات جائرة".<BR>والمطلع على تقارير المنظمات الحقوقية، سواء من ظل يعمل من داخل التراب التونسي وقضى نحبه أو هجر بلاده ينتظر يهاله الهوة السحيقة التي سقطت فيها أجهزة الدولة التونسية من اعتقال الآلاف من الشباب التونسي بتهمة الإرهاب، واستخدام التعذيب بشكل منهجي وتلفيق التهم ضدّهم بدعوى "المشاركة في المجهود الدولي لمكافحة الإرهاب".<BR>ولقد حذّرت منظمات حقوقية عدة من سياسة الحبس الانفرادي طويل الأمد، التي أكدت أنه يُعمل بها في السجون التونسية، وبشكل مخالف لحقوق الإنسان وللقانون التونسي ذاته، وكما جاء في تقرير منظمة "هيومن رايتس ووتش" الذي صدر مؤخرا في باريس، إن الحكومة التونسية تحتجز عشرات السجناء السياسيين في ظروف غير إنسانية، رهن الحبس الانفرادي. <BR>وفي تقريرها، الذي يقع في 33 صفحة، والصادر تحت عنوان: "تونس: الحبس الانفرادي طويل الأمد للسجناء السياسيين"؛ توثق المنظمة المدافعة عن حقوق الإنسان كيف تواصل السلطات التونسية احتجاز نحو 40 من السجناء السياسيين، في عزلة طويلة الأمد، في مختلف السجون التونسية، وهي سياسة تؤكد المنظمة أنها "تشكل انتهاكاً للقانون التونسي، فضلاً عن المعايير الجنائية الدولية، وتقوض ما تدعيه الحكومة من إصلاح السجون"، على حد تعبيرها. <BR>وقد قضى بعض هؤلاء السجناء السياسيين ما يزيد على 13 عاماً في عزلة تامة، باستثناء فترات قليلة أخرجتهم فيها السلطات من عزلتهم. ولا يتاح لهم أي اتصال بشري مباشر إلا بموظفي السجن، وأثناء الزيارات العائلية القصيرة. ويُحتجز معظم السجناء في زنزاناتهم طيلة 23 ساعة أو أكثر يومياً، وتوضع قيود بالغة الصرامة على حرية اطلاعهم على الكتب وغيرها من وسائل الإعلام، حسب التقرير.<BR>وأوضح التقرير الحقوقي أن جميع السجناء المحتجزين في عزلة طويلة الأمد هم من الإسلاميين، ومعظمهم من زعماء حركة "النهضة" التونسية، ولم تبلغهم السلطات بسبب عزلهم، أو تتح لهم أي سبيل للطعن في قرار حبسهم على هذا النحو. ويرى التقرير إن الرئيس التونسي زين العابدين بن علي قد تساهل مع حركة "النهضة" في السنوات الأولى من حكمه، ثم انقض عليها سنة 1990، ولا تزال حملته عليها مستمرة حتى هذا اليوم.<BR><font color="#0000FF"> مستقبل غامض : بين الانفراج والانفجار </font><BR>تأتي تلك الإفراجات في وقت تتغير فيه المعادلات الحاكمة لمجمل العملية السياسية فيما يعرف ببلدان الشرق الأوسط وفي قلبه العالم العربي ذلك أن النظام التونسي مهما بلغت درجة تجبره على شعبه لا يستطيع أن يتجاهل المتغيرات الإقليمية والدولية من حوله فما عادت الدول الاستبدادية تستطيع أن ترفع أسوارها عاليا بما لا تصل إليه وسائل الإعلام وأشكال الميديا المعروفة التي تخطت في مجملها أعتى النظم السياسية <BR>كما لا يستطيع النظام التونسي مهما بلغت درجة تجبره أن يتجاهل التغيرات الحاصلة من هبوب ريح الانفراج في نظم سياسية مجاورة ربما شهدت ما لم تشهده تونس من تفجر حرب أهلية دائرة أكلت الأخضر واليابس في سبيلها تلك الحروب التي لا يمكن لطرف أن ينتصر فيها فالكل فيها مغلوب وكما يقول الأستاذ فهمي هويدي في مقاله أزمة الحريات في العالم العربي "تونس نموذجاً" : ثمة حراك داخلي في تونس لا تخطئه عين المراقب، يتواكب مع الحراك المماثل الذي تشهده أقطار عربية أخرى، مصر في مقدمتها، وكله يصب في وعاء السعي لرفع سقف الحريات وفك القيود التي تكبل شوق المجتمعات العربية إلى الحرية والعدل.