أمريكا الجنوبية.. قطب يتشكل هل سيفيدنا؟!
29 ذو القعدة 1427

شكلت أمريكا الجنوبية منذ أواسط القرن التاسع عشر منطقة نفوذ حقيقية للولايات المتحدة التي اعتبرتها امتداداً طبيعياً لمصالحها الاستراتيجية، حتى أطلق عليها اسم " الحديقة الخلفية للبيت الأبيض " لكن هذه المنطقة التي كانت ومازالت نسبيا بمثابة خزان احتياطي "للعم سام" بدأت تنفلت تدريجيا وبإيقاع متسارع من القبضة الأمريكية وتتحرر بل وتتطلع عبر أنظمة "يسارية" في ثوب اجتماعي وحقوقي وبمشاركة قوية للسكان الأصليين إلى تشكيل قطب سياسي يؤخذ برأيه في المنتديات الدولية. <BR>وقد شهدت هذه المنطقة في السنوات الخمس الأخيرة تطورات تصب في جعل المنطقة تسير نحو تشكل قوة حقيقية في العقود المقبلة إذا ما تحقق الاندماج السياسي والاقتصادي الذي تسعي إليه شعوب أمريكا الجنوبية كما دعا إلى ذلك "رائد التحرير" سيمون بوليفار في القرن التاسع عشر.<BR>فبالإضافة إلى كوبا، يوجد الآن عدد من الدول ، تحت قيادة أحزاب وقوى "يسارية- اشتراكية": فنزويلا بقيادة شافيز، والبرازيل بقيادة لولو دي سيلفا، وأوروجواي بقيادة تيبرا فاسكو، وبوليفيا بقيادة اينو مورالس، وتشيلي بقيادة السيدة ميشيل نتلس.<BR>فلم يعد في مجموع دول أمريكا الجنوبية سوى حكومتان يمينيتان فقط، في دولتي كولومبيا والباراجواي، في حين أن الدول الكبرى، مثل: فنزويلا والبرازيل والأرجنتين والتشيلي والأورجواي وبوليفيا ، وبيرو والمكسيك ونيكاراجوا مؤخرا، تحكمها أنظمة "يسارية".<BR>لقد تجلى فقدان أميركا الشمالية وزنها السياسي ونفوذها الاقتصادي في القارة الأميركية الجنوبية واضحاً عندما نظم بوش أخيرا قمة الدول الأميركية في الأرجنتين التي أفشلتها أجواء مشاكل دول "ميركوسور" ( تجمع سوق الجنوب ) ورفض اتفاقية "التجارة الحرة بين الدول الأميركية".<BR><font color="#ff0000"> أمريكا الجنوبية .. مشروع تكوين قطب عالمي جديد </font><BR>تهدف أغلبية دول أمريكا الجنوبية إلى هدفين رئيسيين، الأول تحقيق نوع من التكامل في أفق الاندماج، والثاني التوفر علي سياسة خارجية موحدة تعطي لأمريكا اللاتينية وزنا علي المستوي الدولي.<BR>وقد بدأت مشروعات الاندماج منذ الستينات، في إطار النظم القمعية العسكرية، لكن تغييب الشعوب عن المشاركة فيها وتعاقب الانقلابات العسكرية المدبرة من الشمال حالا دون تحقيق نتائج تذكر. وتوجد في المنطقة عدد من التجمعات، غير أن الذي بدأ يتصدر ويقود هو التجمع الإقليمي ميركوسو ويعني سوق الجنوب، المكون من البرازيل والأرجنتين والباراجواي والأوروجواي، وانضمت إليه فنزويلا في بداية ديسمبر الماضي. (ولعل الدور الذى تلعبه فنزويلا بتزويدها لمختلف الدول بالبترول وبأسعار مقبولة ومنخفضة عن السوق الدولية، يمثل درسا قد تستفيد منه المنطقة العربية والعالم الإسلامي) ، بل وصل الأمر برئيسها شافيز إلى شراء جزء من ديون الأرجنتين من صندوق النقد الدولي لتقليل الضغط عليها. ويعتقد المراقبون أن مسيرة التكامل والاندماج وآخرها تأسيس برلمان لدول أمريكا الجنوبية ، ستؤدي حتما إلى تجمع شبيه بالاتحاد الأوروبي في المدى المتوسط.