الإسلاميون انقلابيون.. أم منقلب عليهم
24 جمادى الأول 1424

لاشك إن ما شهدته موريتانيا في الفصل الماضي من أحداث جسيمة حري بالوقوف عندها والتفكير فيها والاعتبار بها بالنسبة لكافة الرفقاء والفرقاء، ولكل من يهمه الأمر من أي موقع كان سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، فحتى الأيام الأولى من شهر مايو الماضي كانت الأجواء السياسية هادئة هدوءاً نسبياً بعد خفة العاصفة التي سببتها أحداث العدوان على العراق.<BR> حيث بدء الجميع يتطلع إلى الانتخابات الرئاسية ويستعد لها، وبدأت الساحة تتكشف عن تحالفات سياسية هامة وحوارات واعدة وترشحات استباقية ظناً من الجميع أن هذا ما تتطلبه المرحلة، وينبغي أن تسير نحوه الأحداث ، فانساقت الساحة السياسية في هذا الاتجاه، فانضم رئيس حزب المعاهدة المحظور إلى حزب التحالف الشعبي التقدمي في خطوة جريئة فاجأت المراقبين واعتبرت حدثا له مابعده، وانضم بعد ذلك إلى نفس الحزب الناصريون المستقلون ، وقام تكتل القوى الديمقراطية بجولة أمينه الأولى في مناطق الحوضين، وحظيت بنجاح فاق التوقعات، وأصبح الناس يتحدثون عن إمكانية ترشح ولد هيدالة كمرشح موحد لجبهة المعارضة، وبالمقابل أعلن ولد الجيد عن ترشحه للرئاسة وبرنامجه الانتخابى وولد اماه عن عودته إلى الحلبة السياسية، ثم قام رئيس الدولة بزيارته لمدينة نواذيبو التي أخذت ملامح الحملة الرئاسية قبل أوانها . <BR> وهكذا كنا على أبواب صيف مشحون بالتوقعات السياسية الهادئة والهادفة رغم سخونة الجو وصعوبة الظروف، لكن النظام الحاكم رأى في هذا الحراك السياسي نذيراً مبكراً على تواضع نصيبه في الكعكة السياسية إذا سارت الأوضاع على هذه الوتيرة، فعاجلها بضربة للإسلاميين فاجأت جميع المراقبين، فارتبكت الساحة السياسية، وانشغل الناس عن مدة قاسية من سنة جفاف عسيرة على معظم مناطق الوطن، وسوق النظام هذه الضربة في البورصات الغربية والأمريكية بشكل خاص، وأضحت الأمور وكأنها تدار على كفي عفريت، ويمكن أن نتحدث عن هذه الضربة وما تلاها من أحداث من خلال الحديث عما يمكن أن نسميه انقلابات ثلاث متتالية شكلت ومازالت تشكل منعطفاً خطيراً في تاريخ البلاد:<BR> 1-الانقلاب على الإسلاميين ذات زوال، وبينما الأئمة والعلماء يؤدون رسالتهم بأمانة على الوجه الذي يرونه خالصاً وصواباً، حتى خرج عليهم وزير الثقافة والتوجيه الإسلامي السابق السيد إسلم ولد سيد المصطف، وتوعدهم بانقلاب على مساجدهم إذا لم يكونوا عيوناً للوزارة وعملاء للنظام في تحد سافر لمشاعر الأئمة، واستدراج بنية سوء مبيتة، فقالوا له كلمة حق واجبة لا لتخبير المساجد ..ساعتها خرج الغول الأمني من قمقمه ليطلق العنان ليده الباطشة في كل مايدب على ظهر الأرض من مظاهر التدين، ومن ثمرات العمل للإسلام؛ فاعتقل علماء وأئمة لا شأن لهم بالسياسة بمفهومها الحزبي، كما اعتقل من يحرم السياسة على نفسه ويحذر الأمة من الخوض فيها، واعتقل شخصيات إسلامية أبلت بلاء مستميتاً في الحزب الجمهوري الحاكم، كما اعتقل شخصيات إسلامية معارضة تعمل جهاراً نهاراً في أكبر أحزاب المعارضة، وأصاب