سيل اعترافات القادة العسكريين الأمريكيين :ماذا يعكس؟
15 شوال 1428

موسم اعترافات القادة العسكريين الأمريكيين بدأ في الولايات المتحدة، والحصيلة ثقيلة للغاية كما كان الحال عقب كل حرب تخوضها أو بالدقة بعد كل عدوان تشنه هذه الدولة ضد شعب آخر.<BR><font color="#0000FF">الاعتراف الأول</font> جاء على لسان جورج كيسى رئيس أركان القوات الأمريكية البرية السابق، واعتبر واحدا من أخطر الاعترافات في تاريخ الجيش الأمريكي منذ حرب فيتنام وحتى الآن.<BR>كيس قال إن الجيش الأمريكي بات يعانى بعد حربي أفغانستان والعراق من اختلال في التوازن يحتاج بين 3-4 سنوات حتى يستعيد نمط عمله الاعتيادي.<BR><font color="#0000FF">والاعتراف الثاني</font>، جاء هو الآخر خطيرا وعلى لسان ريكاردو سانشيز قائد القوت الأمريكية السابق في العراق، الذي قال بأن الحرب في العراق أصبحت كابوسا، وفى اعترافه هذا اتهم السياسيين الأمريكيين بالفساد وعدم الكفاءة.<BR><font color="#0000FF">أما الاعتراف الثالث</font> فقد جاء في كتاب أصدره ويزلى كلارك أحد أبرز القادة العسكريين الأمريكيين، القائد الأعلى السابق لقوات حلف شمال الأطلسي (ناتو) في أوروبا، الذي قال في كتاب له بعنوان "النصر في الحروب الحديثة.. العراق والإرهاب والإمبراطورية الأمريكية" إنه زار البنتاجون مرتين، الأولى عقب أحداث سبتمبر 2001 مباشرة وهناك علم بأمر خطة لمهاجمة عدة دول تباعا تبدأ بأفغانستان وتتواصل عبر العراق لتنتقل إلى لبنان وسوريا والسودان حتى إيران. وأنه بعد عام من زيارته الأولى قام بزيارة أخرى وتأكد من صدور نفس الأوامر ومن تواصل التخطيط لإنجاز كل تلك الحروب وتغيير الأوضاع في كل تلك الدول.<BR>وإذا كانت النظرة الأولية لمثل هذه التصريحات تظهر أنها لعسكريين وليست لسياسيين وأنها تتحدث سلبا عن القدرات العسكرية الأمريكية وعن سوء الرأي والتقدير للإدارة السياسية وقراراتها بما يعكس تنافرا في المواقف بين السياسيين والعسكريين..الخ، فإن لكل تصريح من التصريحات دلالاته الاستراتيجية في التقييم لقدرات الولايات المتحدة على التحرك دوليا في المرحلة القادمة.<BR><BR><font color="#ff0000">مغزى الاعترافات</font><BR>في اعترافات كيسى، فإن المنطق المبسط يظهر أنه أعلن عن حالة تقييم شاملة لأوضاع الجيش الأمريكي في المرحلة الراهنة، وهذا صحيح. لكن الصحيح أيضا والأهم هو أنه حدد القدرات الاستراتيجية العامة والشاملة للجيش الأمريكي لمدة ثلاث سنوات قادمة، إذ في قوله إعلان بمحدودية قدرة الجيش الأمريكي في القيام بحربين في وقت واحد، وكذا هو يعلن بأن القوات الأمريكية غير قادرة على خوض حرب جديدة خلال السنوات الأربع القادمة (إيران أو كوريا)، كما هو في ذلك يقدم اعترافا خطيرا على ما أنجزته المقاومتان الأفغانية والعراقية على المستوى العسكري، وفى ذلك دلالات الاعتراف هامة باعتبارها صادرة عن رجل عسكري في وزن رئيس أركان القوات البرية الأمريكية، إذ لم يحدث هذا الاضطراب والضعف في قدرات الجيش الأمريكي إلا بسبب ما قامت به المقاومتان خلال قتالها ضد هذا الجيش.<BR>وفى اعترافات سانشيز نحن أمام دلالات أخرى اشد وضوحا وتحديدا، سواء لأن صاحب الاعتراف هو قائد مباشر للقوات الأمريكية في العدوان على العراق واحتلاله، وفى ذلك يأتي قوله بأن الحرب في العراق باتت كابوسا، في إشارة واضحة الدلالات إلى الحالة المعنوية للجنود والضباط والقادة الأمريكيين في الميدان وليس فقط الجنود باتت سيئة إن لم نقل منهارة، بما يؤكد حقيقة انتصار المقاومة العراقية وهزيمة الحملة العدوانية والجيش الأمريكي باعتبار المعيار الرئيس للنصر والهزيمة في الحروب هو فقدان الإرادة على القتال وانكسار الروح المعنوية وليس عدد القتلى والشهداء. <BR>كما أن إشارته وحمله مباشرة على الإدارة الأمريكية وعلى الساسة الأمريكيين واتهامهم بالفساد وليس فقط بعدم الكفاءة، إنما يحمل دلالات أخرى تشير إلى محاولة العسكريين تحميل الساسة لا العسكريين نتائج الهزيمة الأمريكية في العراق.