هل نجحت الفوضي الخلاقة الأمريكية في المنطقة العربية؟
21 شوال 1428

ثمة مؤشرات متصاعدة تؤكد أن الادارة الأمريكية الفاشلة الحالية تسعي قبل انتهاء فترة ولايتها التي تنتهي في غضون عام تقريبا لتحقيق أي إنجاز استراتيجي يحسب لها بعدما فشلت في العراق وأفغانستان والسودان وفلسطين والصومال وغيرها ، وأن هذا الانجاز الذي تسعي لتعظيمه وتحقيق نجاح فيه هو ملف "الفوضي الخلاقة" داخل المنطقة العربية الذي يعني تلقائيا نجاحا للمشروع الصهيوني بإضعاف خصومه العرب الأقوياء ، وتمهيد الطريق لخلق دويلات عربية منفصلة ضعيفة مستقبلا يسهل السيطرة عليها .<BR>وثمة مؤشرات علي أن التركيز علي هذا الملف داخل إدارة بوش أخذ مناحي متقدمه في كل من السودان والعراق وفلسطين عبر خلق أجواء إنقسامية بين أبناء البلد الواحد والضغط عبر أطراف موالية لها في هذه البلدان لتحقيق هذا الانقسام جغرافيا وسياسيا عبر نشر الفوضي في هذه البلدان بإحتضان طرف يوصف بالاعتدال ولفظ طرف أخر يوصم غالبا بالتطرف !.<BR>لن نتحدث هنا عما يجري بين الضفة وغزة وتكريس الانفصال بينهما عبر الضغوط الأمريكية ، ولا عما يحدث أيضا في العراق والذي بلغ حد المناقشة العلنية داخل الكونجرس الأمريكي لتقسيم العراق لثلاثة أقاليم سنية وشيعية وكردية كحل لإضعاف العراق وعدم السماح للمقاومة السنية أن تهنأ بانتصارها علي الأمريكيين هناك ، بإشعال نيران الفتنة الطائفية وتقسيم البلاد الذي لن يستفيد منه سوي القابضون علي براميل نفط العراق في الوسط الكردي والشيعي ، ولكن سنتحدث عما يحدث في السودان لأنهم هناك يدسون السلم في العسل تحت دعاوي مساندة اتفاقيات السلام في السودان ، ولا يظهر دورهم الخبيث واضحا .<BR>قد يكون الخلاف الأخير بين شمال السودان وجنوبه والذي انتهي بسحب حكومة الجنوب لوزرائها في الحكومة الاتحادية في الشمال هو المدخل لكشف هذا الدور الأمريكي الساعي منذ زمن لبث الفوضي في السودان لمنع قيام دولة قوية هناك لأن السودان ببساطة دولة تتمتع بمزايا جيوغرافيه غير عادية وهو بوابة العرب والمسلمين علي افريقيا ، وبه أراضي طالما تغني بها العرب كسلة غذاء للعالم العربي لو توافر الاستقرار والموارد لزراعتها ، والأهم أن البترول ظهر به بكثافة وكذلك الموارد الأخرى المعدنية كاليورانيوم وغيره ، ومن الطبيعي أنه لو ترك كل هذا في يد حكومة – كالإنقاذ- ترفع أجندة إسلامية لتحول السودان لدولة عظمي أفريقية إسلامية تعرقل الخطط الأمريكية الناهضة في أفريقيا والتي دشنوا لها خصيصا هذا الشهر قوة عسكرية أمريكية جديدة هي "أفريكوم" !.<BR>فالخلاف الأخير ظهر بوضوح في أعقاب الدور الذي لعبه الأمريكيون بشأن نصرة الجنوب علي الشمال دبلوماسيا (فتح سفارة للجنوب موازية لسفارة الخرطوم) وعسكريا ( دعم الجنوب بمعونة عسكرية نصف مليار دولار ) ، وكان لمن يسمي "مبعوث السلام" الأمريكي روجر ونتر دور في تحريض المتمردين الجنوبيين السابقين علي الثورة ضد الخرطوم بغرض تسريع سحب الخرطوم قواتها من الجنوب لتمهيد الطريق نحو إنفصال الجنوب في اي وقت ، حيث شارك هذا المبعوث قادة التمرد الجنوبيين اجتماعا في جوبا انتهى لقرار التصعيد مع الشمال، وشجع التيار المتشدد داخل حركة التمرد للضغط في اجتماعات الحركة الأخيرة باتجاه القرارات التصعيدية .