الأيتام في أرزاقهم، وطلاب العلوم الشرعية في مستقبلهم، وسد الطريق- تقنيناً ومضايقة- أمام كل متحدث بالتى هي أحسن، وكانت أوجع ضربتين سددهما النظام للعمل الإسلامي في موريتانيا هما: إغلاق المعاهد الشرعية، وتحويل المساجد إلى مرافق عمومية ليمهد لحقبة جديدة من تاريخ هذه البلاد لا يدرس فيها شرع الله ولاتؤدي المساجد فيها دورها المنوط بها، وهكذا صارت الحالة الإسلامية كما أريد لها أن تكون ؛ أئمة وعلماء معتقلون، ومعاهد تدرس العلوم الإسلامية أزيلت من الخارطة، ومساجد تحولت إلى ساحة معركة بين ر جال الأمن والدعاة في أحسن أحوالها، وجمعيات ثقافية وخيرية أصبحت خاوية على عروشها.<BR> 2- الانقلاب على النظام بياتاً وهم نائمون فوجئ الرئيس ودائرة الحكم حوله بفوهات المدافع، وأصوات الدبابات تنطلق وتزحف نحوهم بدون سابق إنذار ، وعاشت نواكشوط حالة فوضى شلت حاسة التفكير عند الكثيرين، وانذرت بوقوع ما لا تحمد عقباه ، فلم يتحرك أحد من حزب الرئيس ولا من الذين زعموا أنهم يفدونه بالروح والدم قبل ذلك، بل دخلوا جميعاً في أوكارهم المظلمة، ولسان حالهم يقول: ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم "صالح " وجنوده، لم يتحرك في الاتجاه الصحيح في ذلك اليوم إلا رواد المساجد الذين حرسوا أحياءهم من اللصوص ومثيري الشغب إلى أن خرج الرئيس عبر التلفزة مؤكداً أن الانقلابيين هم جماعة معزولة من القوات المسلحة، وأنه استطاع هو وجنده محاصرتهم والقضاء عليهم دبابة دبابة ، ثم تبين فيما بعد أن قادة الانقلاب من بينهم المعزولين عن الجيش سابقا، والمتمردون على الواقع المزري بدوافع ذاتية، والبقية من الجياع والمحرومين المأمورين الذين لا حول لهم ولا قوة، ففشلوا في محاولة الانقلاب غير الدستوري بعد أن روعوا العباد وغامروا بالبلاد ليخرج من قادتهم من استطاع الخروج تاركاً وراءه القيل والقال، والانتقام والاعتقال . توقف الزلزال وبقيت توابعه، وكانت فيه عظة وعبرة لمن يعتبر ودروس لمن يذكر، منها: أ- كشف عن هشاشة الجهاز الأمني وضعفه البين في وجه الاخطار الحقيقية المحدقة بالبلاد. ب- خطورة الظلم الاجتماعي والكبت والحرمان الذي يرزح تحته اليوم كل من هو خارج عن دائرتي أهل الحكم والمحكوم عليهم. ج- انكشاف المتملقين والمنافقين والكذابين على حقيقتهم د- خطورة الانشغال بأمور جزئية، وافتعال معارك جانبية وتوهم عدو لا وجود له في الواقع.<BR> 3- الانقلاب على المقربين : رغم اختلافه عن الانقلابين السابقين إلا أن البعض رآه يستحق هذه التسمية، وتمثل في سقوط بعض المقربين من الرئيس، وعلى رسهم لوليد ولد وداد (الأمين العام السابق للحزب الجمهوري الحاكم)، والقرين الملازم لولد الطايع حتى من قبل وصوله للحكم، والعدو اللدود للإسلاميين والقوميين والمعارضين من كل صنف ولون، ثم سقوط الوزير الأول الشيخ العافية بن محمد خونة من يلقب على نطاق واسع بشيخ المافيا لضلوعه التاريخي في أكل المال العام، وسرقة المؤسسات العمومية، واستغلال المناصب للأغراض الشخصية، وهو من هاجم الإسلاميين بجراءة وحماس ، وهو ثاني مسؤول موريتاني يزور الكيان الصهيوني