تعديل الدستور في تشاد بين "لا" و"نعم" !
24 جمادى الثانية 1426

تمر القارة الأفريقية هذه الأيام بمرحلة يمكن أن نطلق عليها بـ "عصر الديمقراطية الأفريقية" البديلة عن مرحلة الانقلابات العسكرية والثورات، والحروب، والتي عانت منها القارة حيناً من الزمن.<BR>حيث تناقلت وسائل الإعلام المختلفة أنباء موسم التعديلات في بعض الدساتير في بعض البلدان الأفريقية كتعديل دستور مصر وتشاد وتوغو وأوغندا، حتى يتسنَّى للرؤساء الحاليين حق الترشح لمدة رئاسية ثالثة أو إعادة انتخابهم مرة أخرى، وجرت كذلك انتخابات في بعض البلدان كـغينيا بيساو والانتخابات الأثيوبية، والتي راح ضحيتها أكثر من 36 شخصاً وحوالي مئة جريح، وأكثر من ثلاثة آلاف معتقل، وتستعد بورندي لإجراء انتخابات بعد مرور 12 عاماً من الحرب الأهلية، والتي يقدّر ضحاياها أكثر من 350 ألف شخص وتشريد الملايين، وتجرى الاستعدادات للانتخابات في عدد من البلدان الأفريقية. <BR>كما انعقد أيضاً في الأسابيع المنصرمة قمة مالي الأفريقية حول قضايا الديمقراطية تحت عنوان : " قمة القيادة والحكم الديمقراطي " وذلك في المدة ما بين 5 ـ 8 يونيو 2005م.<BR><font color="#0000ff">الوجه الجديد للحكم في القارة :</font><BR>وهكذا فإن أفريقيا تنتقل إلى مرحلة أخرى من الصراع على الحكم عبر ما يسمى " بالانتخابات الديمقراطية الحرة والمباشرة "، وتحولت هذه المرحلة إلى مرحلة تكريس الحكم وأبديته تحت حاكم واحد كخطوة أخرى من خطوات التغيير التي تشهدها المنطقة الأفريقية في السنوات الأخيرة .<BR>وتقف وراء هذه الموجات عدة تيارات و قوى وطنية وغربية، وتسعى بعض القوى الغربية أن تنقل التجارب الناجحة في الإصلاح والديمقراطية والحرية في الدول الغربية ـ حسب ادعاءاتها ـ إلى القارة الأفريقية وإلى المنطقة الإسلامية والعالم الثالث بصورة خاصة، فكما أن قمة مجموعة الثماني، والتي انعقدت في "سي أيلاند" بولاية جورجيا الأميركية في ( يونيو/حزيران 2004) كانت البداية لدعوة الإصلاح في الشرق الأوسط أو الكبير أو المنطقة العربية، وهي دعوة أجنبية غريبة عن تربتها، فقد كانت أيضاً دعوات الإصلاح في أفريقيا، وخاصة الإصلاح الديمقراطي وحرية المرأة، دعوات جاءت من خارج القارة، فقمة مالي تبنتها دعماً مادياً وفكرياً المنظمات التالية : مؤسسة بيل وميلاندا جيتس، والمركز الأفريقي للدراسات الإستراتيجية، وهي من المنظمات المدعومة خارجياً، و" المنحة القومية للديمقراطية " NED الأمريكية، ونادي مدريد، والمؤسسة الديمقراطية القومية للعلاقات الدولية (الأمريكية)، وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي UNDP، بالإضافة إلى بعض الحكومات الغربية الأمريكية والبريطانية والهولندية .<BR>وأعقب ذلك أيضاً زيارة _وزيرة الخارجية الأمريكية_ كونزليسا رايز لمراقبة الوضع الإصلاحي على الطريقة الأمريكية في بعض البلاد العربية ومنح البعض شهادة شكر وتقدير، والبعض الآخر منح فرصة إعادة لدور ثاني ! <BR>تناقلت وسائل الإعلام تلك التحركات في سبيل الديمقراطية والإصلاح والحرية في أفريقيا وما صاحبها من تزوير وانتهاك لحقوق الكثيرين . <BR><font color="#0000ff">فما موقف الدول الغربية وخاصة أمريكا من هذه الخطوات ؟!