الانسحاب من غزة لصالح الفلسطينيين أم الإسرائيليين ؟!
23 رجب 1426

شهدت الساحة الفلسطينية خلال الأيام الماضية، سابقة سياسية ذات أبعاد عسكرية، تمثّلت بالانسحاب الإسرائيلي من أراض فلسطينية محتلة في كل من قطاع غزة والضفة الغربية ضمن ما يعرف "بأراضي السلطة الفلسطينية".<BR><BR>ورغم وجود سابقة لهذا الانسحاب، إلا أن ما يميّزه هذه المرة هو تفكيك المستوطنات وترحيل آلاف الإسرائيليين من مستعمراتهم التي سكنوها قبل نحو 38 عاماً، منذ احتلال هذه الأرض، والخلافات التي رافقت إخلاء المستوطنات، والمقاومة الفلسطينية المسلحة التي شكّلت السبب الرئيس لخروج اليهود من هذه الأراضي.<BR><BR>ولأن كانت الأراضي التي انسحبت منها القوات الإسرائيلية لا تشكل سوى 1% من فلسطين المحتلة؛ إلا أن الحدث كان كبيراً، وشكّل نقطة أساسية في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، دارت حوله الكثير من النقاشات والتحليلات والمقارنات، كما تبعتها تفاعلات وأحداث انعكاسية على الصعيد المحلي والإقليمي والدولي.<BR><BR>ولكن السؤال الأهم الذي يبقى دون جواب دقيق، هو: لمصلحة من جاء الانسحاب الإسرائيلي ؟ وإن كان الفلسطينيين والإسرائيليين استفادوا من هذه الانسحاب، فمن هو المستفيد الأول ؟<BR><BR><font color="#0000ff">لمحة تاريخية:</font><BR>خلال الأعوام التي تبعت احتلالها للأراضي الفلسطينية، سارعت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة إلى نشر مستوطنات يهودية متفرقة، لسببين سياسيين رئيسين.<BR><BR>الأول: تأكيد احتلال الأراضي الفلسطينية، وتثبيت وجود المستعمرات ليكون لها حق الوجود كلما توالت السنون، وبالتالي يصبح التخلي عنها قضية شائكة ومعقدة، وتصبح المقايضة عليها أثمن.<BR><BR>الثاني: ضم المستوطنات المتباعدة إلى الكيان الصهيوني مع مرور الوقت، وتوسيع رقعة ما يعرف باسم (الدولة العبرية).<BR><BR>وبالإضافة إلى هذين السببين السياسيين، يوجد العديد من الأسباب الأخرى، كتأمين أماكن سكن لليهود القادمين من الدول الأخرى، وتأمين مستعمرات لبعض العرقيات أو التجمعات اليهودية (كاليهود المتشددين أو الفلاشا أو اليهود الروس) بالإضافة إلى الاستفادة من الأراضي الفلسطينية الخصبة لإقامة مشروعات زراعية للمستوطنين والدولة...إلخ.<BR><BR>وقد تم احتلال أراضي قطاع غزة وأراض في الضفة الغربية خلال ما يعرف باسم (حرب الأيام الستة، أو نكسة عام 1967م)، والتي قامت خلالها القوات الإسرائيلية باحتلال أراض في سيناء المصرية والجولان السورية، وكانت غزة وقتها تحت إشراف مصري والضفة الغربية تحت إشراف الأردن. <BR><BR>وخلال مفاوضات السلام (!) التي أطلقتها الحكومة الفلسطينية والإسرائيلية في أوسلو عام 1993، تم الاتفاق على تكوين دولة فلسطينية ذات سيادة على أراضي (الحكم الذاتي) التي شملت قطاع غزة والضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية. وتعهّدت الحكومة الإسرائيلية التي كان يرأسها إسحاق رابين على الانسحاب من تلك المناطق.