موريتانيا.. مرحلة جديدة
19 رجب 1426

تمر ثلاثة أسابيع الآن على الانقلاب الأبيض الذي جرى في موريتانيا يوم الثالث من أغسطس الجاري، وقامت به مجموعة من الضباط الذين كانوا حاضرين بقوة في النظام السابق، ولكنهم وفي لحظة من لحظات صحوة الضمير أدركوا أنهم ما لم يتداركوا الأمر ويقبضوا على يد الربان غير الماهر فإن سفينة الوطن ستتدحرج إلى قاع سحيق.<BR><BR>انقلاب نواكشوط لم يكن مفاجئاً لمن هو مطلع على الوضع الداخلي في موريتانيا، فنظام العقيد ولد الطايع استمر على مدى عشرين سنة أوصل فيها البلاد إلى حالة إفلاس حقيقي، سواء على المستوى الاقتصادي حيث تدنت الأجور وانخفضت معدلات الدخل الفردي وتضاعفت الأسعار بشكل جنوني أو على مستوى السياسة الخارجية، حيث انسلخ ولد الطايع من دوائر موريتانيا التقليدية ألا وهي الدائرة العربية والإفريقية والأوربية ليدخل وبشكل فج في تحالفات غير مبررة مع أمريكا بل وليدخل في عملية تطبيع كامل مع إسرائيل.<BR><BR>على مدى السنتين الماضيتين شهدت موريتانيا أربع محاولات انقلابية كانت أجرؤها وأقواها تلك التي قادها الرائد صالح ولد حننا، والتي كادت أن تسقط ولد الطايع لولا حدوث بعض الاختلالات البسيطة التي شكلت منفذاً تم من خلاله إحباط المحاولة.<BR><BR>هذه المحاولات العديدة في ظرف زمني قصير عكست قدراً كبيراً من الاهتزاز في ثقة العسكر بولد الطايع، كما أظهرت هشاشة الولاءات التي كان البعض يظهرها وأبانت عن احتقان خطير.<BR><BR>اعتقد الجميع أن ولد الطايع سيخرج بدروس من تلك المحاولة الانقلابية ويعيد ترتيب أوراقه وإعادة النظر في سياساته ومحاولة معرفة موطن الخلل، ولكن شيئاً من ذلك لم يحصل، بل على العكس تمادى النظام الموريتاني في سياسة الإقصاء وتشجيع الفاسدين والقبض بيد من حديد وبلغت الأمور ذروتها حينما زج بمئات الأشخاص في الزنزانات الأسباب واهية ومفتعلة، ولعل أبرز تلك الاعتقالات هو ما طال مجموعة من خيرة مثقفي موريتانيا وعلمائها وعلى رأسهم العلامة محمد الحسن الددو.<BR><BR>ربما يتساءل البعض عن إمكانية حدوث تغير، خصوصاً أن الضباط الجدد الذين استولوا على السلطة قد خرجوا من رحم النظام السابق وقد تسلموا أحسن المراتب فيه، بل وكانوا في قمرة القيادة، ولكن الجواب على هذا التساؤل المشروع ربما يكون في سلسلة القرارات التي صدرت حتى الآن من قادة نواكشوط الجدد، والتي كان أولها إعلانهم عن أن وجودهم في الحكم لن يكون إلا لمدة انتقالية يمهدون فيها الطريق لديمقراطية حقيقية، وذلك عبر التشاور مع كافة مكونات الطيف السياسي الموريتاني من أحزاب ومجتمع مدني ونقابات وغيرها، وهو أمر يبدو أنه قد بدأ بالفعل فنواكشوط تعيش هذه الأيام على وقع الاجتماعات الانفرادية التي يعقدها رئيس المجلس العسكري للعدالة والديمقراطية مع زعماء الأحزاب السياسية الموريتانية والهادفة إلى بلورة تصور واضح لمتطلبات المرحلة وآليات الانتقال، وسبل إشراك الجميع في صناعة موريتانيا المستقبل.