<BR>وهنا تأتي أهمية وخطورة اعترافات ويزلى كلارك، إذ الرجل دخل مباشرة على قرارات الإدارة الأمريكية ليكشف أن ما جرى من حروب واعتداءات ضد أفغانستان والعراق كان مقررا من قبل ولا علاقة له بأحداث 11 سبتمبر 2001، وأن خطة العدوان لا علاقة لها لا بأسلحة الدمار الشامل ولا بالديمقراطية..الخ، كما هو هنا يفضح الخطط الأخرى الجارية أمامنا تجاه سوريا والسودان..الخ.<BR>وهنا أيضا يبدو أننا أمام مفارقة يصح وصفها بأنها مرعبة، إذ كل هذه الاعترافات حول الهزيمة الأمريكية واضطراب الجيش الأمريكي وكشف الخطط العدوانية تجاه العديد من الدول، جميعها تجرى أو تصدر من قادة عسكريين أمريكيين، بينما هناك في المنطقة العربية كتاب وصحفيون يكتبون بالعربية، رافضين فكرة هزيمة الولايات المتحدة ومشككين بخط وقدرة المقاومة.<BR><BR><font color="#ff0000">انكشاف الولايات المتحدة</font><BR>الجوهرى في كل ما جرى للولايات المتحدة منذ أحداث 11 سبتمبر 2001 وحتى الآن، هو أنها تعرضت إلى حالة انكشاف شامل، وأنها صارت تفقد قدرتها وتتراجع على المستوى الدولي.<BR>كانت الولايات المتحدة عقب انتصارها على الاتحاد السوفيتي الذي انهار، قد وصلت إلى قمة الشعور بالقوة وبضعف الآخرين، وصارت تحاول على المستويات الفكرية والسياسية والاقتصادية والعسكرية، أن تقدم نفسها عالميا على أنها الإمبراطورية التي لم يعد بالإمكان لأحد لا اللحاق بها ولا منافستها، وفى ذلك كان العدوان على العراق في عام 1991، إطلاق لحملتها الإمبراطورية لتثبت موقعها في الانفراد بإدارة العالم.<BR>ظهرت نظريات نهاية التاريخ وغيرها لتثبت السيطرة المطلقة على أسس فكرية ونظرية، وصار الاقتصاد الأمريكي يجذب الاستثمارات من كل أنحاء العالم كما صار المجتمع الأمريكي يقدم على أنه رمزية التعايش الإنساني بسماحه بين كل المتناقضات الدينية والعرقية واللغوية. وفى إدارة العالم صارت أجهزة الدولة الأمريكية تشكل حكومات ظل داخل شعاراتها في كل دولة من دول العالم، كما صارت تخطط لمحاصرة كل عمليات التقدم والتطور التكنولوجى في العالم، وتضع أقدام سيطرتها في كل مراكز السيطرة الإستراتيجية في العالم..إلخ.<BR>لكن أحداث 11 سبتمبر 2001، كانت بداية الانكشاف الشامل للولايات المتحدة التي وإن رأت فيها نقطة انطلاق لمع منافسيها الدوليين من اللحاق بها، ولفض هيمنتها على المنطقة الأهم والأكثر هشاشة في المعمورة (العالم الإسلامي بشكل خاص) فإنها تحولت من بعد إلى "نقطة اصطياد للقدرة الأمريكية عالميا. <BR>جرت وقائع العدوان على أفغانستان ثم العراق، ثم جرى العدوان الصهيوني على لبنان، كما جرت عمليات انقلاب في نظم حكم مرتبطة بأقطاب دولية أخرى أو حتى أقل كفاءة في خدمة المصالح الأمريكية خلال المرحلة الجارية، كان أهمها ما جرى في أوكرانيا وجورجيا..الخ.