اقتصاد العالم العربي بعد عام من سقوط بغداد
2 ربيع الأول 1425

كتب الاقتصادي العربي الراحل الأستاذ الدكتور رمزي زكي، في منتصف الثمانينيات في مقدمة أحد كتبه أنه لا يمكن الحديث عن اقتصاديات "وطن عربي"، ولكن يمكن الحديث عن اقتصاديات "دول عربية"، وكانت وجهة نظره أنه لا توجد آليات لوحدة الاقتصاد العربي على أرض الواقع، وأن الأداء الاقتصادي لهذه الدول يأتي من منظور قطري ضيق، لا يضع المصلحة القومية العربية في الاعتبار؛ لذلك نجد أن معدل أداء الاقتصاديات العربية فيما بينها يعاني من انخفاض شديد، وهي اقتصاديات مرتبطة في أغلبها باقتصاديات بلدان أوروبية أو أمريكا، والمثل الشائع على تدني معدلات التعاون الاقتصادي العربي هو التجارة البينية العربية التي تصل إلى حدود 8% وفي أحسن التقديرات لا تتعدى 10% من حجم تجارتها الخارجية. كانت هذه وجهة نظر واحد من المشهود لهم بالعلم والخبرة والهم العربي في الثمانينيات، أيام كانت التحديات مختلفة وصورة النظام العالمي لا تجسد هذه الهيمنة والصلف الأمريكي، وبالتالي كانت فرصة توحد العرب اقتصادياً والخطو في مشروعهم التكاملي الاقتصادي أحسن حالاً، فما بالنا اليوم والأحوال تغيرت تماماً على الصعيد العالمي، حيث أصبحت قيادة النظام العالي تخضع لقيادة منفردة لا تخفي أطماعها في ثروات المنطقة ولا في إعادة خريطتها السياسية والاقتصادية، ولذلك نرى المشروعات الإقليمية الواحدة تلو الأخرى تطرح علينا لتذويب هوية المنطقة وإضعاف الدور الاقتصادي للبلدان العربية والإسلامية في هذه المخططات، بحيث لا يعدو دورنا عن دور المورد للمواد والسلع الأولية، بينما تبقى أسواقنا مفتوحة على مصراعيها للسلع المصنعة ذات القيمة المضافة العالية من البلدان الأوروبية والأمريكية، مع إعطاء العدو الصهيوني دوراً بارزاً ومحورياً على الصعيد الاقتصادي.<BR>سقوط بغداد في إبريل 2003م، حدث له ما بعده على المستوى الحضاري للمنطقة، وإن أردنا أن نتحدث عن الجانب الاقتصادي لهذه التداعيات، فيمكن الإشارة إلى ما يلي:<BR>في الأجل القصير سوف يعوق وجود الاحتلال الأمريكي لبغداد مشروعات التعاون الاقتصادي العربي، إذا ما صحت النوايا وعزمت الإرادات السياسية للمضي قُدُماً في تنفيذ ما اتفق عليه من مشروعات للتعاون الاقتصادي العربي منذ الخمسينات وحتى الآن بسبب أن قوات الاحتلال بيدها إدارة الشأن العراقي، وبالتالي فهي تهدف لبقاء المشروع العربي خاملاً، ومن جانب آخر ألا تكون للعراق مساهمة إيجابية في هذا المشروع، وقد ظهر هذا واضحاً في مؤتمر منتدى دافوس الذي عقد في الأردن، حيث مثل العراق الحاكم العسكري بالحضور والمشاركة! <BR>لا شك أن وجود الاحتلال الأمريكي سوف يحدد حجم التعاون الاقتصادي بين العراق ودول الجوار العربية وباقي البلدان العربية والإسلامية، خاصة وأن هذه البلدان كان لها مصالحها الاقتصادية مع النظام السابق من خلال حركة التجارة الخارجية أو وجود العمالة العربية بالعراق لأوقات