</font><BR>الولايات المتحدة للحفاظ على مصالحها الاقتصادية في هذه المنطقة الاستراتيجية، تغض الطرف عما يجري من تزوير وانتهاك لحقوق الإنسان في هذه المناطق، والتي تمثّل إحدى المصالح القومية للأمن الأمريكي كما أعلن ذلك والتر كانستينر (مساعد وزير الخارجية للشؤون الأفريقية) في فبراير 2002 : في حديثه عن النفط الأفريقي وما يمثله لأمريكا : " إن هذا النفط الأفريقي أصبح مصلحة إستراتيجية قومية لأمريكا ". وهو ما أشارت إليها مجلة الايكونوميست البريطانية أيضاً في عددها الصادر في أغسطس عام 2002م إلى أن " النفط هو الغاية الأمريكية الوحيدة في أفريقيا ". وهو ما أكَّده أيضاً "مايكل كلير"، مؤلف كتاب (حروب مصادر الثروة )، وهو أحد المحللين الأمنيين الأمريكيين في حواره مع نشرت "أسيا تايمز أون لاين"، في رده على سؤال عن الهدف الأمريكي التالي الغني بالنفط بعد العراق، أجاب "كلير": أرى أن أفريقيا ستكون هي الهدف، و ستندلع الحرب هناك ! ".<BR>كلُّ هذه وغيرها من التصريحات والتقارير التي تم إعدادها سواء من قبل الحكومة الأمريكية أو الشركات البترولية الأمريكية، تدل دلالة واضحة أن مصلحتها تقتضي الحفاظ على الوضع الحالي للحكومات الموالية لها في القارة دون تغيير ولو بتعديل الدساتير، أو الفوز في انتخابات مزورة كالحالة النيجيرية وغيرها ! وقد ورد على ألسنة كثير من الخبراء الأمريكان سواء المدنيين أو العسكريين ما يدل دلالة واضحة على ذلك . <BR>وبناء عليه ولتسهيل الحصول على الواردات النفطية وغيرها من الثروات المعدنية اتبعت الولايات المتحدة سياستان بارزتان في القارة، أولاهما سياسة تقليص النفوذ الأوروبي في القارة وزيادة نفوذها على كافة الأصعدة وخاصة العسكرية منها، وهذا ما جعلتها ترسل عدداً من كبار الجنرالات الأمريكيين في رحلات مختلفة وغير عادية إلى القارة الأفريقية، منها زيارة الجنرال جيمس ل جونس (قائد المارينز الأمريكية في أوروبا). والجنرال كارلس والد (نائب قائد القوات الجوية في أوروبا)، وذلك في إعداد التنسيق مع عدد من الدول الأفريقية في ما يطلق عليها عمليات مكافحة الإرهاب في أفريقيا جنوب الصحراء، وتوّج ذلك بمناورات عسكرية أطلق عليها اسم "عملية فلينتلوك 05" وقد شارك في هذه المناورات حوالي ثلاثة آلاف جندي من تشاد والنيجر والجزائر والمغرب و مالي وموريتانيا وتونس والسنغال ونيجيريا إلى جانب 700 جندي من القوات الخاصة الأميركية، وبناء على ذلك ستقدم واشنطن لهذا المشروع مساعدات تتراوح قيمتها بين ثلاثين وستين مليون دولار عام 2006 و100 مليون دولار في السنوات الخمس التالية . <BR>أما السياسة الأخرى فهي إنشاء كوادر أفريقية البشرة أمريكية الفكر والثقافة والميول، حتى تتولى زمام الحركة السياسية والثقافية في القارة وليقدموا بديلاً للخطاب الفرانكفوني وغيره من الخطابات الخارجة عن الخطاب الأمريكي في المنطقة، والترويج لأسس الديمقراطية على الطريقة الأمريكية والحرية وحقوق الإنسان إلى غيره من الشعارات التي ترفعها الولايات المتحدة في القارة وتسعى بها إلى إقصاء الدول الأوربية وخاصة فرنسا من هذه القارة، وقد كان الخطاب الأمريكي حاضراً في قمة مالي، ويتضح لنا ذلك من عناوين بعض الموضوعات التي طرحت في القمة بالإضافة إلى حضور بعض منظماتها في ذلك اللقاء .<BR><font color="#0000ff">الاستفتاء في تشاد :</font><BR>أما في تشاد فقد أدلى الناخبون بأصواتهم في الأسابيع المنصرمة في استفتاء حول تعديل المادة (61) والتي تحول دون ترشح (الرئيس الحالي) إدريس ديبي لمدة رئاسية ثالثة، وذلك في الانتخابات القادمة في عام (2006م) ، وقد وافق البرلمان التشادي على التعديلات المقترحة على المادة أعلاها . ونصها قبل التعديل : " ينتخب رئيس الجمهورية لمدة خمس سنوات في انتخاب عام مباشر، ويعاد انتخابه مرة واحدة فقط " .