<BR>ما يجري في أمريكا الجنوبية يتجاوز مجرد قائد نشاز عن غالبية "متزنة" في علاقاتها مع الإمبراطور الأمريكي الشمالي . فتلك التطورات اتجاها شعبيا عاما في غالبية دول أمريكا الوسطى والجنوبية معاديا للولايات المتحدة الأمريكية وسياساتها الخارجية وناقما على كل ما تبشر به في العالم ورافضا للعولمة باعتبارها حربا تقودها أمريكا ضد الفقراء .<BR>إن دول أمريكا الجنوبية تمتلك من الثروات ما يؤهلها بامتياز لإقامة كتلة اقتصادية وسياسية .. بل وعسكرية تمثل قطبا جديدا في عالم قادم متعدد الأقطاب ، ولعل أهم ما تمتلكه هذه الجماعة الآن ، هو الإرادة السياسية الجماهيرية والنخبوية ، ليس فقط للمضي قدما في مشروع أمريكا الجنوبية الموحدة ، ولكن أيضا للتصدي لكل التحديات ، التي تكون لدى قادة أمريكا الجنوبية رصيدا وخبرة تاريخية كبيرة بها .<BR>كما يساعد هذه التجربة .. ويمكننا أن نعتقد أنه أحد العوامل الرئيسية في النجاح المتوقع لهذه المحاولة ، ما تحقق من استنفاذ لطاقة وميزانية التدخلات الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية في أفغانستان والعراق ، وهزيمتها التي لم تعد خافية في كلتيهما، الأمر الذي أضاع الهيبة الخرافية للقوة الأمريكية، وأعطى الوقت اللازم لبدء التحرك دون قدرة للإمبراطور لوأد الحركة ، وأثبت إمكانية الانتصار عليه بقوى الشعوب .<BR>إن فهم التحولات التي تجرى في أمريكا الجنوبية لا يمكن أن يتأتى بدون النظر إلى النتائج المأساوية لتبعية هذه الدول للهيمنة الأمريكية والتي استمرت منذ تعمقها بعيد الحرب الاستعمارية الثانية ( 1939 ـ 1945 ) وحتى منتصف التسعينات .. ونعتقد أننا في حل من الإسهاب في هذا المقام فالمعلومات والأخبار عنه متداولة ومعروفة ، فيكفى ذكر البرازيل التي تمتلك أكبر ثروات طبيعية بين دول العالم ، وتمتد على مساحة جغرافية توفر كل مناخات الانتاج المتنوع ، وما يزال شعبها يعيش حالة من الفقر والتخلف والجهل لا يمكن تصورها مقارنة بهذه الثروات .. فقط أوردنا هذا المثال لإيضاح أن التحولات التي تجرى في أمريكا الجنوبية لا تمثل نزعات يسارية لدى بعض القادة أو الجماعات السياسية ، بقدر ما تمثل ضرورة لاستمرار الحياة في هذه القارة .<BR><font color="#ff0000"> أوروبا والتغيرات في أمريكا الجنوبية </font><BR>لم يكن للدول الكبرى في أوروبا الحديثة " بعد الحرب الاستعمارية الثانية " نفوذا يذكر في أمريكا الجنوبية ، فقد عملت الولايات المتحدة الأمريكية على تقليص هذا النفوذ ، وضرب النفوذ الأسباني والبرتغالي عبر العديد من الانقلابات والتغلغلات الاقتصادية للشركات العملاقة ، وبالرغم من عدم الارتياح الأوروبي لهيمنة " اليساريين الجدد " على مقاليد الحكم في معظم دول أمريكا الجنوبية ، إلا أنه ما من شك في أن تخلص مجموعة دول أمريكا الجنوبية من الهيمنة الأمريكية يمثل تطورا إيجابيا بالنسبة لأوربا ، في تنافسها " غير الصدامي " مع أمريكا ، كما يمثل إمكانية جديدة للتبادل التجاري الخارج عن السيطرة الأمريكية .. وهو وهذا هو الأهم .. يفتح بابا جديدا لعالم متعدد الأقطاب تسعى إليه أوروبا بدون امتلاك الإرادة السياسية الموحدة اللازمة لتحقيقه .