الأميركان، و تفجير الوضع الفلسطيني مخرجا !!
2 جمادى الثانية 1428

ها قد ظهرت حقيقة المشروع الأميركي للسلام فيبدو أننا نعيش في هذه الأيام شرحا تفصيليا لكيفية استدراج الحكومات و الحركات في منطقتنا العربية نحو الحرب الأهلية و بعثرة منهكة لجهودها و طاقاتها بطريقة تعززها اعتقادات تدفع وراء واقع آخر لا دليل على أنه سوف يكون أفضل من الحالي فمما لا جدال فيه حتى عند أولئك الذين تقاتلوا في شوارع غزة قبل يومين قبل أن تتكفل حركة فتح بنقل القتال إلى شوارع الضفة الغربية أيضا فيما يشبه محاولة للانتقام من هذه الأخيرة على ما لحق بها في غزة، أن هذه السلطة التي انبثقت عن اتفاقية أوسلو حالها كحال الملكة إليزابيث الثانية في بريطانيا مثلا فهذه الأخيرة تملك و لا تحكم و إن كانت الدقة تستلزم منا أن نقول أن ساكنة قصر باكينغهام تحظى باحترام و تقدير دوليين واضحين عكس السلطة طبعا رغم أن الرئيس عباس يصر على لعب دور الرجل الماسك بزمام الأمور و هو الذي كان يعجز حتى عن تأمين نفسه و كم من مرة أجل فيها دخول غزة بدعوى الضوابط الأمنية حتى بلغت الوضعية حد فك ارتباط حقيقي عن الضفة و بشكل ربما، لا عودة عنه في الأجل المنظور و إنها لمصادفة غريبة حقا أن يكتب دينيس روس الدبلوماسي الأميركي الخبير بالشرق الأوسط و هو الذي كان مبعوثا إلى المنطقة لسنوات طويلة، عما يفيد هذا المعنى قبل أيام قليلة فقط ثم ها هو (اليهودي المتصهين) مارتن إنديك يعلنها صراحة يوم الجمعة الأخير في الواشنطن بوست: "..تطور الأحداث بهذه الطريقة سيحرر عباس للتركيز على الضفة الغربية، حيث يمكنه الاعتماد على قوات الدفاع الإسرائيلي لضرب التحديات المتوقعة من حماس، وعلى الأردن والولايات المتحدة المساهمة في تشكيل قوات الأمن. وعباس باعتباره رئيسا لمنظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية يمكنه التفاوض مع إسرائيل حول التخلي عن الضفة الغربية. وإذا ما سيطر على المنطقة يمكنه التوصل إلى اتفاقية سلام مع إسرائيل تؤدي إلى تأسيس دولة فلسطينية ذات حدود مؤقتة في الضفة الغربية والضواحي العربية للقدس الشرقية" فهل هنالك كلام أكثر وضوحا من هذا على أن الدولة الفلسطينية التي وعد بها كل أبناء أوسلو هي في الواقع 'دولتان' واحدة مدعومة في الضفة و أخرى محاصرة و ربما مقنبلة أيضا مستقبلا في القطاع!<BR>في وسعنا أن نعيد تركيب جزيئات القضية من بدايتها فحركة فتح ترفض الاعتراف بحكومة تقودها حركة المقاومة الإسلامية و حماس هذه، تدرك مكمن خطورة فوزها الكبير بتلك الانتخابات و لكنها مع ذلك أيضا، ترفض التنازل عما حققته عبر الصناديق معتبرة بالتالي أن الناخب الفلسطيني فوّضها على الرغم من أن هذا الناخب على ما يبدو لو قدر له أن يعاود الانتخاب، فهو ربما لن يقرر بالضرورة تكرار ما فعله بداية العام المنصرم، ليس كرها في حماس و يأسا منها و إنما رضوخا لواقع عالمي و إقليمي لا يأبه به و لا يفكر في التنازل عن عنجهيته فلم الإصرار على التضحية إذن و التصميم على قبول حصار الجوع و الحيف ما دام الأشقاء أنفسهم منخرطون في التضييق و الخنق؟<BR>إن الغرب مصمم على مواصلة الحصار و لاحظوا كيف هبت 'صقور العالم' لكي تعلن دعمها غير المشروط للرئيس عباس بمجرد أن أقدم هذا الرجل على حل حكومة، شرعيتها أهم منه و حضورها و تأثيرها في الشارع الفلسطيني أبرز و أهم من أي حضور و تأثير آخر. طبيعي إذن أن يهب الغرب الديمقراطي لأن يدعم القفز على الديمقراطية و الانقلاب على الصناديق فهذا ديدنه كما فعل مع انتخابات الجزائر و غيرها على مر العقود الأخيرة.