<BR>وبالفعل ظهرت النتائج في الأيام الماضية حيث صوت 77.80% من الناخبين بنعم، مقابل 22.20% بلا للتعديل وفق ما أعلنت لجنة الاستفتاء، وأن نسبة الناخبين بلغت 71.11% أي بما يعادل 5.3 ناخب ، وأن المشاركة في التصويت كانت ضعيفة جداً وخاصة في العاصمة نفسها، وطلبت معظم الأحزاب المعارضة من أعضائها بعدم المشاركة في التصويت . وقد اعترف الحزب الحاكم في بداية الاستفتاء بضعف الإقبال في العاصمة، وعزا البعض ذلك إلى تعقيد الإجراءات المتبعة مما حال دون مشاركة الكثيرين في الاستفتاء . <BR>لكن وجهة نظر هذه قد تكون سليمة، ولكن يضاف عليها الوضع العام للشعب التشادي والذي أيقن أن الديمقراطية إذا كانت في بلدانها التي تدعيها لا تطبق، فكيف تطبق في أفريقيا ولنا في الانتخابات المنصرمة عبر ودروس ؟! وأيضاً فإن الحكومة الحالية أتت على ظهور الدبابات والصواريخ ! فهل يعقل أن تتنازل عن مكاسبها من أجل سواد أعين التشاديين ؟!<BR>وقد صاحب الاستفتاء كذلك موجة من الاعتقالات، وخاصة من أبناء بعض المناطق الشمالية، مما كان له أيضاً تأثير في إحجام الكثيرين عن المشاركة في الاستفتاء، والغريب أن هذه الاعتقالات الواسعة في وسط بعض الضباط وبعض الأفراد من الشعب التشادي لم تتحدث عنها وسائل الإعلام والمنظمات الدولية والدوائر الغربية المعنية بالإصلاح وحقوق الإنسان والديمقراطية بما فيها منظمة العفو الدولية ! لم تشر إلى ذلك لا من قريب ولا بعيد، علماً بأن أي فرد من النصارى في الجنوب إن اعتقل ولأسباب وجيهة فإن هذه المنظمات تقيم الدنيا ولا تقعدها، كما هو حال بعض ممن اعتقلوا من الصحفيين، وكذلك فإن الأخذ والجذب بين أنصار الحزب الحاكم ومعارضي مدونة الأحوال الشخصية الجديدة من فئات الشعب التشادي المختلفة، والوعي الكبير الذي استطاع أن يحدثه أنصار معارضة قانون الأحوال الشخصية في وسط المجتمع التشادي الذي أحجم البعض منهم عن التصويت لهذا السبب، فكل هذه العوامل ساهمت في النتيجة الحالية للاستفتاء من ضعف المشاركة والمعارضة الشديدة التي تلقاها من قوى عديدة في داخل المجتمع، حتى تلك المناطق التي تعد مناطق مغلقة للحزب الحاكم لم يصوت فيها إلا أعداد قليلة جداً ومعظمهم من تكوينات الحزب في تلك المناطق وليس من عموم الشعب .<BR>وهكذا فإن هذا التعديل في الدستور لم يمر كما مر مشروع إقرار الدستور والذي حوى كثيراً من الأجندة العلمانية، وبعض من هذه الأجندة كان السبب الرئيس في الحروب التي خاضها المسلمون في تشاد ضد الأقلية النصرانية الحاكمة في أوائل الستينيات من القرن الماضي، ولكن بالتخطيط المحكم استطاعت الأقلية النصرانية والتي لا تتجاوز 5% من مجموع السكان أن تفرض دستوراً علمانياً في بلد غالبيته العظمى من المسلمين وتمرره في غفلة كثير منهم !<BR> قد يكون هناك بعض من المسلمين أخذ العبر والدروس مما سبق، فكانت هذه المعارضة الحكيمة والرشيدة لكثير من القوانين والتعديلات الدستورية والتي تجحف حقوقهم أو التي تخالف عقيدتهم، إلا أن هناك فئة قليلة من أبناء المسلمين الذين ترتبط مصالحهم الشخصية وأهواؤهم بمصالح الدوائر الغربية لم تأخذ عبراً ولا درساً من ماضيه القريب ولا البعيد !، وهذه المعارضة الرشيدة كانت خيبة أمل لدى الكثير من الدوائر الغربية وخاصة الأمريكية منها، بما يوحي أن هناك فئة تعارض كل التوجهات الغربية سواء الفرنسية منها أو الأمريكية بما تمليه عليه عقيدته ومبادئه الإسلامية وليس مصالحه الشخصية فقط !