مستقبل الصراع الأمريكي الإيراني على العراق
13 ربيع الأول 1427

تتبدى بوضوح في المسألة العراقية كل خلفيات الصراع الأمريكي الإيراني بشكل يستدعي إلى الذهن تفاصيل المسألة اللبنانية أيام الحرب الأهلية وكيف كانت تتبدى فيها كل خلفيات الصراع بين الدول العربية وأحياناً الأجنبية حيث حطت رحالها كل مخابرات الدنيا. <BR>فكلاهما (الولايات المتحدة وإيران) يجيدان استخدام الأوراق التي في أيديهما بالشكل الذي تصير معه الساحة العراقية أشبه برقعة شطرنج وتصير أغلب الأطراف العراقية أشبه بتلك القطع التي يحركها اللاعبان مع رفضنا التام لكل دلالات نظرية المؤامرة لكنها الواقعية السياسية في أوضح صورها <BR>لقد أثبتت تجربة الثلاث سنوات من الكر والفر بين الولايات المتحدة وإيران كثير من افتراضات نظرية المباريات المعروفة في العلاقات الدولية، فحتى يظل اللاعب إلى نهاية الشوط لابد من اتباع إجراءات معينة تحقق له الكثير من الأهداف وتظل اللعبة في حدها الأعلى صفرية - بمعنى أن مكاسب طرف هي صافي خسارة للطرف الآخر - وفي حدها الأدنى تكون معادلة الصراع مكسب مكسب وهو ما تحاوله إيران في حين تصر الولايات المتحدة على تكييف معادلة الصراع باعتبارها معادلة صفرية وهو ما يجعلها تحشد لها كل قواها وحلفاؤها الدوليين والإقليميين والمحليين داخل العراق وخارجه <BR>وعلى مدار السنوات الأربع سنوات الماضية ومنذ تفجيرات 11 سبتمبر والاصطفاف الإيراني وراء خط النار الأمريكي واضحا سواء أكان في أفغانستان أو في العراق، حتى أن "أبطحي" ـ المدير السابق لمكتب خاتمي ـ صرح: (لولا إيران ما دخلت أمريكا بغداد ولا كابل) !!<BR>ربما كان التصادف في توافق المصالح هو الذي حدا بالطرف الإيراني لاتخاذ تلك المواقف فكلا الحربين الأمريكيتين في أفغانستان والعراق قد خلصتا إيران من أهم عدوين لها: طالبان في أفغانستان وصدام في العراق مما جعل بعض المحللين يظنون – وبعض الظن دقيق – أن الولايات المتحدة قد خاضت معارك إيران نيابة عنها، لتجني إيران ثمار تلك الانتصارات الأمريكية في حين تحصد الأخيرة أشواك الاحتلال وعلقمه .<BR>لكن مع تلك المكاسب التي حققتها إيران من حذف أهم عدوين لها من خارطة الصراع الإقليمي تظل هي أكثر الدول التي تضررت من تغيير الخريطة السياسية في منطقة الخليج بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، حيث أُحكم الحصار الأمريكي عليها، مما خلق تهديدات مباشرة للأمن القومي الإيراني؛ خاصة وأنها كانت ولا تزال إحدى الدول المستهدفة أمريكيا.<BR>وعلى مدار سنوات الاحتلال شهدت الساحة العراقية تنافسا حادا بين المشروعين الأمريكي والإيراني <BR>حيث يحاول الأول "المشروع الأمريكي" "إعادة رسم خريطة المنطقة العربية من الخارج" بينما يسعى الثاني جاهدا "المشروع الإيراني" إلى "تقويض العالم العربي من الداخل". وكلاهما يتدثر بمنطق براجماتي عميق، ولإدراك كل منهما قدرة الآخر في إفشال مشروعه بحث الطرفان عن مخرج يحفظ ماء الوجه لكليهما ولا يدل علي أن أياً منهما قد تنازل للآخر ، فكثير من حوادث العنف في العراق تمثل صراعا أكبر بين الولايات المتحدة وإيران .