الارتقاء بتلقي الأخبار وروايتها.. نظرة شرعية
6 صفر 1427

تشهد حياتنا المعاصرة؛ طفرة في تعدد وسائل الإعلام وتناقل الأخبار ومتابعة الأحداث المحلية والعالمية، وسط كم هائل من المعلومات المتداخلة في كثير من أوجهها.
وربما كانت التكنولوجيا الحديثة، وسهولة التواصل، وسرعة الاتصال، إحدى أهم العوامل التي ساعدت في تحوّل عصرنا إلى عصر المعلومات.

والمتابع منّا يعجب أحياناً من التناقض الحاصل في المعلومات التي توردها بعض وسائل الإعلام، المحلية أو العالمية. ما يجعل المتابع متحيّراً في أمره، أي الفريقين يصدّق. وهذا ما يحتّمه النقل الغير مسؤول لبعض أوجه الأحداث، وتسييس جميع الأمور بما يخدم مصلحة الوسيلة الإعلامية، ومالكها أو ممولها.. ما يؤكد باستمرار، أنه لا يوجد إعلام حيادي.

ولطالما كان لكل مهنة أخلاقيات وسلوكيات تحددها قيم المجتمع الذي تنشأ أو تنتشر فيه.. ومنها كانت أخلاقيات مهنة نقل المعلومات.
الأستاذ أحمد الصويان، أحد أكفأ العاملين في مجال الإعلام في السعودية، نشر كتاباً منذ عدّة سنوات، حمل عنوان (نحو منهج شرعي لتلقي الأخبار وروايتها) عالج فيه أخلاقيات نقل وتلقي الأخبار في المجتمعات الإسلامية، انطلاقاً من المنهج الإسلامي الشريف والصادق، ليجعل الإعلام وسيلة لنشر الصدق، وغاية لكمال الأخلاق.

تحت عنوان (آفات تفسد الأخبار)، ذكر الكاتب جملة من الآفات التي تصيب الأخبار، فتفسدها، ورأى أن أهمها:
الآفة الأولى: الكذب وخطورته:
مواضع الزلل والتقصير عند الإنسان لا تكاد تنحصر في جانب دون الجوانب الأخرى، ولكن من أخطر وأسوأ ما يقع فيه الناس: الكذب، فهو صفة ذميمة، تظهر فيها الخيانة وتسقط بها المروءة، والكذب يقلب الأمور، ويُغير الواقع، ويزور الحقائق؛ فتصير العيوب محاسن والمحاسن عيوباً، ويجعل الحسن قبيحاً والقبيح حسناً، وينسب للناس خلاف ما قالوه أو فعلوه.
ويبدو أن الكذب حينما يطفو على السطح يكون ناتجاً عن تراكم مجموعة من الأخلاق المذمومة، كقلة الدين والورع، وكالحقد والحسد وغيرها، كما أن الصدق ناتج عن عفة النفس، ونبل المقصد، وإرادة الحق، وحينما تترفع النفوس عن أهوائها وشهواتها، تنساب عفة وطهارة لا ترجو إلا الله والدار الآخرة.
قال الله _تعالى_: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ" (التوبة:119).
وقال الله _تعالى_: "إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ" (النحل:105).
وعن ابن أبي مُليكة أن عائشة – رضي الله تعالى عنها – قالت: "ما كان خُلُق أبغض إلى رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ من الكذب، ولقد كان الرجل يكذب عند رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ الكذب، فما يزال في نفسه عليه حتى يعلم أنه قد أحدث منها توبة".

الكذب من أجل المصلحة:
من أعجب مكائد الشيطان – أخزاه الله تعالى – على بعض الدعاة: أن الواحد منهم قد يفتري الكذب قصداً على بعض إخوانه الدعاة انتصاراً لنفسه أو لفئته، ويسوِّغ لنفسه هذا المزلق الخطير من بال: "مصلحة الدعوة"!!
فقد يتهم صاحبه بالجهل... أو بقلة الدين... أو حتى بالعمالة.. وهو يعلم يقيناً أنه منها بريء، ولكن مصلحة الدعوة – بزعمه – تقتضي هذه المخادعة!