<BR><font color="#0000ff">موقف المعارضة التشادية :</font><BR>أما الوضع العام للمعارضة التشادية فإن عدداً كبيراً من المعارضين وخاصة الذين في خارج البلاد لا يتحركون إلا بناء على توجيهات خارجية، وخاصة المعارضة النصرانية منها، فهي لا تتحرك إلا بناء على ما يملى عليها من قبل الدوائر الكنسية الغربية . أما المعارضة المسلمة فجزء من هذه المعارضة والتي تقيم في فرنسا يخضع البعض منهم للسياسات الفرنسية لذا فإنها لا تقدم على شيء يخالف تلك التوجهات، وتأثيرها ضعيف أيضاً على المواطن العادي في داخل البلاد، ويمكن أن نقول: إن الوضع كذلك قريب في المعارضة التي احتوتها الحكومة السودانية في شرق البلاد إبَّان أزمة دارفور، مع بعض الفوارق في التأثير على الوضع الداخلي مما للمعارضة الفرنسية . حيث دعت الحكومة السودانية في بدايات الأزمة كل المعارضين التشاديين إلى الخرطوم لتنسيق الجهود فيما بينها، وحتى تتسنى للخرطوم اتخاذها كورقة ضغط على الحكومة التشادية إن حاولت مساعدة المعارضة السودانية في غرب البلاد . وجزء من هذه المعارضة أيضاً يقبع تحت الضغوط السودانية، وهذه الضغوط تختلف من فصيل إلى فصيل وهي أقل بكثير من المعارضة التي تتحرك وفق إملاءات الدوائر الغربية وخاصة الفرنسية منها . <BR> فكما قال أحد الصحافيين من قناة الجزيرة القطرية في مقال له: إن من " يتنازل أكثر يحكم أطول "، فالحكومة التشادية تنازلت للحكومات الغربية، وخاصة أمريكا وفرنسا كثيراً، لذا لا تأبه بتلك التحركات للمعارضين السياسيين، إلا اللهم التحرك العسكري والذي تخشاه كثيراً، وهذا ما جعلها تعتقل عدداً كبيراً من كبار الضباط في الجيش وبعض الشباب الذي كانوا على وشك تكوين معارضة عسكرية مسلحة أو السعي للانضمام إلى المعارضة العسكرية في شمال البلاد، وكذلك فإن المعارضة العسكرية في شرق البلاد كان له تأثير واضح على الحكومة مما حدا بها أن تعد العدة على الجبهة الشرقية من البلاد . وبما أنها تقدم التنازلات ليست للأمريكان فحسب، بل حتى إلى الإسرائيليين فإنها حتماً ستصبح ضمن الدول التي ستمنح وسام العدالة والديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، من قبل الإدارة الأمريكية، كما نالتها عدد من الدول المشاركة معها في التحالف ضد الإرهاب في جنوب الصحراء الأفريقية، على هذه الخطوات الجبارة في سبيل إرساء قواعد اللعبة الديمقراطية والحريّة والإصلاح ! هذه الشهادة إن لم يشر إليها بصورة واضحة فقد كانت واضحة للعيان من جهة أخرى من حيث عدم الاعتراض على نتيجة الاستفتاء أو حتى مبدأ الاستفتاء نفسه سواء من قبل فرنسا وأمريكا أو حتى من قبل تلك المنظمات التي عقدت قمة القادة والديمقراطية في أفريقيا في( باماكو) عاصمة مالي ! حتى إن الأمين العام للمنظمة الدولية " كوفي عنان " والذي حثَّ حكومات الدول الأفريقية في افـتتاح القمة الثالثة للاتحاد الأفريقي في أديس أبابا في عام ( 2004)، على عدم التلاعب بالدستور للبقاء في السلطة، وعلى تناوب سلمي للحكم وإفساح المجال لجيل الشباب . لم يصدر منه ما يدل على رفضه للخطوات الأخيرة في تشاد ! إلا اللهم ذلك الشجب والتنديد الذي صدر من قبل الملتقى الأفريقي لحقوق الإنسان ومقرها في داكار ( السنغال ) !<BR>فهل هذا التعديل بداية لنهاية الحكومة الحالية أم أنه تحويل تشاد وكثير من دول المنطقة إلى دول شبه ملكية تحت شعار " الديمقراطية، والتعددية وحقوق الإنسان " وغيرها من الشعارات البرَّاقة التي تطرح في العصر الأمريكي؟! الأيام القادمة جديرة بالإجابة !<BR><BR><br>