<BR><BR>إلا أن رحيل رابين بعملية اغتيال يهودية متطرفة، ومجيء حكومة يهودية متشددة بقيادة بنيامين نتنياهو، أثّرت على تلك العملية، وبدأ مسلسل تأجيل قيام الدولة الفلسطينية أعواماً بعد أعوام.<BR><BR>وخلال الأعوام الـ38 التي سيطرت فيها قوات الاحتلال الإسرائيلية على قطاع غزة والضفة الغربية، حاول الإسرائيليون تغيير الصيغة الديموغرافية للمنطقة، وتكثيف الاستيطان اليهودي في مقابل ترحيل أهل المنطقة الفلسطينيين إلى الخارج.<BR><BR>إلا أن المقاومة الفلسطينية المسلحة التي أوجدت حالة عسكرية استثنائية، قلبت خلالها موازين التفكير الإسرائيلية؛ استطاعت أن تطوّر أسلحتها وأساليبها القتالية، لتنفيذ العديد من الضربات العسكرية ضد المستوطنات الإسرائيلية المقامة في تلك المناطق.<BR><BR>واستطاع مجاهدو المقاومة الوصول بأجسادهم -بعد تحويلها إلى قنابل- إلى العمق الإسرائيلي، كما وصلت صواريخ وقذائف المقاومة إلى داخل المستوطنات الإسرائيلية بسهولة.<BR><BR><font color="#0000ff">الانسحاب من وجهة نظر إسرائيلية:</font><BR>تتحرك الحكومة الإسرائيلية على مسارين أساسيين، الأول: بما يضمن سلامة وأمن اليهود القادمين من دول العالم للاستيطان داخل فلسطين المحتلة. والثاني: بما يحقق للإسرائيليين موقفاً دولياً مسانداً، بعد القرارات الدولية العديدة والمواقف الدولية المناهضة لهم، وتنامي حالات العداء لليهود، ورفض الدول العربية التطبيع معها.<BR><BR>وجاء قرار (رئيس الحكومة الإسرائيلي الحالي) آرييل شارون، وإصراره على تنفيذ خطة الانسحاب بما يتناسب مع هذه الأيديولوجية.<BR><BR>إذ جنّب الانسحاب الإسرائيلي من أراضي غزة والضفة اليهود المستوطنين؛ تعرضهم المستمر لقذائف وصواريخ وعمليات المقاومة المسلحة، وتم نقلهم إلى أراض داخل الخط الأخضر، أو في مستوطنات أخرى في الضفة الغربية.<BR><BR>واستطاعت الحكومة الإسرائيلية من خلال الانسحاب من أراض فلسطينية محتلة؛ مساومة الحكومة الفلسطينية الحالية على تشكيل خط دفاع أول للإسرائيليين في وجه المقاومة الفلسطينية المسلحة، على اعتبار أن الإسرائيليين سوف ينسحبون ويتركون الشرطة الفلسطينية لتحلّ محلهم في السلطة والدفاع عن أمن المستوطنين.<BR><BR>وبنفس السياسة، استطاعت الحكومة الإسرائيلية الاتفاق مع الحكومة المصرية على نشر نحو 750 جندي مصري ليقوموا مقام الاحتلال الإسرائيلي في تأمين الحدود المشتركة بين غزة ومصر، وضمان عدم وصول أي أسلحة إلى المقاومة الفلسطينية !<BR><BR>وعلى الصعيد الآخر، حصلت الحكومة الإسرائيلية على دعم دولي كبير لخطة الانسحاب، على اعتبار أن الحكومة تخلي مستوطنات إسرائيلية مأهولة بآلاف السكان في سبيل تحقيق السلام في المنطقة (!) وإعطاء الفلسطينيين حقهم في العيش بحرية على أراضيهم !<BR><BR>وطالما كانت الوسائل الإعلامية العالمية تتحدث عن عمليات المقاومة الفلسطينية المسلحة ضد قوات الاحتلال الإسرائيلية باعتبارها قوات احتلال في غزة والضفة الغربية، فإنها الآن ستنتقد أي عملية فلسطينية ضد الإسرائيليين الذين أخلوا مناطق الحكم الذاتية المتفق عليها في السابق !