<BR>والحقيقة أن الدور الأمريكي في السودان لا يحتاج لبيان أو لمجهر مكبر لكشفه فهو ظاهر منذ سيطرة تيار الانقاذ ذي التوجه الاسلامي علي مقاليد الحكم في السودان منذ عام 1989 ، وكل ما في الأمر أن الادارات الأمريكية المتعاقبة ظل كل منها يختار ما يناسبه للتقسيم ، فإدارة كلينتون مثلا كانت تري ضرورة التقسيم بالقوة عبر ما سمي سياسية (تفتيت الأطراف) أي فصل الجنوب عن الشمال بالقوة والحروب ، وتفتيت أقاليم سودانية أخري في الشرق والغرب بالقوة أيضا عبر دعم المتمردين العسكريين ، أما إدارة بوش التي وجدت تعاونا نسبيا من الخرطوم معها عقب هجمات 11 سبتمبر ، فانتهجت أسلوبا أكثر دبلوماسية لتقسيم السودان يقوم علي "شد الأطراف" أي التفتيت ولكن بالطرق الدبلوماسية السلمية عبر اتفاقات سلام بين الخرطوم وهؤلاء المتمردين في الجنوب والغرب والشرق لتفتيت هذه المناطق أو فصلها عمليا عن الخرطوم !.<BR>فقد تزعمت إدارة بوش مثلا مفاوضات التسوية بين الخرطوم وحركة التمرد حتي تم توقيع اتفاق نيفاشا ، وفي مراحل تالية بدأت تعاون الجنوب عسكريا وسياسيا ، وبالمقابل تفرض حصارا – استثنت منه الجنوب – علي الخرطوم ، وهي التي عاونت حركة التمرد أو ما سمي حكومة الجنوب علي فتح 18 مكتبا للحركة الشعبية في عدد من الدول الإفريقية والأوروبية والعربية، على رأسها "قنصلية" في الولايات المتحدة الأمريكية؛ ضمن خطوات أخرى للتمهيد لفصل جنوب السودان عن الشمال، حتي أن مكتب الحركة الشعبية في أمريكا، منحته الإدارة الأمريكية وضعاً دبلوماسيا مميزاً كذلك الممنوح لتايوان وتيمور الشرقية، أي تموّله الإدارة الأمريكية.<BR>أيضا عاونت واشنطن حكومة الجنوب السوداني علي إنشاء بنك مركزي جديد وصك عملة خاصة بها، ووكالة أنباء لجنوب السودان (وكالة جنوب السودان للأنباء) بالإضافة لتأهيل إذاعة وتليفزيون الجنوب، ونشر خدمة التليفون بكود دولي مختلف عن كود السودان الموحد، فضلا عن ترخيص المركبات العامة والخاصة في الجنوب بلوحات تحمل رمز NS؛ وهي اختصار لـ "السودان الجديد" أو New Sudan؛ وتخالف الترخيص المعمول به في شرطة المرور لكافة أنحاء السودان؛ حيث تحمل كل ولاية رمزاً معيناً لها .<BR>بل وأبرمت واشنطن مع وفد عسكري رفيع من قيادة الجيش الشعبي (الجنوبي) زار أمريكا الشهر الماضي اتفاقا لدعم جيش الجنوب بنصف مليار دولار، واستثنت جنوب السودان من الحظر الأمريكي المفروض على السودان ككل، ما يؤكد نوايا الانفصال برعاية أمريكية .