إفريقيا مقبرة النفايات النووية في العالم
13 جمادى الأول 1426

عشرات الآلاف من الأطنان التي تتكدس فيها النفايات النووية الأجنبية لم تعد تثير حفيظة الدول الصناعية الكبيرة و لا الدول الفقيرة التي فجأة اكتشفت أن العصا السحرية ليست خرافة و لا أسطورة، بل حقيقة من السهل تطبيقها؛ لأن المقابل يبدو مغرياً و قد يتجاوز العشرين مليار دولار، لا يمكن اعتبارها إيرادات "اقتصادية" بقدر ما هي حصيلة وضع عام يمكن أن تعكسه في الأخير التناقضات الإفريقية بكل ما فيها و ما عليها.. <BR><BR>في الموزنبيق لم يكن الأمر يخلو من " دعابة" إعلامية فجرتها جريدة "لوسوار" البلجيكية التي تكلمت عن النفايات المدفونة في المقابر الموزمبيقية، ففي هذا البلد الذي يعد من أكثر الدول إصابة بمرض الايدز ( السيدا)، و الأكثر الدول الذي يبدو فيها الموت "مقننا" وفق المشاكل الصحية الكثيرة و التي صنعت من البلد الأكثر خطراً حسب التقرير السنوي للهيئة الدولية للصحة، فقد صار من السهل دفن النفايات النووية في المقابر و المساحات التي تتكدس فيها "النفايات العادية"، ربما لأن الأمر في النهاية لا يخلو من وضع جعل من الموزنبيق أرضاً سهلة للاستغلال من قبل الدول الصناعية الكبيرة و التي لا تكترث أبداً لمشاكل الناس و لا يهمها أن يموت الموزمبيقيون بسبب التلوث أو بأزمة قلبية أو حتى بنزلة برد، طالما أن النهاية تكمن في "صفقة" على رمي النفايات و دفنها على أرض بعيدة عن الأراضي الأوروبية .<BR><BR> و هو أيضاً ما عده وزير الصحة الموزمبيقي إهانة للإنسانية التي يتوجب على المجتمع الدولي الدفاع عنها بنفس "إصراره" في الدفاع عن " الديمقراطية" بأسلوب الحرب المباشرة كما حدث في الأعوام الأخيرة. لعل الغريب فعلاً في الموضوع أن ثمة مواد قانونية " يمكن استغلالها " لتمرير صفقة كهذه، و بالتالي بعض المواد الخاصة بالبيئة لا "تدين" التجاوزات التي تهدد المناخ العام، بقدر ما تفتح المجال واسعاً لما يسمى بـ" الانفتاح على العالم" و الذي أعطى فعلاً الفرصة للعديد من "تجار النفايات النووية" ليؤسسوا مكاتب أيضاً و يستثمروا في " النفايات" كما قالت جريدة لوسوار البلجيكية، و الحال أن دول مثل اليابان، و كوريا الجنوبية، و تايوان بالإضافة إلى دول غربية، مثل: ألمانيا و النمسا و فرنسا تبدو "مهتمة" بالأسواق الإفريقية الحرة " لرمي النفايات النووية" و التي تتداخل فيها الكثير من الصفقات الأخرى، و هي في النهاية تمر من و إلى " الدول الكبيرة" الراغبة في التخلص من " نفاياتها" بدفع مليارات الدولارات بما تعني في النهاية تبرئة ذمة الغرب إزاء البلدان الذين سوف يقبلون أن تدفن تلك النفايات على أراضيهم.<BR><BR>لعل الغريب في الأمر أيضاً كما جاء في جريدة "اللوموند" الفرنسية هو أن الدول الإفريقية التي تجد صعوبة في تجاوز أزماتها الاقتصادية و السياسية لا تبدو " معترضة" على هذا النوع من " البروتوكالات" مع الدول الغنية طالما أن المقابل المضمون سيكون مدفوعا مسبقا بمليارات الدولارات المدفوعة مسبقا. <BR><BR>لعل البداية الحقيقية تفجرت عبر مجلة" لوسولاي" السنغالية التي لأول مرة تكلمت بشكل صريح عن " تجار النفايات النووية في القارة الإفريقية"، و لأول مرة، يتم الكشف أن دول من افريقية مثل الموزنبيق و إفريقيا الوسطى تشكل بنسبة 33% من مساحة حقيقية ترمي فيها الدول الغربية نفاياتها. الأمر لا يعدو كونه مبالغة؛ لأن الوكالة الدولية للطاقة كشفت و بشكل مباشر في تقرير لها سنة 2003م عن " سوق النفايات النووية" من دون أن تذكر التفاصيل التي كان عليها أن تذكرها، و لكنها أشارت إلى الموزنبيق معتبره أن هذا البلد المصاب قرابة 39% من أطفاله بالإيدز، و 33 % بسرطان الدم، هذا البلد الغارق في الفقر يشكل جغرافية "مرفوضة" في عالم