<BR>أوروبا وإن تعارضت مصالحها القصيرة المدى " والدول الصناعية الكبرى منها على وجه الخصوص "، مع التوجهات التي يطرحها قادة دول أمريكا الجنوبية ، فهي صاحبة مصلحة في المدى المتوسط في نجاح عملية قيام القطب الأمريكي الجنوبي ، وهى لهذا لا تبدى أي تحرك مضاد لما يجرى هناك من تغيرات ، ولابد لها من الانتظار ، لعل هذه الحركة تكون إيذانا بعودة أوروبا الموحدة إلى موقع متوازن مع القطب الوحيد الآن .<BR><font color="#ff0000"> القطب الأمريكي الجنوبي هل يخدم أمتنا!!</font><BR>كما ورد في فقرة سابقة ، أن الهزيمة الأمريكية في العراق وأفغانستان ، مثلت أحد أسباب توفر الفرص لنجاح المحاولة في أمريكا الجنوبية ، وهو ما يعنى أن قوى الأعداء يقل أثرها كلما اتسعت ميادين القتال ، وقد كانت هذه الفكرة هي العامل الرئيس في هزيمة قوات الألمان على الأراضي الروسية .<BR>ونعنى هنا أن ما سمي بالحديقة الخلفية للبيت الأبيض ، عندما يتحول إلى قوة منافسة فإن هذا بالضرورة يؤدى إلى تشتت قوى العدو الأمريكي " العدو الرئيس" لأمتنا ، ولعل القارئ العزيز قد لاحظ وضعنا لكلمات اليسار والحكومات اليسارية في الحديث عن ما يجرى في أمريكا الجنوبية بين أقواس ، ذلك أن الاتجاهات "اليسارية" في أمريكا الجنوبية ، ومنذ نشأتها ، كانت تعبيرا عن الواقع الاجتماعي الذي تعيشه شعوب هذه البلاد ، ولم تكن كحال يساريينا ترديدا للنغم السوفييتي أو الصيني ، ولم تنفصل عن عقائد الشعوب التي ناضلت معها ، وكان موقفها الدائم من حركات التحرر العربية هو الدعم والتأييد بعيدا عن الأغراض ، ولعل الدعم الكوبي لثورة الجزائر يعد مثلا واضحا على هذا .. وبعيدا عن النوايا التي لا يعلمها إلا الله الخبير العليم .. فالمقومات اللازمة لبروز الأطماع في أمتنا لدى هذه المجموعة تكاد تكون منعدمة ، والعكس صحيح ، حيث يمثل نهوضنا وتقدمنا ومنعتنا عوامل مساعدة لحركتهم في مواجهة هيمنة ومؤامرات الإمبراطور المتخبط ، وقد تكون المواقف التي كان أكثرها نصاعة إنهاء التمثيل الدبلوماسي مع الكيان الصهيوني من قبل فنزويلا ودعوتها لدول المجموعة لتبنى نفس الموقف، وتبنى فنزويلا لفكرة القمة الأمريكية الجنوبية / الإفريقية ، دليلا ، لا نقول على حسن النوايا ، ولكن على تلاقى المصالح ، على الأقل في المدى المتوسط .<BR>إن القطب الأمريكي الجنوبي سوف يمثل منطقة فراغ استعماري تساهم في سحب الضغط المتزايد في الخطط الأمريكية الشمالية على أمتنا ، كما يمثل إمكانية لخلق سوق للتبادل التجاري المتكافئ خارج السيطرة الغربية .. وربما .. والأمل في وجه الله أن تكون بداية لقيام القطب الإسلامي الذي طال غيابه .<BR><BR> <BR><br>