طويلة، وقد تضررت البلدان العربية من الاحتلال الأمريكي بشكل كبير خاصة مصر وسوريا والسعودية. <BR>وعلى الصعيد الجغرافي الاقتصادي، أتاح سقوط بغداد الفرصة لوجود محتل ثان في قلب العالم العربي، يعمل ضد مصالح العالم العربي، فإن كان الكيان الصهيوني فرَّق جغرافياً بين بلدان العالم العربي في قارتي آسيا وأفريقيا وقطع الطرق البرية بينها، فإن سقوط بغداد أعطى المحتل الأمريكي هذه الفرصة لتمزيق أكثر لروابط العروبة والإسلام بين العراق وجيرانه ليتحكم الاحتلال في مقدرات حركة التجارة والنشاط الاقتصادي بين العراق وهذه الدول، بل والنواحي الاجتماعية أيضاً، إذ تجمع بين العراق وبين جيرانه على التخوم العديد من العادات الاجتماعية المشتركة. <BR>كعكة إعادة الإعمار التي تتعامل معها البلدان العربية من منطلق عقلية الوهن والمصالح القطرية الضيقة سوف تستغلها أمريكا في التأثير على سياسة الدول الراغبة في أخذ الفتات الذي سيقدم لها من خلال تواجدها كمقاول بالباطن للشركات الأمريكية والإنجليزية، وبالتالي سوف ينظر للعلاقات الاقتصادية من خلال السياسة الأمريكية المعروفة "العصا والجزرة".<BR>"فقراء بالنفط وبغيره" عنوان يكرس مدى عدم استفادة البلدان العربية من الثروة التي منحهم الله إياها على مدار السنوات السابقة، ونعلم أن العراق عضو في منظمتي الأوبك والأوابك، وهى منظمات يمثل الحضور العربي في الأولى منها دور فاعل والثانية هي قاصرة على العضوية العربية، ووجود الاحتلال الأمريكي سوف يقلص الدور العراقي أو سيجعله على أقل تقدير يدور في إطار المصالح الأمريكية، ولقد أصبح النفط العراقي تحت سيطرة الاحتلال مما يمكنه من إفساد استخدام ورقة النفط في أي مواقف عربية فيما بعد، نظراً لما تمثله حصة العراق الإنتاجية واحتياطياته النفطية في كلتا المنظمتين. <BR>يمكن النظر إلى حجم الخسائر التي مني بها العراق نتيجة الاحتلال الأمريكي من خلال حصول الشركات الأمريكية على النفط العراقي بسعر أقل من واحد دولار للبرميل، وهي حقيقة أتت على لسان ممثل مجلس الحكم في اجتماعات منظمة الأوابك (الأقطار العربية المصدرة للبترول) والتي عقدت بالقاهرة في 13 ديسمبر 2003م، حيث صرح عبدالصاحب القطب (مستشار وزير النفط العراقي) بـ"يبيع العراق كل بتروله للشركات الأمريكية بسعر 0.98 من الدولار الواحد للبرميل، وإن حجم الإنتاج لهذه الشركات الآن يصل إلى 2.2 مليون برميل يوميا، ويوجد سباق لزيادة إنتاج النفط العراقي ليصل إلى 3 ملايين برميل في عام 2004م"، وهذه الحقيقة المؤلمة تجعلنا نوقن تماماً بأن الهدف الواضح من احتلال العراق لم يكن أسلحة الدمار الشامل، ولا الديمقراطية التي يتباكون عليها، ولكنه النفط الذي صنعت بسببه أمريكا أزمات الخليج المتعددة، بل وخططت لاحتلال المنطقة في عام 1976م، كما ذكر نيكسون (الرئيس الأمريكي الأسبق) في مذكراته. التصرف الأمريكي يجعلنا نفكر في الدائرة الجهنمية التي يريدون للعراق أن يبقى فيها لأوقات