النفايات النووية التي تلقي بها الدول الصناعية الكبيرة على أرضه، كما جاء في التقرير نفسه أن الدول الإفريقية التي قبلت أن تكون مكانا " استراتيجيا" لرمي النفايات النووية الغربية تمارس شكلا من أشكال الجريمة السياسية و البيئية و الاقتصادية ضد شعوبها، باعتبار أن النتيجة ستكون كارثة طبيعية سوف تظهر بعد عشرات السنوات بشكل أكثر ضراوة و خطورة. مشكلة الدول الإفريقية تكمن حقيقة في غياب مصادر الدخل الحقيقي، فأكثر من عشرين دولة تجد نفسها دوليا تحت الخط الأحمر من الفقر الشديد، و أكثر من 100 مليون إفريقي يموتون أو ينتظرون الموت في بلدانهم العاجزة عن تحريك عجلة الاقتصاد في مناطق خالية من " الثروات الطبيعية" المعروفة باسم " النفط" و مشتقاته، بينما الدول التي حظيت بالثروات الطبيعية فهي لا تقل فقراً في نهاية الأمر عن دول أوروبا الشرقية، باعتبار أن الأزمات السياسية الإفريقية هي في الحقيقة أزمات اجتماعية مرتبطة آليا بواقع ثقافي مختلف عن كل دول العالم، كما يقول الكاتب و المحلل السياسي الكاميروني: " باتريس دافيد دولمبا" صاحب كتاب: (لا تدفنوا نفايتكم عندنا) و الذي خصنا مشكورا بهذا الحوار:<BR><BR><font color="#FF0000"> الاستاد باتريس دولمبا، أنت أول كاتب كاميروني تناول قضية " مقابر النفايات النووية" القابعة في الدول الإفريقية، عبر كتاب (لا تدفنوا نفاياتكم عندنا)، الذي كان حصيلة سنوات من البحث و التقصي، هل من الممكن أن نعرف تفاصيل هذا البحث و كيف وصلتم إلى أول مقبرة للنفايات في شرق إفريقيا الوسطى و التي كانت قبل صدور كتابكم شبه "سرية"؟ </font><BR>في البداية أريد أن أؤكد أن قضيتنا الأولى و الأخيرة، هي أوطاننا واستقلالها. هل بإمكان الكلام عن الاستقلال القومي لو، بموازاة ذلك، نفقد استقلالنا الإنساني؟ قضية النفايات النووية لم تكن في اعتقادي أمراً سرياً أبداً، ففي السبعينات انفجرت قضية النفايات النووية الاسترالية التي قيل إنها دفنت في الأراضي السنغالية مقابل ملايين الدولارات، و التي كانت سببا في موت الزرع و الحيوان في منطقة " سوتا" التي دفنت فيها. خبراء دوليون من أمريكا و من سويسرا أعلنوا في عام 1978م أن قضية " النفايات النووية" و الصناعية ليست جريمة عادية، بل هي جريمة أخلاقية أيضاً. عام 1989 نشرت المنظمة الدولية للصحة تقريرها، و الذي جاء فيها أن أسباب موت الأطفال في إفريقيا وتحديدا في دول مثل الكاميرون و الموزنبيق و إفريقيا الوسطى و الغربية سببه أيضا النفايات النووية التي شاركت "جمعيات دولية" في "صفقة" دفنها في تلك الدول مقابل المليارات من الدولارات على حساب شعوب بأسرها. <BR><BR>لعل المثير للانتباه، هو أن الدول التي "تورطت" في قضايا "مقابر النفايات النووية" تلك، كتبت صحفها عن الموضوع كاشفة خبايا كثيرة و هو ما عرضته في كتابي أيضا، بمعنى أن دول مثل ألمانيا و أستراليا كتبت صحفها بشكل عميق و دقيق عن "تجار" النفايات النووية و التي يجدون القارة الإفريقية قارة مثالية لدفن نفاياتهم، مقابل مليارات من الدولارات التي تدخل إلى جيوب القابلين. القضية في الأخير أخطر من مجرد أماكن ربما تظهر بشكل عام أنه يتم اختيارها عفويا، و لكن الحقيقة أنها أماكن استراتيجية أيضا بحكم صراعات داخلية من جهة و إقليمية من جهة أخرى، لهذا اختيار مناطق موزمبيقية مثلا، ليس صدفة باعتبار أن تلك المناطق اعتبرت إستراتيجية بحكم أنها تطل على حزام تضاريسي مهم في إفريقيا بين الشرق و الغرب من جهة ، و بين الشمال و الجنوب من جهة أخرى و الذي تتمحور عليه الكثير من الإشكالات العرقية.. الأمر أشبه بإبادة ذات صيغة "تجارية/ اقتصادية" أو "بروتوكولية" على حد قولهم. <BR><BR><font color="#FF0000"> لماذا تبدو القضية أحيانا "مقننة" على الرغم من خطورتها و من جوانبها غير الأخلاقية؟ </font><BR>لأن المصالح لا تعترف بالأخلاقيات؛ لأن المليارات من الدولارات هي اللعبة السهلة التي يريد لعبها كل الأطراف، بمن فيها الأطراف الرسمية. اختيار القارة الإفريقية له أسباب كثيرة بعضها جانبي و البعض الآخر محوري. عن الأسباب الجانبية فلأن القارة الإفريقية محكوم عليها بالتخلف و الأمراض و الصراعات العرقية، و بالتالي معظم المشاكل الإفريقية الراهنة لا تخرج عن هذه المعطيات، و أما عن الأسباب المحورية فلأن إفريقيا لا يجب أن تتحرر من التراكمات القديمة. إفريقيا في نظر الغرب عبارة عن " دول يقيم فيها العبيد التاريخيين للرجل الأبيض"، و هو المقال الصادم المنشور في جريدة " الغاردن" الانجليزية للكاتب: أدوارد سيرفارنت" المعروف بنزعاته العنصرية إزاء دول العالم الثالث، و إزاء الدول الإفريقية، بالخصوص ما يصطلح على تسمية " إفريقيا السوداء" و هو المصطلح " العرقي، و الرجعي" الذي أراد أن يصوغ نظم التعامل الاجتماعي وفق اللون و ليس على أساس الجدارة أو الأحقية. هذا ما تعيشه القارة الإفريقية منذ قرون، حتى الدول غير المعنية باللون تعيش نفس التمييز باعتبارها دول من العالم الثالث. القانون الدولي لم يعد قضية بعينها، و لا قياسا مطلقا بدليل أن العديد من الدول الكبيرة و القوية تتجاوزه يوميا للمساس بحريات الآخرين. <BR><BR>لنا في الحروب الأخيرة خير دليل، المشكلة أن القوانين الإفريقية مغلفة و ليست متجذرة في الحقيقة من الواقع اليومي المعاش، إنها قوانين أسستها في النهاية الدول المحتلة و الكولونيالية القديمة وفق حاجياتها هي و ليس وفق حاجياتنا كأفارقة، و حتى بعد استقلال العديد من الدول الإفريقية ما زالت تلك القوانين قائمة، و هو ما شكل انكساراً بين الواقع السياسي و اليوميات المعاشة، بين ما يعيشه الناس يوميا و ما يعيشونه على الورق. هذا يفسر لماذا قضايا خطيرة مثل " النفايات النووية الغربية" لم تأخذ جزاءها من العقاب و لا حتى من الإدانة الكافية؛ لأن "التجار" الذين يستفيدون من هذه النفايات عرفوا أن الفراغات القانونية الكثيرة ستساهم في "تجارتهم" طالما المقابل كما قلت لك يتمثل في المليارات من الدولارات، فكيف سيفكر شخص تعود على القتل في شخص تعود على الموت؟ !<BR><BR><font color="#FF0000"> كتبكم الأخيرة تتناول القانون من وجهة نظر إنسانية، و لكن هل من السهل المطالبة بتغيير القانون الكولونيالي في قارة تتحكم فيها النزعة "العرقية"؟ </font><BR>نعم من الممكن تغيير أشياء كثيرة منها القانون الكولونيالي الذي يسيّرنا منذ عقود، بإمكاننا أن نصوغ قانوننا وفق مشاكلنا و انتماءاتنا، هذا لن يكون "معجزة" باعتبار أن المتغيرات الخارجية قائمة فعلا في هذا العالم. مشكلة الدول الإفريقية أنها تريد أن تكون تابعة لأن العملية بالنسبة إليها لا تخلو من اتكالية ستساهم فيها جهات خارجية تمد الدول بالمعونات باسم مكافحة الفقر و الجهل، حتى الدول الغنية ببترولها تفعل الشيء نفسه و تسعى إلى أن تدخل في خانة الدول " الضحية عن إرادة" و هو ما فتح الأبواب على مصراعيها لأطماع الغرب. هذا لا يجري في القارة الإفريقية بل و يجري في القارتين الآسيوية و في القارة أمريكا الجنوبية أيضا. إشكالية " النفايات النووية" هي الشجرة التي تغطي الغابة، و ها قد كشفنا الشجرة فيجب أن نكتشف الغابة أيضا، و يجب القول للعالم: إن ما نرفضه هو استغلالنا و اعتبارنا عبيدا في هذا العالم. هذا هو ما أقوله في كتبي و في كل مكان أذهب إليه، نحن لا نشكل إفريقيا نمطية، بل نقيم إفريقيا صنعت ثورات كبيرة و عظيمة لأجل الاستقلال و لهذا أخذنا احترامنا من هذه الأرض التي نرفض أن يلوثها الغرب بنفاياتهم النووية القاتلة. هذه جريمة كبيرة في حق شعوب القارة كلها!<BR><br>