طالبان: الاعتراف الدولي والاجتياح الشامل
12 رمضان 1428

وسط زحام تقارير الولايات المتحدة حول العراق، مرت قضية احتجاز طالبان للكوريين الجنوبيين دون أن تحظى بحقها من الانتباه والدرس والتحليل، كما تمر الآن قضية تهديد طالبان باجتياح شامل لحكم كرازاى دون اهتمام بها هي الأخرى وفق ما ينبغي، رغم أن الحدثين أو التطورين باتا يحددان مصير الجهاد الأفغاني وحكم كرازاى والوجود الأجنبي لقوات الاحتلال من دول الحلف الأطلنطي على الأرض الأفغانية، وعلى نحو استراتيجى إلى درجة يمكن القول معها، إننا يجب أن نعد النفس لتلقى أخبار انهيار حكم كرازاى واندحار وارتباك القوات الغربية المحتلة، في وقت أقرب مما كان الجميع يتصور.<BR><font color="#0000FF">الاعتراف الدولي</font><BR>في قضية المحتجزين الكوريين، فقد كشفت طالبان من خلال العملية أنهم كانوا يقومون بدور تنصيري حسب الاعترافات الكورية وحسب القرار الكوري بمنع إرسال منصرين مسيحيين ضمن الاتفاق الذي عقد مع طالبان لإطلاق سراحهم، وفي ذلك لم تقدم طالبان مبررات قوية لعملية الاحتجاز التي قامت بها لهم، لكنها أيضا فضحت لعبة "الدور الإنساني" الذي تدعى المنظمات غير الحكومية المتكالبة على الحضور إلى الدول الإسلامية المحتلة.<BR> كما في تلك القضية أثبتت طالبان أنها تتمتع بقدرة عالية على المناورة في إدارة الأزمات والتفاوض، إذ لاحظنا أنها جمعت بين التهديد وتغيير مواعيد الفعل، أو هي كانت تضغط على الخصم وفق آليات محددة وحين تحصل على تنازل منه، كانت تفتح مساحة وقت أخرى وتضغط بآليات جديدة لتحصل على مساحة تنازلات أخرى، وفي ذلك كان لافتا أيضًا استخدام "سلاح الغموض" في الضغط على الخصم، لجعله يسعى لتقديم تنازلات في مقابل الحصول على تصريحات وإيضاحات حول مصير المحتجزين وأوضاعهم.<BR> كما في تلك الأزمة قدمت طالبان نموذج مهاري آخر، إذ هي اعتمدت على تفاعلات الأزمة في داخل دولة الخصم وبين الدول الخصوم وبعضهم البعض. في نموذج ترك التفاعلات تجرى في داخل البلد الخصم، لعبت طالبان على الرأي العام الكوري واستخدمته ورقة ضاغطة على السلطات الكورية من خلال إعطاء المتابعين آمالاً في إطلاق المحتجزين وإذاعة تفاصيل المفاوضات مع الوفد الكوري حين تتصلب مواقفه في المفاوضات معها بما يظهره بمظهر المسئول عن سلامة المحتجزين، وكذا حين كانت تعلن بين الحين والآخر بيانات حول صحة المحتجزين وعدم مسئوليتها عن تدهور أوضاعهم الصحية، بحكم تنقلهم الدائم ولعدم وجود إمكانيات طبية مناسبة لديها لرعايتهم.<BR> وفى نموذج فتح فجوة بين الخصوم وبعضهم البعض، فقد كان التركيز على طلب التواصل مع الكوريين وحدهم دون وساطات أو تدخل من أطراف أخرى، عاملاً من عوامل نقل المعركة، إلى داخل الخصوم وبعضهم البعض.<BR> كما ظهرت قدرات طالبان على إدارة التفاوض بمهارة وذكاء من نمط تعاملها مع الوسطاء من قادة القبائل والعشائر الأفغان، حين تمكنت طالبان خلال إدارتها التفاوض، من جعلهم يصبحون أحد أدوات الضغط على الخصوم لصالحها، إذ لاحظ المتابعون أن الوسطاء أعلنوا في أكثر من مرة، أن طالبان استجابت لكل شروطهم وأن التلكؤ هو من الطرف الآخر. كما ظهرت مهارتها أيضا من خلال إذاعة أنباء واضحة عن توزيع المحتجزين على أكثر من مكان، بما كان يجعل الطرف الكوري رافضا لكل تدخل عسكري من القوات العسكرية المحتلة أو القوات الحكومية العميلة لإنقاذ "مجموعة من المحتجزين" خشية مقتل المجموعات الأخرى.<BR>لكن الأهم في شأن قضية الكوريين هو أن طالبان أو مفاوضيها قد ساروا في التعامل مع الأزمة وفق استراتيجية محددة الأهداف وواضح فيها إدراكهم عوامل قوة موقفهم وعوامل قوة الخصوم أيضًا، كما واضح فيها حدود الخطوات التكتيكية المناسبة وكيفية اكتساب الحلفاء ..إلخ، وهنا يمكن القول من خلال متابعة الأحداث أن الهدف الرئيسي لطالبان كان تحديدًا هو نزع جانب من الاعتراف الدولي عن حكم كرازاى، ودفع طرف دولي إلى التفاوض معها هي مباشرة ومن فوق الأرض الأفغانية، وبموافقة اضطرارية من الحكم العميل ومن الدول المحتلة أيضا.