زمنية مقبلة، ففي الوقت الذي تسعى أمريكا للحصول على أكبر كميات ممكنة بلا ثمن من النفط العراقي، تدعو لمؤتمر للمانحين في مدريد تحت رعاية الأمم المتحدة، وهل العراق فقير - حتى في ظل ظروفه الصعبة التي آل إليها بعد الحروب المتعددة والاحتلال الأنجلوأمريكي - حتى يعقد مؤتمر للمانحين من أجله؟! إن ما يتم نهبه تحت سمع وبصر العالم أجمع من الشعب العراقي يبلغ يومياً 64 مليون دولار، وذلك حسب تقديرات مستشار وزير النفط العراقي وبفرض أن سعر البرميل 30 دولاراً لا يعطى منها العراق سوى أقل من الدولار الواحد للبرميل، وبحساب ذلك المعدل على مدار عام يبلغ 23.360 مليار دولار. وسوف تزداد خسارة العراق إذا ما وصلت حصة العراق الإنتاجية من النفط لما هو مخطط لها في 2004م إلى نحو 31.7 مليار دولار سنوياً. <BR>سقوط بغداد سوف يضيف إلى الأدبيات الاقتصادية عن الوطن العربي مؤشرات سلبية لبلد كان غنياً قبل احتلاله من حيث معدلات الفقر التي ارتفعت مع وجود الاحتلال الأمريكي وتوقف دولاب النشاط الاقتصادي به، ومن ثم ارتفاع معدلات البطالة، وتفشي العديد من الظواهر الاقتصادية والاجتماعية السلبية في المدة القادمة، وبالتالي يضاف إلى قائمة البلدان الأشد فقراً أو الأقل نمواً ضيفاً جديداً، وهو العراق الذي يملك مقومات وعوامل الغنى متى زال الاحتلال.<BR>لقد أمرنا بالتفاؤل ولكن معرفة الواقع هي جزء أصيل من أي مشروع للنهوض، ولا شك أن بوادر الانعكاسات السلبية لسقوط بغداد بدأت في الظهور بفشل انعقاد مؤتمر القمة العربية الذي كان مقرراً أن تشهده الأراضي التونسية في مارس 2004 م، وكانت هذه القمة تحوي ضمن أجندتها الملف الاقتصادي الذي أصبح في مهب الريح. ليس من الآن فحسب، ولكن منذ أن فشل العرب في عقد القمة الاقتصادية التي قررتها قمة عمان وظل الإعلان والتأجيل لمدة ثلاث مرات ثم اختفت تماماً عن مسرح الأحداث، ومن الغريب أن البلدان العربية شاركت عن بكرة أبيها في الحوار العربي الأمريكي الذي عقد في أمريكا بمشاركة من جامعة الدول العربية، بل وبتمويل من بعض الجهات العربية لطرح تصورات عن الحوار والتعاون الأمريكي العربي في المستقبل.<BR>إن كان غياب التعاون العربي في الماضي أدى إلى ربط الحركة الاقتصادية بالدوائر غير العربية، وإن الأداء العالمي لا يعرف الكيانات الصغيرة، ومن ثم كانت تتجلى أهمية وجود كيان اقتصادي عربي يعبر عن مصالح وهوية المنطقة ودولها، فإن سقوط بغداد يعكس أن أهمية هذا التوحد الاقتصادي والمضي فيه بخطوات جادة أصبح مصلحة مشتركة لتحقيق المصلحة القومية والقطرية في آن واحد، وأحسب أننا لسنا في حاجة لسرد أهمية ومقومات وإيجابيات قيام هذا التكامل، ولعل الشيء الوحيد الذي أنجز على صعيد العمل العربي المشترك هو وجود كم هائل من الدراسات والأبحاث، بل والمؤسسات التي تعي تماماً وجود واستمرار التعاون الاقتصادي العربي، ولكن لم يستفِدْ منها أحد!<BR><BR>____________<BR>(*) خبير اقتصادي مصري.<BR><br>