<BR>ولم يقتصر الأمر علي هذا بل أمتد لتأجيج مشكلة دارفور في غرب السودان ، وحينما لم يجدوا مشكلة هناك بين مسلمين ومسيحيين كما هي حجتهم للتدخل في الجنوب لأن 100% من سكان دارفور مسلمون ولأنه لا يوجد سلاح نووي في دارفور للتدخل لمنعه كما فعلوا في العراق ، فقد أخترعوا فرية "التدخل بذريعة إنسانية" في دارفور لإنقاذ السودانيين من أصل أفريقي من ذبح السودانيين من أصل عربي لهم (!) ، ثم تدخلوا مرة أخري لرعاية مفاوضات دارفور بغرض زرع ألغام الانفصال في دارفور كما فعلوا في جنوب السودان !.<BR>لقد سعت الخرطوم من جهتها للسلام مع الجنوب من منطق حرصها علي السلام وحقن الدماء والاستفادة من ثروات السودان في التنمية ، ودعمت – كما قال لي كمال حسن علي ممثل حزب المؤتمر الحاكم في مصر - مشروعات في الجنوب بـ 300 مليون دولار خارج نصيب الجنوب من حصيلة بيع النفط السوداني (3 مليارات دولار) الذي حددته اتفاقية نيفاشا ، كما أن الرئيس البشير وعد بأن يتم إعادة أي أموال للنفط مستحقة للجنوب في حالة توصل اللجان المشتركة بين الطرفين مستقبلا لقرار بشان أحقية الجنوب في أي حقل بترول تعتبره الحركة ضمن حدود الجنوب !.<BR>والأغرب أن الجنوبيين ظلوا هم الذين يعطلون تنفيذ اتفاقية السلام ببطء حركتهم فيما يخص ملفات عديدة ، بحيث يأخذ حل كل مشكلة شهورا عدة تتجاوز التاريخ المحدد لها في اتفاق السلام ، ومع هذا يصرخون الأن مما يزعمون أنه تأخير الشمال لاتفاق السلام ، بل أن اللجان المشتركة منهم ومن حكومة الشمال أكدت في تقارير رسمية أن نسبة التزامهم بسحب قواتهم الجنوبية من الشمال لا تتعدي 7% مقابل نسبة التزام من الخرطوم تبلغ 86% ومع ذلك يتهمون الحكومة بأنها ترفض الانسحاب من الجنوب !؟<BR>وليس هذا فقط ، فالمكاتب التي فتحتها حكومة الجنوب في 18 دولة عربية وأفريقية وأجنبية - والغرض الأساسي منها هو التعاون في مجالات ثقافية وصحية للجنوب وفق اتفاق السلام – أصبحت تتصرف كأنها سفارات للجنوب قبل أن يستقل رسميا وتعطي تأشيرات في مكاتب كينيا وأوغندا للدخول لجنوب السودان بدون علم الحكومة المركزية ما يعتبر تعديا علي اختصاصات الحكومة المركزية وتصرفا انفصاليا ، وفي كل الأحوال تساعدهم واشنطن بدعم هذه المكاتب الانفصالية أو رفع الحصار التجاري المفروض علي كل السودان عن الجنوب فقط ، أو دعمهم بالمال والسلاح ، وبالمقابل تضعف حكومة الخرطوم عبر الحصار الدولي .<BR>الخطة إذا سائرة في كل البلدان العربية لتفتيت هذه البلدان وتحويلها لدويلات صغيرة متحاربة فيما بينها ، كي تنعم تل ابيب بالسلام والهدوء في نهاية الأمر ، وكي تنفذ واشنطن – عبر هذه الدويلات أو الجزر العربية الجديدة المفصلة التي ستنشأ - مصالحها في المنطقة التي تتلخص في السيطرة عليها ونهب مواردها وتوفير طرق مواصلات إستراتيجية أمنة عبرها للسفن والطائرات الأمريكية .<BR>فهل نجحت أو ستنجح الفوضي الخلاقة الأمريكية في المنطقة ، وهل يمكن اعتبار ما يحدث في السودان والعراق وفلسطين حاليا نحاجا لو مؤقتا لهذه الخطط الأمريكية التي تسعي لتسجيل أي مكسب يداري فشلها الأكبر في ملفات عديدة ؟ <BR><br>