<BR>لكن الأمور تطورت إلى عكس ما خططت له الولايات المتحدة وإدارتها العدوانية المسيحية الصهيونية، إذ كان تركيزها على العالم الإسلامي باستخدام القوة العسكرية لإضعاف لقدرتها بصفة عامة، بسبب اشتعال عمليات المقاومة الإسلامية التي أنهكت الجيش الأمريكي كما ارتبكت الأوضاع الاستراتيجية الأمريكية في مناطق أخرى في العالم، حيث تطورت الأوضاع في كوريا نحو التطوير في قدراتها النووية، وكذا تدهورت مراكز النفوذ الأمريكية في أمريكا اللاتينية، كما على خلفية التركيز والإنهاك الأمريكي في المنطقة الإسلامية تطورت القدرات الروسية والصينية والإيرانية، بما عكس الدورة الأمريكية، وأحدث انكشافا في القدرات الأمريكية على الصعد الفكرية والاستراتيجية والعسكرية وعلى صعيد بنائها الداخلي حيث نمت ملامح متصاعدة من التصرفات العنصرية ضد المسلمين الأمريكيين.<BR>وهنا تأتي أهمية الاعترافات من العسكريين الأمريكيين وبشكل خاص جورج كيسى، حيث إنها تناولت بالتوضيح حدود القدرة العسكرية الأمريكية، باعتبار تلك القوة الصلبة هي ما اعتمدتها الولايات المتحدة في بناء إمبراطوريتها.<BR>لقد اعتمدت الولايات المتحدة القوة العسكرية بالدرجة الأولى في فرض هيمنتها وتغيير تركيبة الدول في العالم الإسلامي –كما أشار ويزلى كلارك وكما جرى في أفغانستان والعراق -بديلا لفكرة وخطة البريق الحضاري التي اعتمدتها من قبل (قلعة الحرية –بلد التعايش بين الأعراق والقوميات-البلد الجاذب للعقول من كافة أنحاء العالم ) وبديلا للهيمنة من خلال الاقتصاد أساسا (أقوى اقتصاد إنتاجي واستهلاكي-محط جذب الاستثمارات والأموال –بلد وأدى السيليكون –مركز بورصات العام ) وبديلا لاستخدامات القوة الناعمة او اللينة (السياسة الأمريكية القادرة على حل المشكلات –وسيط المفاوضات العالمي ) لكنها انتهت إلى ما قاله جورج كيسى إلى حالة اضطراب. <BR> <BR><font color="#ff0000">الانهيار الإمبراطوري</font><BR>هنا يمكن القول بأن الحلم الأمريكي في السيطرة الكونية بات حافلا بالانتكاسات وفق دورة تراجعية بسيطرة أمريكية عليها،حيث لجوء الولايات المتحدة إلى القوة العسكرية الصلبة في فرض هيمنتها لم يكن ناتجا عن خيار بين بدائل جرى فيها اختيار للأنسب في تحقيق حلم السيطرة الكونية، بل كان هو الخيار الوحيد المتاح،إذ الخيارات الأخرى كانت تعانى من انتكاسات رؤى أن القوة العسكرية هي وحدها الباقية لإنقاذ الخيارات الأخرى.<BR>وهنا فإن خطورة تلك الاعترافات هي أنها تقول تحديدا، أن الخيار الأمريكي الأخير في إنجاز مشروع القرن الأمريكي –أى القوة العسكرية-قد فشل، وأن فشله إنما يعنى حدوث حالات تراجع بوتائر أخطر، وأن الاستمرار في خطة الخيار العسكري ليست فقط غير مجدية وليست فقط كابوس ولكن أيضا لم تعد ممكنة.<BR>الاقتصاد الأمريكي بات في أضعف حالاته، والدولار الذي هو العملة الدولية وأساس قوة الاقتصاد الأمريكي بات متعرضا إلى حالة نزيف بلا توقف في صراعه مع العملة الأوروبية، بما دفع دول حليفة للولايات المتحدة إلى تغيير سلة عملاتها من الاقتصار على الدولار إلى تشكيلة من اليورو والدولار تقليلا لآثار انخفاض سعر الدولار الذي بات يصيب اقتصادها بخسائر متوالية.<BR>وكذا الأمر في حالة الهيمنة على التجارة الدولية بل والاقتصاد الدولي، إذ يتراجع باضطراد نصيب الولايات المتحدة في التجارة الدولية خاصة في مجال السلع ذات التقنية العالية لمصلحة دول أخرى كانت من العالم الثالث (المتخلف) حتى سنوات، وأهمها الصين التي بات نصيبها من هذا النمط من السلع نحو 214 مليار دولار في عام 2005 بما يشكل نحو 17 % من إجمالي الصادرات الدولية لتأتي خلف الولايات المتحدة بفارق لا يتعدى 18 مليار دولار، قافزة بذلك –في هذا النمط الأهم كمن الصادرات –على ألمانيا واليابان وفرنسا وبريطانيا.<BR>فإذا أضفنا إلى ذلك أن الولايات المتحدة باتت محل كراهية شعوب الأرض وأنها ما تزال في حالة اشتباك عسكري في مختلف أرجاء العالم الإسلامي...الخ، يظهر لنا الطابع العميق للمأزق الاستراتجي الأمريكي الشامل. <BR><br>