<BR><BR>ثم إن إعلان المجلس العسكري أن أي أحد من أعضائه أو من أعضاء الحكومة الانتقالية التي شكلها لإدارة دفة الأمور في هذه المدة لن يسابق في مضمار التنافس على الكراسي السياسية في الاستحقاقات الانتخابية القادمة وإعلانه أن الدولة بإمكانياتها ومؤسساتها وإداراتها ستقف على الحياد وستعمل على أن ينال الجميع حظهم من خلال منافسة حرة وشفافة يكون الحكم فيها هو صوت المواطن الموريتاني لهي أمور تبعث على الأمل إن لم نقل الثقة.<BR><BR>جملة الخطوات التي اتخذها المجلس العسكري في أقل من ثلاثة أسابيع هي عمره في السلطة ولدت ارتياحاً داخلياً وخارجياً فقد شعر الموريتانيون أن الأحذية الخشنة هذه المرة ستوصلهم إلى طريق الديمقراطية المخملي وأن دبابات العسكر قد تزف إليهم عروس الحرية، وخارجياً تنافس المجتمع الدولي الصعداء وبدأ يخفف من شدة لهجته الحادة ضد حكام نواكشوط الجدد، بل وتقاطرت وفود ذات مستوى عال من منظمة المؤتمر الإسلامي والجامعة العربية والاتحاد الإفريقي ومنظمة اتحاد المغرب العربي، وقد أجمعوا كلهم على تفهمهم لما حصل في موريتانيا واقتناعهم بجدية الوعود والالتزامات التي قطعها المجلس العسكري للعدالة والديمقراطية على نفسه والتي من شأنها أن تدخل موريتانيا في ثوب جديد من أثواب العدل والحرية والمساواة.<BR><BR>لعل المظاهرات العارمة التي عمت الشوارع في كل المدن والأرياف الموريتانية كانت تعبيراً عفوياً عن فرح جارف بزوال النظام السابق يخالطه أمل بأن يكون التغيير الذي حصل بداية النهاية لعذابات ومآسي الشعب الموريتاني الذي جرد من كل حقوقه وسلبت ثرواته وسيم الخسف والذل على مدى عشرين عاماً من الإفساد الممنهج الذي أوصل موريتانيا إلى الحضيض اقتصادياً وتاجر بمواقفها السياسية في أسواق المضاربات الدولية ولا أدل على ذلك من العلاقات المشينة مع إسرائيل التي أقامها النظام السابق وحافظ عليها رغم أنف كل الموريتانيين.<BR><BR>ربما يعتقد الكثيرون أن ما حدث في موريتانيا ليس إلا استمراراً لنمطية الانقلابات العسكرية التي استحكمت في البلد منذ عام 1978م، والتي غالباً ما تكون بداياتها بالوعود الوردية لتنتهي بعد ذلك إلى الاستبداد المطلق والفساد، ولكن مما يعطي الأمل هو تغيير المناخ السياسي بشكل عام ووجود ديمقراطية حقيقة في بعض الدول المجاورة مثل السنغال ومالي إضافة إلى تشكل نخبة سياسية واعية في موريتانيا أصبح من المستحيل تجاهلها والاستئثار بالحكم من دون إشراكها، وهنا يمكن أن نتذكر تجربتين ربما تشفعان لموريتانيا، وهما تجربة عبد الرحمن سوار الذهب في السودان، وآمادو توماني توري في جمهورية مالي فكلاهما وصل إلى السلطة عن طريق انقلاب عسكري ولكنه سلمها بعد ذلك طواعية إلى المدنيين.<BR><BR>لاشك أن المجلس العسكري للعدالة والديمقراطية سيتعامل مع تركة ثقيلة من الفساد السياسي والإداري والتدهور الاقتصادي، ومع ذلك فإن صدق النية وسلامة التوجه ودقة التخطيط وإشراك كل الموريتانيين في إدارة شؤون بلدهم كلها أمور كفيلة بتجاوز كل التحديات والخروج بموريتانيا إلى بر الأمان وتحويلها إلى ديمقراطية حقيقية يعود فيها العسكر إلى ثكناتهم ويواصلون مهمتهم النبيلة في حماية بيضة الوطن، بينما يترك للشعب الموريتاني حرية اختيار من يراه مناسباً لإدارة شؤونه وتسيير بلده، وأعتقد أن أبناء موريتانيا قادرون على تحمل المسؤولية بامتياز.<BR><BR><BR><BR><br>