<BR><BR>تقول صحيفة (كرستيان سان مونيتور) الأمريكية: " الانسحاب الإسرائيلية من غزة سيعطي الإسرائيليين الحق المشروع في الرد بشكل قاس جداً ضد الفلسطينيين بحال نفذوا أي عملية فدائية جديدة ضد الإسرائيليين".<BR><BR>وهذا الفهم الخاطئ والمغلوط لحق الفلسطينيين في أراضي الضفة وقطاع غزة والقدس الشرقية فقط؛ أسسته اتفاقيات أوسلو السابقة، والتي صادرت الحق الفلسطيني أمام الرأي العام من المطالبة بأي أرض فلسطينية سوى تلك المعلنة تحت اسم (الحكم الذاتي) !<BR><BR><font color="#0000ff">الانسحاب من وجهة نظر الفلسطينيين:</font><BR>مع انقسام المجتمع الفلسطيني بين مقاومة مسلحة وأطراف حكومية وأطراف شعبية، تفاوتت وجهات النظر حول الانسحاب الإسرائيلي، ففي حين ترى طائفة كبيرة من المثقفين والإعلاميين والسياسيين الانسحاب على أنه "خدعة إسرائيلية أمام الرأي العام لتمرير مشاريع استيطانية أكبر في الضفة الغربية واحتلال القدس الشريف كاملة". رأت المقاومة الفلسطينية الانسحاب على أنه "نصر كبير ومؤزر للمقاومة، وثمن دفعته قوات الاحتلال الإسرائيلية والحكومة الإسرائيلية لاحتلالها غزة والضفة لسنوات طويلة، وحالة أكيدة لتطوير أسلحة المقاومة ووصولها إلى العمق الإسرائيلي".<BR><BR>لذلك فقد شهدت الشوارع الفلسطينية المسيرات والعروض العسكرية والهتافات لصالح فصائل المقاومة باعتبارها "المحرر" للأرض الفلسطينية.<BR><BR>وهو حق مشروع لتلك الفصائل التي استطاعت أن تحقق بالرصاص ما لم تستطع القيادات الفلسطينية تحقيقه بالاتفاقات المزعومة مع الاحتلال.<BR><BR>الشارع الفلسطيني وجد في الانسحاب الإسرائيلي فرصة للعيش بكرامة مجدداً، بعد سنوات من الذل والإهانة على الحدود والدوريات الإسرائيلية المقامة بين كل مدينة أو قرية وأخرى. وبات الآن بإمكان الفلسطينيين السير مئات الكيلومترات دون التعرض للإسرائيليين.<BR><BR>كما بات بمقدور العائلات الفلسطينية التي هدم الاحتلال منازلهم؛ الحصول على منازل في أراضي المستعمرات الإسرائيلية التي تم إخلاؤها، فضلاً عن الأراضي الزراعية وفرص العمل الجديدة وحلم الدولة الفلسطينية المستقلة.<BR><BR>الحكومة الفلسطينية رأت الانسحاب من زاوية جديدة، إذ أن حكومة أحمد قريع تحت حكم الرئيس محمود عباس شهدت لأول مرة من عمر النزاع الفلسطيني الإسرائيلي انسحاباً إسرائيلياً بهذا الحجم، ما أمّن لهم مكانة كبيرة كان الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات يحلم دوماً بتحقيقها.<BR>فضلاً عن الفرصة الجديدة التي باتت أمامهم لتحقيق الدولة الفلسطينية المستقلة الحلم (!)، والشعبية الكبيرة التي حاولوا استغلالها عبر إطلاق الوعود بتأمين العمل للعاطلين عنه (والذين وصلت نسبتهم في قطاع غزة إلى 60%) وتأمين منازل للعائلات التي هدم الاحتلال بيوتهم، وتطوير الاقتصاد الوطني من جديد، ومحاربة الفساد الإداري، وغيرها من الوعود الأخرى.<BR><BR><font color="#0000ff">ماذا بعد الانسحاب ؟</font><BR>في الوقت الذي كانت فيه قوات الاحتلال الإسرائيلية تخلي المستوطنات الإسرائيلية في غزة والضفة، كانت الحكومة الإسرائيلية تخطط لتوسعة مستعمرات الضفة الغربية.