الانقلابات البيضاء في الجزائر تتوالى !
29 جمادى الأول 1427

القرار الصادر بتجميد أرصدة حركة النهضة الإسلامية لم يكن في الحقيقة مفاجأة كاملة بالنسبة للجزائريين الذين أصبحوا يتوقعون أي شيء، ربما لأن حركة النهضة الجزائرية ظلت في الآونة الأخيرة من أكثر الأحزاب الرافضة للعديد من القرارات الرسمية الصادرة في البلاد، بحيث إنها تحولت في نظر البعض إلى حركة "مشاغبة" و رافضة سياسيا للكثير من القرارات الصادرة من أعلى هرم في السلطة، بحيث أن الشيخ عبد الله جاب الله (رئيس حركة النهضة الإسلامية) شكل في النهاية تيارا معارضا للسلطة و بالطرق المباشرة، أي بالانتقاد المباشر عبر وسائل الإعلام المرئية و المسموعة و المكتوبة، و الحال أنه بعد صدور قرار حل الجبهة الإسلامية للإنقاذ في بداية التسعينات كان ثمة فراغا كبيرا على الصعيد الحركي و السياسي على حد سواء، بالرغم من محاولة العديد من الأحزاب الإسلامية أن تسد ذلك الفراغ قدر الإمكان، وكانت حركة النهضة من ضمنها. من الناحية السياسية فقد لعبت حركة النهضة دورا لا يمكن تجاهله، برغم ما سمي بالأخطاء "الإدارية" التي كانت ترتكبها الحركة في تعاطيها مع القضايا الكبيرة في البلاد، بحيث أن الشيخ عبد الله بن جاب الله ظل محل اتهام من قبل حركته نفسها بأنه "غير مرن" في قراراته السياسية و بالخصوص تلك التي تتعلق بالتعاطي مباشرة سواء مع السلطة القائمة في الجزائر أو مع الملفات الضخمة التي ما زالت تشكل اليوم حجر عثرة في الجزائر و هو الشيء الذي أحدث الزلزال الكبير في قلب الحركة التي تعرضت إلى أكبر "صدمة" سياسية حين تحولت الحركة إلى حركتين متخاصمتين و متنازعتين، و تحول الرفاق القدامى للشيخ عبد الله بن جاب الله إلى خصوم، و هو الشيء الذي جعل حركة النهضة "الثانية" تختار العمل وفق إستراتيجية الواقع السياسي و هو ما اختارته أحزاب سياسية إسلامية مثل حركة حمس الجزائرية أي عدم الابتعاد عن المشاركة الفعلية في السلطة لأجل ما أسماه رئيس حركة حمس الإسلامية "بالدفاع عن قضايا البلاد من موقع المسؤولية و ليس من خارجها" و هو الشيء الذي أراده المنشقون عن الشيخ عبد الله بن جاب الله في محاولة إحداث القطيعة مع من أسموهم بالاستئصاليين في كل مكان من الجزائر.. الانشقاق الكبير في حركة النهضة الإسلامية هو الذي أضعفها و صنع في الحقيقة رئيسين لحركة واحدة اعتمد كل واحد منهما على إدانة الآخر و على عدم الاعتراف بشرعيته عبر وسائل الإعلام، و هو ما ساهم في الكثير من المشاكل ليس على الصعيد الحزبي فحسب، و على الأداء السياسي لحركة صنعت المفاجأة الفعلية في السنوات الماضية حين كانت تحتل مكانا متقدما من الانتخابات في الجزائر، و هو ما لم يتحقق في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، بالرغم من أن عبد الله بن جاب الله كان من بين الشخصيات التي قيل أنها قادرة على إحداث المفاجأة الضمنية في البلاد، و يومها، كانت الخسارة الانتخابية للشيخ عبد الله بن جاب الله بالنسبة لخصومه من نفس حركته بمثابة التأكيد على أنه لم يعد قادرا على الأداء السياسي وفق ما تحتاج إليه البلاد، بالخصوص في الوقت الذي