في أوج بطشه بالفلسطينيين، وغيرهما من المسؤولين الذين رأى البعض في تنحيتهم انقلاباً جديداً على النهج السابق، ومحاولة تبني سياسات جديدة لم تتضح بعد ملامحها ، وإن كان البعض لا يجد في ذلك سوى حركة تكتيكية ومساحيق بسيطة لا يختفي وراءها إلا الوجه القديم للنظام بما يوحي به ويرمز له، وأجواء انقلابات أخرى بعد أن بدأ الجميع يتحدث عن انعكاسات كل انقلاب من هذه الانقلابات على الأوضاع بصورة عامة وعلى المشهد السياسي بصورة خاصة، وبدأ يتطلع إلى فصل خريف خال من الجفاف والجفاء فاجأه رئيس الدولة في خطابه أمام سكان ازويرات بربطه في السياق بين ضحايا الانقلاب الأول ومتزعمي الانقلاب الثاني .. في الوقت الذي لم يتحدث عن الانقلاب الأخير- إن جازت تسميته بهذا الاسم- بما يكفي ، وهو الأهم بالنسبة للأغلبية الصامتة من المواطنين ، وقد فاجأ رئيس الدولة الرأي العام بهذا الربط ولم يجد له المحللون والمعلقون من مسوغ ، وهنا بدأ يطرح السؤال بإلحاح عن هدف ولد الطايع من الربط بين الملفين ، مع العلم أنه من الواضح أن الرئيس لم يتلق أي معلومات تفيد بعلاقة بين الطرفين، والدليل على ذلك أنه قال: الجماعتان إما قد نسقتا أو كانتا في سباق نحو السلطة، فلو كانت لديه أي معلومة لما قال، أو كانتا في سباق نحو السلطة ولجزم بالتنسيق، وفى محاولة للإجابة على هذا السؤال يمكن أن نردد مع الذين قالوا:إن الرئيس لم يقرر بعد غسل يديه من الملفين فأراد أن يجمع ركامهما على صعيد واحد؛ ليتسنى له رشقه بحجر واحد دعائيا على الأقل . أن رموز الإسلاميين المعتقلين لم تستطع ملفات التحقيق أن تسجل ضدهم أي دليل يثبت التهم الموجهة إليهم ، وأراد النظام أن يورطهم ويلحقهم بقاطرة الانقلابيين المحسومة إدانتهم سلفاً، وذلك للضغط عليهم نفسياً، والتأثير على معنوياتهم من جهة ، وليعطي قضيتهم بعداً آخر يصرف به أنظار الرأي العام عما اقترفته يده في حق الإسلاميين ظلماً وعدواناً من جهة أخرى ، وفي ظل غياب رؤية واضحة حول هذا الموضوع، والذي لا يساعد على استيضاحها الارتباك الملحوظ على النظام حول طبيعة تعامله مع ملف الإسلاميين. <BR> تبقى الطرافة وعدم أخذ الأمر بجدية هما السائدان في معظم تناول صحافتنا الوطنية لهذه القضية، وأطرف ماكتب في هذا الموضوع : أن الانقلابيين والإسلاميين لا يجمع ولا يربط بينهم إلا اعتناقهم للدين الإسلامي الحنيف الذي يجمع كل الموريتانيين بمن فيهم رئيس الدولة، كما عبر البعض أنه إذا ثبتت أي علاقة تربط الإسلاميين بالانقلابيين، فإن قادة الانقلاب سيصبحون متهمين بأنهم جناح عسكري للحركات الإسلامية المتطرفة ، كما تهكم بعض الكتاب قائلاً : لا يمكن تصور علاقة بين الطرفين لا إذا تصورنا الأئمة والعلماء المعتقلين، كل جالس على دبابته ويسوقها نحو القصر ، ومهما يكن من أمر فإن اتهام ولد الطايع للإسلاميين بعلاقتهم بالانقلاب ولو بشكل غير مباشر جعل المزاج السياسي الوطني يتعكر من جديد بعدما أصابه من نرفزة في الفصل الماضي، فهل سيصعد الرئيس ثم يصعد ليجعل الجميع في حالة ترقب وذهول لا يدري هل تنقلب الأوضاع مرة أخرى بقدرة قادر ؟<BR><br>