<BR>وهذا بالفعل هو أهم ما أنجزته طالبان على صعيد صراعها مع حكم كرازاي وقوات الاحتلال، إذ أجبرت الحكم العميل والدول المحتلة لأفغانستان على الرضوخ لمطلبها في التفاوض المباشر مع كوريا، وفق قرار اتخذ خلال زيارة كرازاى للولايات المتحدة ولقائه الرئيس الأمريكي جورج بوش، وفي ذلك هي "استخدمت كوريا" في الضغط على الولايات المتحدة، إذ اتخذ القرار أيضًا من خلال زيارة ضاغطة لوفد كوري جنوبي إلى الولايات المتحدة في ذات وقت وجود كرازاى . لقد جرت المفاوضات بين قادة طالبان ووفد كوري جنوبي حضر إلى أفغانستان ليتفاوض مع طالبان دون مشاركة من أي وفد حكومي أو من الدول المحتلة لأفغانستان، فكان الاتفاق نزعًا للاعتراف الدولي عن حكم كرازاى ورضوخًا من الدول المحتلة وإقرارا كوريا بسلطة طالبان ..إلخ.<BR><font color="#0000FF">الاجتياح الشامل</font><BR> هنا ووفق ذاك النجاح الكبير وارتباطا بالأوضاع على الأرض، جاء تهديد طالبان بالاجتياح الشامل وإسقاط حكم كرازاي، وفق مغزى كبير أيضًا.<BR>وتهديد طالبان بهذا الاجتياح الشامل، ليس تهديداً يرتبط بنمط من الحرب النفسية دون أن يكون ممكنا فعليا، بل هو يأتي بعد أن فشلت حملة قوات حلف الأطلنطي المحتلة في زحزحة طالبان عن المناطق التي سيطرت عليها وبعد أن تمكنت طالبان من كسر الهجوم، والتمكن خلال تركيز قوات الأطلنطي على بعض الولايات التي سيطرت عليها من قبل، من مد نفوذها إلى مناطق أخرى، وهو ما دفع تلك القوات لتبرير فشلها بالحديث عن إمداد إيران لطالبان بأسلحة حديثة، وهو أمر معروف "استحالة حدوثه" بحكم الدور الإيراني في الحرب الأمريكية على طالبان والخلاف التاريخي المعروف بين إيران وطالبان. <BR>ومما يعطي هذا التهديد مصداقيته ويجعله ممكنا على صعيد الفعل، هو أن حكم كرازاي بات مهتزًا من الداخل على نحو كبير، إذ باتت الاختلافات في داخله تعصف به، وكان آخر مؤشراتها هو تذمر "المجاهدين السابقين" من التهميش الذين تعرضوا له، وكذا توسع ظاهرة هروب المجندين في الجيش الأفغاني العميل والشرطة، وانضمامهم إلى حركة طالبان.<BR>كما هذا التهديد يذكر مرة أخرى، بالتهديد السابق الذي أطلقته ونفذته حركة طالبان تحت عنوان "هجوم الربيع"، الذي تصورته قوات الاحتلال نمطًا من الحرب النفسية إلا أنه تحول إلى تغير استراتيجي في الأوضاع على الأرض، إذ انسحبت قوات الاحتلال من كثير من المقاطعات تحت ضغط الهجمات والعمليات الاستشهادية.<BR> وفي ذلك كان لافتا أن التغيير الذي جرى خلال هجوم الربيع، قد اشتمل على ملامح تغيير استراتيجي في نمط حركة طالبان، إذ ارتبط هذا الهجوم ببدء ظهور قيادات طالبان علنًا في المناطق المحررة، كما بدأت طالبان نشاطًا إعلاميًا مكثفًا ومتميزًا، سواء عن طريق التحدث إلى القنوات الفضائية من قادة عسكريين أو من متحدثين إعلاميين.<BR><BR><font color="#0000FF">الاجتياح .. والاستراتيجية</font><BR>ولعل اختيار مصطلح "اجتياح" في الإعلان الطالباني عن خطتها القادمة هو تعبير عن نمط استراتيجي محدد، لطبيعة استراتيجية الصراع التي اعتمدتها طالبان في المرحلة القادمة. والقصد هنا هو أن طالبان تدرك أن معركتها لن تجري وفق نفس نمط صراعها الذي اعتمدته مع الحكم السابق على سيطرتها على أفغانستان أو تحالف الشمال بعد استيلائها على السلطة، إذ أن نمط معركتها المقبل سيراعى وجود قوات حلف الأطلنطي على الأرض الأفغانية.<BR> وبمعنى آخر فإن الاجتياح هنا يعني حالات من السيطرة على المدن والانسحاب منها، لخلخلة نظام كرازاي وتشتيت الجهد الاستراتيجي لقوات الاحتلال، دون الوقوع في فخ يمكن قوات الاحتلال من استخدام عوامل قوتها (الطائرات) في المعركة. <BR>الاجتياح الشامل لطالبان كما يبدو أو كما يمكن فهمه، هو نقل التجربة الراهنة في السيطرة على المديريات والولايات البعيدة، إلى بعض المدن الهامة، حيث يجري الاستيلاء المفاجئ ثم الانسحاب من المراكز الرئيسية (السكانية) إلى المناطق المتطرفة، بعد توجيه ضربات محكمة لمؤسسات حكم كرازاي، خاصة الأجهزة الأمنية وقوات الجيش العميل، وخلالها تجري أوسع عمليات تعبئة وجذب للمتطوعين.<BR>وهنا تظهر أهمية الحصول على نمط من الاعتراف الدولي، خلال أزمة المحتجزين الكوريين، كما هنا تظهر أهمية هجوم الربيع وتطويره باتجاه الاجتياح الشامل. وهذا وذاك هو ما جعل كرازاي يقف علنا ليعلن عن استعداده للتفاوض مع طالبان، وأن يكون الرد هو طلقات الرصاص والقذائف التي جعلته ينهي كلمته ويهرب من مكان الاجتماع الجماهيري!<BR><br>