صار الكلام عن إمكانية عودة الجبهة الإسلامية للإنقاذ ـ تحت تسمية مختلفة ـ إلى الساحة السياسية كحزب سياسي رسمي، و حتى لو تعذر عودة الجبهة الإسلامية للإنقاذ فإن إمكانية عودة شخصيات مهمة من الإنقاذيين إلى البلاد أمر وارد و يبدو ضمن سياق المصالحة الوطنية الذي انبثقت على أساس وثيقة مبرمة بين المسلحين و بين السلطة و التي نتجت عنها في النهاية تراجع كبير لأعمال العنف في الجزائر، و بالتالي إطلاق سراح العديد من المساجين الإسلاميين في أكبر مشهد من مشاهد الوئام المدني على حسب تعبير (الرئيس الجزائري) عبد العزيز بوتفليقة.<BR><font color="#ff0000"> هل الشيخ جاب الله بداية التغيير في الجزائر؟</font><BR>من الصعب القول أن الوئام المدني في الجزائر كان نتاجا أحادي الطرف باعتبار أن المسلحين الذين أطلق سراحهم تراجعوا عن العمل المسلح و باعتبار أن العديد من الشخصيات المهمة من الجبهة الإسلامية للإنقاذ انحازت إلى قرار السلم المدني في الجزائر لأجل عودة حقيقية للمشروع الوطني البعيد كل البعد عن التنازلات المجانية لليبراليين الراغبين في إحالة البلاد على الإفلاس الشامل. لكن الذي كان يبدو واقعا أيضا أن العديد من الأحزاب المعارضة تعرضت للمضايقة الفعلية، بمن فيهم الشخصيات المعروفة التي ظلت تنتقد المنهج العام للسياسة الجزائرية، كشخصية الشيخ عبد الله بن جاب الله، و ربما هذا الانتقاد الدائم هو الذي أحدث الانشقاق في الحركة بحيث صار الشيخ معزولا بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، بالرغم من أنه ظل إلى الأمس "رئيسا" لحركة النهضة الإسلامية الجزائرية قبل أن يأتي قرار تجميد أموال الحركة و هي العملية التي تعني في النهاية "إقالة" الحركة أو ببساطة تجميد ذلك الجزء الذي كان يمثله الشيخ عبد الله بن جاب الله بالخصوص، باعتبار أن المنشقين عنه أبدوا سعادتهم بالقرار و أعلنوا في أول تصريح لهم عبر الصحف الجزائرية أنهم لا تعترفون برئاسة "عبد الله بن جاب الله للحركة" و هو الأمر الذي جعل الرجل يؤكد أنها عملية سياسية يراد بها تصفيته سياسيا كمعارض لم يقبل الدخول في منحى السلطة الذي يعتبره "غير سليم"! و الحال أن ما يثير العديد من الأسئلة في الداخل أن الأسباب التي أوردتها السلطة و التي رأتها أسبابا قضائية ليست مقنعة و هو الشيء الذي ينفيه عبد الله بن جاب الله مؤكدا أن قرار تصفية حركته هو قراراً سياسياً و أن "ما حدث للجبهة الإسلامية للإنقاذ يحدث له اليوم أيضا"! <BR><font color="#ff0000"> الرئيس مدى الحياة!</font><BR>لا شك أن الانقلابات البيضاء في الجزائر ليست وليدة اللحظة الراهنة، فقد حدث من قبل انقلاب أبيض أيضا على رئيس الحكومة الجزائري الذي "أقيل" لأسباب "تقنية" و هي الأسباب التي لا يصدقها أحد؛ لأن رئيس الحكومة الأسبق أقيل وفق إستراتيجية يقال أن البلاد ستمضي على أساسها و هي التي تثير في الجزائر اليوم الكثير من الحبر! بيد أن الحديث الذي يسيل اليوم الحبر في الجزائر هو الذي أثارته الوثيقة التي نشرتها بعض الصحف، و التي تخص التعديلات الدستورية المقترحة من قبل عبد العزيز بلخادم (رئيس الحكومة