<BR>وقد وفر ذلك المخرج السيد عبد العزيز الحكيم رئيس المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق بدعوته الطرفين للدخول في حوار مباشر من أجل مصلحة الاستقرار في العراق، وهي الدعوة التي تجاوب معها السفير الأمريكي في بغداد زلماي خليل زادة بالإعلان عن اهتمامه بهذا العرض، ثم أعقبه بعد أيام تصريح من علي لارجاني (مسؤول ملف الأمن القومي الإيراني) أكد فيه استعداد بلاده لقبول العرض، ثم أطل بعد لارجاني بساعات قليلة سكوت ماكليلان (الناطق بلسان البيت الأبيض) ليؤكد رسمياً أن الرئيس بوش فوض سفيره في العراق بالحوار مع الإيرانيين، حيث أعلن وفي واشنطن أن "الولايات المتحدة الأمريكية مستعدة لبحث دور إيران في العراق بشكل مباشر مع الحكومة الإيرانية من خلال سفير الولايات المتحدة في بغداد ". وذلك رغم رفض جبهة التوافق العراقية لدعوة الحكيم وإعلانها :"إن ذلك تدخل صارخ في الشأن العراقي لا مسوِّغ له ونُعلن على الملأ أنها – أي الجبهة - غير ملزمة بأي حال من الأحوال بأيّة نتائج قد تتمخّض عنها هذه المفاوضات". <BR>ولقد أثبتت دعوة الحكيم عمق النفوذ الإيراني في العراق ولعل هذا ما تدركه الولايات المتحدة ويدركه الكثير من صناع القرار والباحثين الاستراتيجيين فيها، وهو ما يجعل الحوار الأمريكي الإيراني ينهض علي لعبة توازنات دقيقة ومعقدة للغاية بين واشنطن وطهران. <BR>فالوجود الأمريكي في العراق ساعد على فرض واقع جديد يصب في صالح الولايات المتحدة، إلا أنها تدرك أيضا أن الكيان الإيراني قوة إقليمية لا يستهان بها، ونفوذها في العراق واضح حيث منحتها نتائج الانتخابات العراقية قوة ضد هذا الوجود، ومن ثم، فهناك مجال يسمح بدرجة ما من الاقتراب، فواشنطن بدأت تتحلى بمسحة من المرونة، وهو ما يتجلى من المزج بين الشق الدبلوماسي التفاوضي الذي تقوم به الدول الأوروبية - فيما يسمى بدور الطرف الثالث - والشق التهديدي الترهيبي الذي يلوح بالعمل العسكري، وفي الوقت نفسه فإن الدرس العراقي والنصائح الأوروبية قد أسفرا عن تحوّل في الرؤية الأمريكية تجاه عمل عسكري منفرد يمكن أن تقوم به واشنطن ضد طهران<BR>وفي هذا الإطار تحاول إيران الاستفادة من الورقة العراقية - كأحد الأوراق التي تلعب بها سواء مع محيطها الإقليمي والعربي أو مع الدول الغربية وخاصة أمريكا – وهي لن تتخلى عن هذه الورقة وسوف تلعب بها لتعظيم مكاسبها وللتفاوض بها من أجل الحصول على مكاسب في أمور أخرى أهمها الملف النووي - حماية المحطات النووية الإيرانية - وتطبيع العلاقات مع أمريكا والغرب ووجود ضمانات بعدم السعي لتهديد أمن النظام الإيراني أو الإطاحة به، فلعبة تكسير الضلوع ليس لها مكان بين هذين اللاعبين ، وتظل إيران دولة قومية تسيطر على قطاعات واسعة من نخبتها الحاكمة أوهام الإمبراطورية الفارسية في استعادة أمجاد كسرى، ولكن باسم الدفاع عن آل بيت الرسول.