<BR>ولا يستطيع النظام التونسي مهما بلغت درجة عناده أن ينسى تلك الانتصارات السياسية التي يحققها رموز التيار الإسلامي في كل المواعيد الانتخابية في مصر وفلسطين وغيرها من البلاد العربية <BR>والنظام التونسي مهما بلغت درجة عناده لا يستطيع أن يتجاهل الحجم الكبير للتيار الإسلامي التونسي خاصة بعد أن انفتح هذا التيار على مجمل التركيبة السياسية التونسية بمختلف ألوان طيفها وينسق حركته في إطارها في إطار ما عرف بحركة 18 أكتوبر وهو تحالف واسع من كل ألوان الطيف التونسي يهدف مواجهة النظام الاستبدادي <BR>بالطبع لن ننتظر من النظام التونسي أن يحذو حذو النظام المغربي ويشكل لجنة لإنصاف والمصالحة أو حذو النظام الجزائر ويخلق حالة من حالات العفو العام في المجتمع تتجاوز جراحات الماضي وآثاره الوبيلة على بينة المجتمع وقسماته الأساسية ، لكن يبدو أن تلك الحالة من حالات الإفراج عن المعتقلين السياسيين قد مارسها النظام التونسي من قبل، وربما كان الهدف منها هو تطبيق لسياسة الهروب إلى الأمام التي نادرا ما تجدي مع نظمنا العربية ، ففي العام 1999 أطلق النظام التونسي سراح 600 سجين سياسي يتهم معظمهم بالانتماء إلى حركة النهضة الإسلامية وذلك بمناسبة مرور اثني عشر عاما على تولي الرئيس زين العابدين بن على للسلطة تلك البلد التي بلغت عبادة الفرد فيه مستوى ربما لم تصله دولة عربية أخرى على فداحة ما وصلت إليه النظم الاستبدادية في عالمنا العربي حتى أن مديح وسائل الإعلام اليومية لرئيس الدولة يرقي إلى مصاف الطقس الديني الحقيقي .<BR><font color="#0000FF">وتأتي هذه الإفراجات الأخيرة لتضع النظام التونسي أمام بديلين: </font><BR>1- إما أن تكون تلك الإفراجات شبيهه بما أقدم عليه النظام من قبل فتكون البلد مقبلة على انفجار أو وضع يذكرنا بالانتفاضات الشعبية السابقة التي اندلعت في دول عربية عدة، وتظل تلك الإفراجات منقوصة ما لم يتبعها الإفراج عن باقي السجناء السياسيين و سن قانون عفو تشريعي عام وإنهاء المعاناة الإنسانية التي يعيشها أغلب أفراد التيار الإسلامي في تونس وأغلب الأفراد المدافعين عن الحريات والحقوق العامة وما لم تتبعها كذلك خطوات أخرى على درب الإصلاح و إطلاق الحريات وتحرير الحياة السياسية من الاستبداد، والكف عن ملاحقة السجناء المسرحين عبر الإجراءات الإدارية التعسفية والحرمان من حق العمل وحق الانتقال وجواز السفر، ومجمل ذلك كله الكف عن استخدام مكافحة الإرهاب كذريعة لإسكات خصوم النظام وترهيبهم .<BR>2- أو تكون مقدمة لتخفيف حالة الاحتقان التي يحياها المجتمع التونسي فتكون بداية حقيقية لانفراجه تقوم على اعتبار الإسلاميين مكون من مكونات المجتمع ومن حق الجميع المكفول قانونيا ودستوريا أن ينشط بصفة قانونية وفي العلن وبالطريقة السلمية وأن يحترم القانون وأن يكون له وعليه ما لكل الأطراف السياسية الأخرى.<BR>وما بين ذلك الأمرين ( الانفجار والانفراج ) سيتحدد إلى درجة كبيرة مستقبل النظام التونسي <BR>لقد علمتنا تجارب الحركات السياسية أن المؤسسة العسكرية عندما تخون النظام الاستبدادي وترفض إطلاق النار على المتظاهرين في الشوارع والمعتصمين تحت ألوية مظلة عريضة من مؤسسات المجتمع المدني ساعتها تؤذن شمس النظام الاستبدادي بالمغيب وما تجربة النظم الاستبدادية في أوربا الشرقية عن ببعيد .<BR><BR><br>