الجديد)، الذي يشغل أيضاً منصب رئيس حزب جبهة التحرير الوطني (الحزب الحاكم سابقا).. لعل أهم ما يثير الجدل هو المادة التي تبيح لرئيس الدولة أن يكون رئيسا على البلاد طوال عهدتين كاملتين (أي عشر سنوات) و هو الذي انبثقت عنه عبارة " عهدة رئاسية مفتوحة" بمعنى مدى الحياة، بحيث أنها المادة التي تعني أن الانتخابات الرئاسية و الاستحقاقات الشعبية عبر الانتخابات الحرة صارت من الأمور البائدة و الملغية، ناهيك على إسقاط الحقوق الانتخابية كلها إزاء الشعب بحيث سيكون على الشعب ألا يجادل في مادة لم يخترها بنفسه، زد إلى ذلك أيضا المادة التي تثير موضوع "نائب الرئيس" و الذي يتم اختياره مباشرة بحيث أنه في حال وفاة الرجل الأول في البلاد أو عدم قدرته على أداء وظيفته لأي سبب من الأسباب يبيح للنائب "قانونيا" بأن يصبح رئيسا للجمهورية بدون أدنى عودة للشعب! هذا اخطر ما يثير الحبر في الجزائر اليوم، ليس لأن الوثيقة التي قيل أنها تعديلية ستحظى بالقبول من قبل الشعب الجزائري، بل لأن الانقلابات البيضاء تبدو اليوم كثيرة في الجزائر في ظل واقع في غاية السوء بالنسبة للمواطنين البسطاء الذين إلى الآن لم تتغير أحوالهم الداخلية داخل أزمات خطيرة و كبيرة و مزمنة. ربما لأن الجزائريين اعتقدوا أن ارتفاع أسعار البترول سوف يساهم آليا في تحسين أوضاعهم الاجتماعية و أن التغييرات الـ"مفاجئة" التي تحدث دائما في أعلى هرم السلطة ستساهم أيضا في دعمهم مباشرة لأجل ألا يكونوا ضحايا لكل السادة الذين يهتمون اليوم "بكراسيهم" التي يريدونها مدى الحياة على حساب مواطن يعيش أصعب أيامه.. فلم يكن غريبا أن تنشر إحدى الصحف الجزائرية تقريرا مفاده أن نصف الشعب يعاني من البؤس الاجتماعي و من الظلم القانوني و من الإحساس بالتهميش في بلاد إيراداتها البترولية بالمليارات من الدولارات التي لم تساهم في حل مشاكل السكن التي يعاني منها الشباب العازف عن الزواج، و لم تساهم في إحداث القطيعة مع الظلاميين الذين احتكروا كل شيء، و حولوا موارد البلاد إلى "مغارة علي بابا" يتنعمون فيها على حساب أكثر من 66% من الذين يعانون أوضاعا قد لا تخلف عن تلك التي يعاني منها الصوماليون أو الإثيوبيون من حيث وضعهم الاجتماعي! لقد كان الخطاب السياسي الجزائري متناقضا بين القول و الفعل.. ربما لأن لا احد من المسؤولين نزل إلى الناس حقا، و لا أحد تجول في شوارعهم المكتظة بالتعب اليومي، و لا احد تعرف على همومهم الحقيقية، و لهذا ما زالت أزمات الجزائر كما هي، كما كانت عليه منذ عشرين سنة، بل و يعتقد العديد من الملاحظين أن ثمة تراجع كبير في مكاسب مهمة في البلاد.. لهذا السبب تبدو الوثيقة التعديلية للدستور أشبه بكارثة أخرى ربما سيتحسسها الشعب بعد فوات الأوان، لا لشيء سوى لأن تكريس الخسائر و جعلها "واقعة بمرتبة الشرف" أمر يخون أخلاقيات الواجب الوطني، و يحول المخاطر الكثيرة أقرب، بالخصوص و أن التعديل الدستوري الذي لا يمر على إرادة الشعب بمثابة "وضع اليد" على الحكم بحيث سيكون حكما لرجل واحد و إلى الأبد، لهذا يبدو قرار "تجميد" أموال حركة النهضة الإسلامية بمثابة الشجرة التي تغطي الغابة! <br>