ذكر بعض الحقيقة وإخفاء بعضها:
في هذا الباب، يقول الأستاذ الصويان: إن من أخطر أنواع الكذب وأشدها فاعلية وأكثرها خفاءً: ذكر بعض الحقيقة وإخفاء بعضها؛ لأن الناقل يُعطي بذلك صورة ناقصة مبتورة لا تُمثل الواقع بتمامه، فمن الناس من ينتقي ما يوافق هواه من الخبر ويحذف ما بقي منه، وهو بذلك لا يُعطيك إلا شطراً واحداً من الحقيقة ويدفن ما سواه، أو يقطع الخبر من سياقه والملابسات المحيطة به؛ فيكون الخبر غفلاً من قضايا أخرى لازمة لتكميل القضية ووضوحها.

التوسع في المعاريض:
بعض الصالحين يحفظه الله – عز وجل – من الكذب فلا يقع فيه ولا يتجاسر عليه، لكنه قد لا يسلم من المعاريض المحتملة لأكثر من وجه، فيُسرف فيها إسرافاً شديداً، والمعاريض إذا لم توضع في موضعها الشرعي الصحيح تصبح نظيرة للكذب!
وإذا كان متلقي الخبر فطناً يقظاً استطاع أن يُميز الخبر المكذوب المختلق والخبر المنقوص المبتور، كما استطاع بذكائه وبصيرته أن يُميز المعاريض من غيرها، ويتعامل مع كل حدث بما يستحقه من الحكمة والبصيرة.
قال ابن تيمية: "والرجل الصادق البار يظهر على وجهه من نور صدقه، وبهجة وجهه سيما يُعرف بها، وكذلك الكاذب الفاجر".
ومن مخاطر التوسع في المعاريض: أن الحقيقة إذا ما ظهرت للسامع بخلاف ما فهمه من التعريض ظنّ أن محدِّثه كاذباً، وهو ليس كذلك.

خطورة الكذب:
خطورة الكذب تكمن في أن مرتكبه قد ينسف بخبر واحد مكذوب أو منقوص أعمالاً جليلة ومكانة سامقة، ويرمي بالكذبة لا يُلقي لها بالاً تبلغ من خطورتها وضررها آفاقاً بعيدة، فقد يسقط الرجل عند الناس من الثُّريا إلى الثرى بكلمة واحدة ملفقة!
من أجل ذلك كان التحذير من الكذب بالغاً، والعقوبة المترتبة على فعله في غاية الشدة، حتى يكون المسلم أبعد ما يكون عن هذه الآفة المهلكة.

الآفة الثانية: الشائعة:
ويرى الأستاذ الصويان أن الآفة الثانية في نقل الأخبار، هي آفة الكذب، ويتابع في كتابه قائلاً: " قال ابن منظور في (لسان العرب): "شاع الخبر في الناس يَشيع شَيْعاً وشَيَعاناً ومَشاعاً وشَيْعُوعة، فهو شائعٌ: انتشر وافترق وذاع وظهر، وأشاعه هو وأشاع ذِكْر الشيء: أطاره وأظهره، وقولهم: هذا خبر شائع، وقد شاع في الناس؛ معناه: قد اتصل بكل أحد فاستوى علم الناس به، ولم يكن علمه عند بعضهم دون بعض، والشاعة: الأخبار المنتشرة".

والشائعات بمعناها الاصطلاحي: "عبارة عن أقوال أو أخبار أو أحاديث يختلقها البعض لأغراض خبيثة، ويتناقلها الناس بحسن نية، دون التثبت في صحتها، ودون التحقق من صدقها".
ويُعرفها بعضهم بأنها: "عبارة عن نبأ أو حدث مجرد من أية قيمة يقينية، ينتقل من شخص لآخر، قادر على زعزعة الرأي العام أو تجميده".

والإشاعة في أغلب الأحوال ما هي إلا تضخيم للأخبار الصغيرة، وإظهارها بصورة تختلف عن صورتها الحقيقية، أو هي تسخير للأخبار المكذوبة وطلاؤها بطلاء براق يلفت إليها الانتباه، من أجل إشاعة الفُرقة والبغضاء بين العباد، ثم تسري هذه الأخبار بعد ذلك سيراً وبائياً بين الصفوف التي تكون – في أغلب الأحوال – لسوء التربية، ولغياب الموازين العلمية المعتمدة في القبول والرد، ولغياب المرشدين الأمناء مرعىً خصيباً لمثل هذه الشائعات.
والإشاعة هي بداية الاختلاف والتفرق، وسرعان ما ينتهي الحال إلى معركة دامية تُسلُّ فيها الألسن، وتسقط فيها القيم والمثل، وربما يُشهر فيها السلاح. نسأل الله السلامة..!