<BR>وما يساعد على نجاح هذا التصور الإيراني هو نمط العلاقات الدولية الحديث الذي تتداخل به مساحات التعاون والصراع على نحو يجعل من العلاقات الدولية مسألة حسابات باردة لا وجود فيها للقيم ولا لأنماط نظرية نقية من التعاون والصراع <BR>لقد أثبتت وقائع الأسابيع والأيام الماضية وتصريحات المسؤولين الإيرانيين أنهم شركاء فاعلين في احتلال العراق وأن علاقاتهم مع الولايات المتحدة وبريطانيا مؤسساتياً أقوى وأعمق من كل ما تتصور أطراف إقليمية فاعلة، ونشير هنا إلى ملاحظة مهمة توضح نوع العلاقة (الاستراتيجية) بين أمريكا وإيران وهي العلاقة التي جعلت من إيران تعيد بناء كل قدراتها العسكرية وبالذات إنجاز المفاعلات النووية تحت مرأى ومسمع المسؤولين الأمريكيين ولم تحرك الإدارات الأمريكية ساكناً لمنع النظام الإيراني من إكمال كل مشاريعه العسكرية إلى أن وصلت المرحلة الخطيرة التي تمكنت فيها إيران من تخصيب اليورانيوم، بشكل أصبح الرجوع فيه عن مشروعها النووي شبه مستحيل، وعلى صعيد الساحة العراقية فقد استباحت إيران عسكرياً واستخبارياً مساحات واسعة من العراق منذ سقوط بغداد تحت مرأى ومسمع قوات الاحتلال الأمريكية التي تعد المسؤولة الأولى بموجب قرارات مجلس الأمن عن حماية كل أراضي العراق ومواطنيه .<BR>إن المتابعة الدقيقة لأحداث السنوات القريبة الماضية تبين أن حجم التوافق بين المصالح الأمريكية والإيرانية في العراق (وما يسمى بمنطقة الشرق الأوسط) أكبر بكثير من حجم التناقض بينهما لذا لا يتوقع الباحث أن تسير العلاقة في منحنى صراعي بل إن المسار التعاوني هو الذي سيحكم مستقبل تلك العلاقة بين الولايات المتحدة وإيران حيث يتبادل الطرفان حالات الاستقواء، ويتقاسمان المصالح والغنائم على حساب القوى الإقليمية والعربية الأخرى <BR>وإذا كانت المصالح الإيرانية تتلخص بإيجاد متكئٍ مذهبي يحمي تواجدها الآمن في العتبات الشيعية المقدسة – فإيران دولة لن تخرج من شرنقتها الشيعية – كما يحمي أوراق القوة الضاغطة على دول الجوار العربي، ويعطيها امتيازات للمساومة السياسية مع الدول الغربية ذات المصالح في العراق وغيره من أقطار الخليج العربي وإماراته، فإن المصالح الأمريكية واضحة خاصة في أبعادها الاستراتيجية (نفطا وفرضا لنمط الحياة الأمريكي ومحاربة ما تسمية الإرهاب) وعلى وقع استمرار ذلك التوافق في المصالح الأمريكية والإيرانية تستمر العلاقة في حدود سقفها وحدها الأعلى وهو أن تكون المعادلة التي تحكم ذلك الصراع – تجاوزا - مكسب مكسب، مع محاولات الولايات المتحدة المستمرة لخفض سقف التوقعات وحتى الطموحات الإيرانية للدور الذي يمكن أن تلعبه في تلك الدائرة الواسعة لما تسميه الولايات المتحدة الشرق الأوسط الكبير <BR>فإذا كان منطق تقسيم الحصص في العراق مبدأ مسموح به إلاَّ أن للمبدأ حدوداً وقيودا. ومن أهم حدوده أن لا تتجاوز الحصة الإيرانية دائرة تفكيك البنى التحتية وبيعها. أي أن الحصة الإيرانية لا تتجاوز الجزاءات المادية، أما الجزاءات الدينية فلن تتجاوز أيضاً حدود تأسيس جدران عزل مذهبي بين الطوائف العراقية، أما الجزاءات السياسية فلن تتجاوز سقف المشاركة في بناء نظام سياسي لا يخرج عن سيطرة الأوامر والنواهي الأمريكية .