<BR>وبعد يومين من انتهاء الإخلاء، كشفت مصادر إسرائيلية عن وصول الاستيطان الإسرائيلي في الضفة إلى مستويات قياسية جديدة، بلغت نحو 250 ألف يهودي.<BR>حيث قال جيلاد هيمان (المتحدث باسم الداخلية الإسرائيلية) بعد انتهاء الانسحاب: " إن الزيادة ترجع بشكل رئيس إلى تدفق يهود أرثوذوكس إلى المستوطنات الكبرى في الضفة".<BR>مؤكداً أن هناك 246 ألف مستوطن يعيشون الآن في ما وصفها بالأرض المحتلة، وهو اعتراف أنها مقامة على أرض غير مشروعة دولياً !<BR>ولا يشمل هذا الرقم 200 ألف إسرائيلي يعيشون في القدس الشرقية التي ضمّتها الحكومة الإسرائيلية للكيان الصهيوني، حيث دعمت الحكومة الإسرائيلية بناء المستوطنات اليهودية شرق القدس الشرقية، لتكون فاصلاً ديموغرافياً بين الفلسطينيين والقدس، وبالتالي تصبح القدس كاملة تحت السيادة الإسرائيلية، وبمقارنة بسيطة نجد أن أعداد اليهود الذين قدموا إلى مستعمرات الضفة الغربية أكبر من المستوطنين الذين تم إخلائهم من مستعمرات غزة والضفة (مع ملاحظة أنه أعيد ترحيلهم إلى مستوطنات أخرى جديدة). مع العلم أن الاحتلال أخلى 4 مستوطنات في الضفة الغربية من أصل 120 مستوطنة غير شرعية!<BR><BR>فضلاً عن زيادة المتسوطنات، فإن الحكومة الإسرائيلية ماضية في تنفيذ جدار الفصل العنصري، الذي امتد ليشمل آلاف الكيلومترات من أراض الحكم الذاتي الفلسطينية في الضفة الغربية خاصة.<BR><BR>هذا على الصعيد الداخلي، أما على الصعيد الخارجي، فإن الحكومة الإسرائيلية ترى في الانسحاب فرصة لإيجاد أجواء جديدة أكثر انفتاحاً مع الدول العربية، حيث أعلن سيلفان شالوم (وزير الخارجية الإسرائيلي) أن (إسرائيل) قريبة جداً من تطبيع العلاقات مع دول عربية عديدة.<BR><BR>جاء ذلك خلال لقاء أجرته صحيفة (الرأي العام) الكويتية مع الوزير الإسرائيلي، نشرته في عددها الصادر بتاريخ 13/7/1426هـ.<BR>وكشف الوزير الإسرائيلي أن تل أبيب حققت تقدماً كبيراً في إطار تعزيز العلاقات مع دول عربية وإسلامية، بالقول: " إننا نستطيع أن نقيم علاقات طبيعية مع عشر دول عربية وإسلامية على الأقل، لدينا الآن مع ثلاث منها، هي مصر والأردن وموريتانيا ... ونحن قريبون جداً من تطبيع العلاقات مع دول أخرى، ولدينا اتصالات جيدة مع أقطار إسلامية".<BR>وأضاف "سنواصل عملية التطبيع والأمر مجرد وقت، وستساعدنا خطة الانفصال في إنجاز المزيد من عمليات التطبيع، ولدينا هنا ممثليات تونسية ومغربية وقطرية وعمانية".<BR><BR>كما طالبت الحكومة الإسرائيلية الإدارة الأمريكية بدفع نفقات الانسحاب من غزة، مقدرة تلك النفقات بـ2.2 مليار دولار.<BR>وقد دفعت الولايات المتحدة حتى الآن ملايين الدولارات من أموال دافعي الضرائب الأمريكيين، للحكومة الإسرائيلية.<BR>كل تلك الثمرات قطفتها وتقطفها الحكومة الإسرائيلية مقابل سحبها لنحو 11500 مستوطني يهودي من مستعمرات غير شرعية. <BR>فيما يأمل الفلسطينيون أن يبدؤوا في قطف الثمرة المنتظرة في غزة والضفة، والتي لن تسلّم لهم قبل أن يتم هدم كافة منازل المستوطنين اليهود السابقين. وسط مخاوف من نزاع بين المقاومة الفلسطينية والحكومة حول استمرار المقاومة المسلحة ضد الاحتلال.<BR><br>