وحسبك أن تصغي إلى أحاديث الناس في منتدياتهم العامة، بل وفي مجتمعاتهم الخاصة، لتسمع ضجيج الشائعات يطغى على كل شيء، وسأترك الأمر للقارئ الكريم ليتأمل في حال الناس من حوله، وينظر كم تتغير الأحوال وتتبدل القلوب، بسبب ذلك الهراء الذي يُشيعه بعض الناس بين آونة وأخرى...؟!

وتبدأ الشائعات عادة بكلمة صغيرة ثم يزيدها الناس من هنا وهناك: "حتى تصّاعد في سرعة إلى عنان السماء، فتحجب عن الرأي – أو تكاد – آفاق الرؤية الواضحة، وتسد أمام ناظريه السبيل، فلا يرى جبال الحقائق الموضوعية الراسخة، هذه التي تحدد قممها في سماء صافية من المنطق".

والنفوس مجبولة على التطلع إلى غرائب الأخبار ونوادر الحوادث، فأنت ترى أن الأنظار تنجذب إلى ذلك المرء الذي يثير الأخبار من هنا وهناك ولو لم تكن ثابتة، ولقد أثبتت الأيام بما لا يدع مجالاً للشك، أن الشهرة والسمعة تكون دائماً حليف المرء الذي يُحسن عرض الشائعة، ويُزينها بآهات التحسر وإظهار الغيرة على الدين وأهله!!

ويرى الأستاذ الصويان أن الإشاعة تتولد عادة من خلال إحدى ثلاث حالات:
1 – إيجاد خبر لا أساس له من الصحة.
2 – تلفيق خبر لجزء منه نصيب من الصحة.
3 – المبالغة الجسيمة في نقل خبر ينطوي على بعض العناصر الصحيحة.

نماذج للشائعات:
التاريخ الإسلامي مليء بالحوادث والأخبار التي ظهرت فيها الآثار السلبية للشائعات، أقتصر على ذكر مثالين فقط:
المثال الأول:
من الحوادث المزعجة التي حصلت في تاريخ هذه الأمة: (قصة الإفك المشهورة) حيث كانت تلك الفرية الآثمة التي أشاعها بعض المنافقين، ورددها بعض المؤمنين بدون تورع أو تثبت، من أثقل ما مرَّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته وصحبه الكرام – رضي الله تعالى عنهم أجمعين-.

المثال الثاني:
نقل ابن هشام – رحمه الله تعالى – عن ابن إسحاق – رحمه الله تعالى – قال: "بلغ أصحاب رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ الذين خرجوا إلى أرض الحبشة إسلام أهل مكة، فأقبلوا لما بلغهم ذلك، حتى إذا دنوا من مكة، بلغهم أن ما كانوا تحدثوا به من إسلام أهل مكة كان باطلاً، فلم يدخل منهم أحد إلا بجوار أو مستخفياً".
فهذا الخبر يبين أن أهل مكة أشاعوا كذباً إسلام قريش، حتى يضمنوا رجوع المهاجرين المسلمين من الحبشة، وفعلاً استبشر المسلمون بهذا النبأ، ورجع بعضهم ثم علموا بطلان هذه الفرية، فلم يستطيعوا دخول مكة خفية أو محتمين إلا بجوار أحد من المشركين!