<BR>وعندما استشعرت الإدارة الأمريكية أن أطماع الإدارة الإيرانية قد تجاوزت الحد المسموح به على صعيد الجزاءات الثلاثة السابقة ( مادية، ودينية، وسياسية ) وأن الإيرانيين يحاولون فرض أنفسهم كقوة أساسية في معادلة بناء عراق ما تحت الاحتلال، لجأت الإدارة إلى اتباع وسائل وعوامل تقليم أظافر التأثير الإيراني التي طالت أكثر من اللازم عبر الملف النووي <BR>ولعل ذلك هو الدافع وراء تصريح خليل زادة بعد دعوة الحكيم للحوار المباشر بين الطرفين أن تلك المباحثات ليست لها علاقة بالبرنامج النووي الإيراني، بل لها علاقة بمستقبل العراق"<BR>إذا ،الهدف من الحوار الأمريكي الإيراني حول العراق هو إيقاف تدخلات بعضهما البعض في شؤونهما الداخلية، والتوافق على تقسيم المصالح في العراق بنفس بنسبة الأوزان الحقيقية لكل طرف <BR>لقد توافق وتحالف الطرفان على تغيير النظام في العراق, كما توافقا على ضرورة تشكيل نظام في العراق بعد الاحتلال لا يمكنه الوقوف بعد مرور السنين لا ضد الولايات المتحدة ولا ضد إيران، وكذا توافقا على إقامة نظام طائفي وفق حصص ومخصصات تمكن الشيعة من السيطرة على مقاليد الحكم في العراق، لكن دون أن يكون نظامًا تابعًا لإيران, وإنما هو نظام يقوم وفق صيغة ما يسمى بصيغة العلمانيين الشيعة .<BR>لقد كان لإقدام الولايات المتحدة الدخول في مفاوضات مع إيران حول العراق اعترافاً أمريكياً صريحاً بالنفوذ الإيراني المتنامي في عراق ما بعد الحرب؛ فواشنطن أصبحت تدرك أهمية الوصول إلى قواسم مشتركة مع طهران التي تتمتع بعلاقات وثيقة مع القوى السياسية الصاعدة في العراق خصوصاً الائتلاف العراقي الموحد، كما أنها لم تقطع الصلة مع المقاومة العراقية بعد؛ لذا فإن هدف واشنطن من هذه الخطوة هو إقناع حلفاء إيران في العراق مقابل التخفيف من الضغوط عليها في الملف النووي الإيراني، فبقدر ما ستقدم طهران تنازلات في الملف العراقي بقدر ما ستتراجع واشنطن عن حشد الدعم الدولي ضدها، وفي كل الحالات فإن خطوة ذات أبعاد عسكرية ضد إيران أمر غير وارد على الإطلاق خاصة علي المدى القصير لان كل ما يهم واشنطن في الوقت الراهن هو التخلص من ورطة العراق وليس فتح جبهة عسكرية أخري يستبعدها الحلفاء أنفسهم، وفي هذا الإطار نفهم تصريحات جاك سترو (وزير الخارجية البريطانية) أن العمل العسكري ضد طهران أمر سيكون من الصعب تخيل حدوثه‏.‏<BR>وإلى أن يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود في هذا الصراع البارد بين الولايات المتحدة وإيران أو أن يتبين فيما إذا كانت هذه الخطوة دلالة عن وجود "صفقة ما" حول العراق مقابل "حل ما" للملف النووي الإيراني، أو حتى ربما تكون استراحة المحارب الأمريكي بعد معركتين تظل إيران في قلب الاستراتيجية الأمريكية المتعثرة في أكثر من ساحة إقليمية وفي مقدمها العراق.<BR>وأغلب الظن أن كل التحركات الدبلوماسية الأمريكية ضد طهران في المدة الأخيرة لم تكن سوى تحضير لورقة يمكن استغلالها في الحوار المرتقب بين الجانبين حول العراق‏، وستعتمد وتيرة الضغط في المرحلة المقبلة علي نتائج هذه الحوارات واتجاه سيرها‏، ويبدو أن إيران فهمت اللعبة الأمريكية‏,‏ فاتجهت للتصعيد بدلا من التهدئة حتى يصل الجانبان إلي المكان الذي يريدانه بالضبط‏,‏ وهو مائدة حوار تجمع شيطان أكبر بدولة مارقة للحديث حول دولة في نزعها الأخير‏.‏<BR><br>