<BR>ثم من حقنا هنا أن نتساءل: هل في وسع أحد أن يجزم أن فك الحصار على الأموال الفلسطينية كان سيقع لو أن عباس لم يفعل ما أقدم عليه؟ هذا مستحيل طبعا حتى أن اتفاقية مكة المكرمة التي جرى التوقيع عليها برعاية شخصية من عاهل المملكة العربية السعودية خلال شهر شباط/فبراير الماضي، و التي أسست لحكومة وحدة أعادت بعض الأمل لدى البسطاء في غزة، بلغت هي الأخرى طريقا مسدودة فهي و إن كانت غنية في محتواها إلا أنها مع ذلك، لم تقدم حلولا عملية و تصورات فعلية لحل المشكلات الحقيقية التي تعترض الطريق في غزة و التي أولها بلا خلاف: هذا الانفلات الأمني الخطير الذي تجاوز كل المحرمات و أضحى معه شعار "حرمة الدم الفلسطيني" تراثا و أرشيفا من ذاكرة الزمن الماضي.<BR>بالتالي فإن اتفاق مكة الذي كان يهدف إلى تجنيب الفلسطينيين شر التقاتل الداخلي ـ والذي خطط لحدوثه إليوت أبرامز المحافظ المتصهين في واشنطن الذي هو عمليا الراعي الأول لمشروع الحرب الأهلية في فلسطين ـ، لم يؤت ثماره و الظاهر حاليا أن المحيطين بالرئيس محمود عباس الذين لفظتهم صناديق الانتخابات بمن فيهم هذا المسمى أحمد عبد الرحمن الذي قدم نفسه البارحة على قناة الجزيرة بأنه مستشار للرئيس عباس، رافضا لأي حوار مع "المنقلبين على الشرعية" من غير أن يدرك أنه لا يملك حق الحديث باسم شعب لم يفوضه و لا حتى أن حماس هي سيدة المجلس التشريعي الذي يفترض أنه أهم مؤسسة بلا خلاف. إن هذا الصنف من الناس ما زالوا معتقدين أن أبا مازن وحده هو الكفيل و المؤهل سياسيا لقيادة الشعب الفلسطيني نحو تحقيق حلم الدولة مع التنازلات التي شابت هذا الحلم أيضا على مر السنوات و هذا يعني أن هؤلاء النافذين في السلطة، يرفضون بكل شدة أن يكون لحركة حماس، رغم شرعيتها الواضحة، أي تأثير أو تدخل في ذلك.<BR>ثم إن أمارة انهيار الاتفاق المكي تجلت منذ أسابيع عديدة فحكومة الوحدة التي أعلنت بعد جهيد، فشلت في التوصل إلى أي حل للمشكلة الأمنية و فوضى السلاح بدليل أن السيد هاني القواسمة وزير الداخلية الذي عين لهذا الغرض، فضل الاستقالة و الانسحاب لأنه كان يدرك ربما، عدم قدرته على تحقيق أي شيء في هذا الاتجاه و أن الحرص على وجوده لا يعدو أن يكون في نظر غيره، الرغبة في إيجاد شماعة يجري تعليق الفشل فوقها لأن الذي يتحركون بالريموت كونترول من واشنطن، كُثر و السلاح يصل إليهم عبر البر و البحر و ربما جوا أيضا رغم الحصار المعلن بدليل أنهم استطاعوا الهروب نحو مصر مباشرة بعد انهيار دفاعاتهم في القطاع وذلك بواسطة قارب بحري لا أحد يدري كيف سمحت له البحرية الإسرائيلية بالمرور و بلوغ الشاطئ المصري و هي التي تعودت أن تقصف أي متحرك هناك إلى درجة أنها قتلت المصطافين على شواطئ غزة!!<BR>يقودنا هذا بالضرورة إلى التساؤل هنا: من يحكم من؟ و من يعود له أصلا القرار الفصل لدى الفصيلين؟ هل يتحكم المسئولون السياسيون في كل من حماس و فتح، في مسلحيهم؟ الواقع أن ظاهرة تكرر فشل الاستمرار في كل اتفاقات وقف إطلاق النار التي تم التوصل إليها في الأيام الماضية، دليل على أن العكس هو الصحيح بمعنى أن كلاً من محمود عباس و إسماعيل هنية يقعان تحت التأثير أو قل السيطرة المباشرة من قبل القيادات العسكرية في كلا الحركتين ثم إن استهداف مقري الرجلين بالقذائف أيضا دليل على أنهما لا يستطيعان إلا أن يكونا كذلك !!<BR>من ناحية أخرى أيضا فإنه من غير المفيد هنا أن تصر السلطة على تحميل حركة حماس مسئولية ما يجري أو وفق التعبير الذي اختاره "الفتحاويون": "تنفيذ انقلاب" فهذا تعبير بائس و تفسير هدفه التعمية و استحمار عقول الناس –كما يقول علي شريعتي- إلى درجة أن الصحفي البريطاني المخضرم، روبرت فيسك تساءل هذا اليوم في يومية الأندبندنت ساخرا: "كيف يمكننا التعامل مع انقلاب نظمته حكومة منتخَبة؟"<BR>إذا ما كانت فتح هي المشرف الفعلي على جل منظمة التحرير الفلسطينية بسبب سبقها التاريخي و أمور أخرى لا يسمح المجال بسردها هنا، فإن للحركة الإسلامية أيضا شرعيتها فهي لن تنقلب على نفسها مثلما يقول خصومها و إنما التفسير الوحيد الذي يمكن سوقه هنا ملخصه أن هذا الوضع المتفجر في غزة لا يقع عبثا بمعنى أن العقد هناك لم ينفرط بشكل اعتباطي بل إن هنالك أياد خارجية خططت، موّلت ثم رعت تطور الأمور نحو هذا الواقع الذي يزول فيه تأثير السياسيين و يبقى المجال مفتوحا أمام العسكريين الذين لا يحسنون غير لغة المواقع و حسابات الوقت و الخسارة بمعناها الأمني البحت.<BR>لن نكشف سرا هنا حينما نقول أن المدعو محمد دحلان –الذي قالت جريدة القدس العربي أن جهات عديدة في منظمة فتح تطالب بمحاسبته- هو من يقف مباشرة خلف التصعيد من الجانب الفتحاوي فهذا الرجل يعتبره أبرامز في واشنطن مفتاح مشروعه و الإدارة الأميركية لا تخفي حقيقة أنها تعتبره رجلها الموثوق و الخليفة المزمع لمحمود عباس و هي بالمناسبة، لن تدخر جهدا في سبيل تعيينه بدلا من هذا الأخير رغم 'اعتداله' بمعنى أن وجوده في السلطة مفروض بشكل جبري على الرئيس أبي مازن إلى جانب المسمى محمد رشيد الذي عمل سابقا في منصب مستشار 'غامض' للرئيس عرفات قبل أن يخفت بريقه بعد وفاة أبي عمار ثم يعاود الظهور مؤخرا بجانب دحلان و غيره من التيار المتأثر بالتصور الأميركي لحل النزاع على الرغم من أن بوش نفسه لا يملك أي مشروع في هذا الصدد إلا بعض التعليقات المقتضبة التي ينقلها بأمانة من الجانب الإسرائيلي و لاحظوا مثلا ما سوف يقوله في التاسع عشر من الشهر الجاري حينما يستقبل رئيس وزراء الكيان في البيت الأبيض لتروا بأم أعينكم كيف يوافق المضيف ضيفه على كل كلمة يقولها و بلا تردد و لا شك أنهما سوف يعلنان مباشرة تسريع إرسال اعتمادات مالية عاجلة نحو الرئيس المعتدل جدا، محمود عباس أبو مازن !<BR>مطلوب إذا تدخلا عربيا عاجلا و شجاعة عملية في التعاطي مع القضية بدل الحرص على تغليب شرعية على أخرى كما قال الأستاذ خالد مشعل إذ إن الوضع في الأراضي المحتلة لا يحتمل ثقلا عربيا إضافيا على أساس الواقعية السياسية و رغبات المجتمع الدولي بمعنى أن تأسيس "لجنة تقصي حقائق" غير كاف و المطلوب أن تسمى الأمور بمسمياتها فتدان التجاوزات التي وقعت في غزة تماما كما تدان التصرفات التي أقدم عليها العملاء هناك فإذا ما كانت حركة فتح في الوقت الحالي مختطفة من قبل هؤلاء المتأمركين، فإن هذا لا يعني أنه من حقنا أن نضع جميع أفرادها في الخانة نفسها لأنها أصلا حركة مقاومة و تملك رصيدا نضاليا لا يمكن تجاوزه لمجرد مروق بعض المحسوبين عليها.<BR>مطلوب بالتالي، تحركا عربيا يوازي الإعلانات بالأفعال و يتشجع إلى حد رفض التعاطي مع أولئك المسئولين النافذين في الجانب الفلسطيني الذين يسارعون إلى التشاور مع واشنطن قبل الجامعة العربية في القاهرة بشرط أن يكون أيضا، مشفوعا بتحريك حقيقي للمستحقات المالية بشكل عاجل يساهم في التخفيف من وطأة التذمر و اليأس السائدين في غزة و باقي الأراضي الفلسطينية المحتلة و يعيد القضية إلى حيزها العربي و الإسلامي الطبيعي بدل تركها هكذا كيفما اتفق فوق طاولة رباعية أطرفها تتراوح بين راع أميركي متواطئ و مجرم، إلى راع روسي متردد يتقدم خطوة و يتردد أخرى مرورا براع أوروبي لم يبلغ بعد درجة الخروج عن القمقم الأميركي المتسلط عليه منذ أربعينيات القرن الأخير وصولا إلى منظمة أممية لم تعد تعني شيئا في قاموس الدبلوماسية الدولية.<BR><br>