الحذر من ترويج الشائعات:
قد يُصبح المرء الصالح مطية يروِّج بعض الأخبار الشائعة المكذوبة من حيث لا يدري، فهو يتقبل الأخبار أياً كان مصدرها، دون تفكير متزن ولا وعي بمقتضى هذه الأخبار ومقاصدها، وإنما عن تلقين أو تقليد من غير تأمل أو نظر..!
قال جوزيف دي مستير: "الآراء الكاذبة كالعملة المزيفة، يسكها مجرمون عتاة، ثم يتداولها أناس شرفاء، وتستمر على أيديهم الجريمة، دون أن يعلموا ماذا يفعلون؟!".
وفرق كبير جداً بين خبر يُبنى على الأدلة والبراهين والوقائع الثابتة... وآخر يبنى على الدلائل الظنية والأسانيد الواهية، ولذا جاءت توجيهات النبي _صلى الله عليه وسلم_ في غاية الوضوح والبيان والقوة، للتحذير من إشاعة أخبار لم يتبين صدقها من كذبها، فعن المغيرة بن شعبة – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: "إن الله حرَّم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنعاً وهات، وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال".
وعند أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: "كفى بالمرء إثماً أن يُحدِّث بكل ما سمع".
وفي رواية أخرى: "كفى بالمرء كذباً أن يُحدِّث بكل ما سمع".

أسباب انتشار الشائعات:
الأسباب التي تجعل الأخبار المكذوبة تشيع وتحل محل الحقائق في أذهان كثير من الناس بدون تفكير أو تدبر، أساب عديدة، منها:
أولاً: فصاحة قول المشيع وحسن منطقه، وإجادته عرض الشائعة، وهذا من أسباب رواج إشاعات المنافقين بين الناس، ولهذا قال الله عز وجل في وصف المنافقين: "وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ" (المنافقون: من الآية4)، وعن عمر بن الخطاب – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: "أخوف ما أخاف على أمتي: كل منافق عليم اللسان".
ونظير هذا ما جاء عن أم سلمة – رضي الله تعالى عنها_ قال: قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: "إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إليّ، فلعلَّ بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق مسلم؛ فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو ليتركها".
وكما قال أحد الشعراء:


في زخرف القول تزيين لباطله والحق قد يعتريه سوء تعبير

ثانياً: كون المشيع ممن تميل إليه قلوب سامعيه، إما بسبب الصحبة أو التحزب أو التمشيخ، أو غيرها، وهذا يمنع السامع من البحث والنظر فيما يُنقل إليه.
وإحسان الظن لدرجة الغفلة وعدم التثبت سذاجة غير محتملة من شباب الصحوة ودعاتها – على الإطلاق!
ينبني على ذلك أن من الناس من لم يرزقه الله بصيرة ناقدة، بل يُردد ما يقوله الناس كالإمعة الذي لا يدري ما يقول! وقد جاء في وصية الإمام علي بن أبي طالب – رضي الله تعالى عنه – لكُميل بن زياد النَخعي قوله: "الناس ثلاثة: فعالم رباني، ومتعلِّم على سبيل النجاة، وهَمَجٌ رِعاعٌ أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق".
وكما قال العلامة الفحل ابن خلدون – رحمه الله تعالى -: "فالتحقيق قليل، وطرف التنقيح في الغالب كليل، والوهم نسيب للأخبار وخليل، والتقليد عريق في الآدميين وسليل".

ثالثاً: موافقة الخبر هوىً في نفس السامع، كأن يرى في هذا الخبر انتصاراً لنفسه وفئته، أو تقليلاً من قدر الفئات الأخرى، وهذه ظاهرة نفسية عجيبة لا مجال لإنكارها أو التغاضي عنها، فإنها تفتك بالقلوب، وتمزِّق وحدة الصفوف، وإلى هذا أشار العلامة ابن خلدون – رحمه الله تعالى – بقوله: "ولما كان الكذب متطرقاً للخبر بطبيعته وله أسباب تقتضيه: فمنها التشيُّعات للآراء والمذاهب، فإن النفس إذا كانت على حال الاعتدال في قبول الخبر أعطته حقه من التمحيص والنظر حتى تتبين صدقه من كذبه، وإذا خامرها تشيُّع لرأي أو نحلة قبلت ما يوافقها من الأخبار لأول وهلة، وكان ذلك الميل والتشيُّع غطاءً على عين بصيرتها من الانتقاد والتمحيص، فتقع في قبول الكذب ونقله".
رابعاً: أن تتسم الوقائع الحقيقية بشيء من الغموض.

خامساً: الفراغ؛ حيث يشغل الفارغون الباطلون أوقاتهم بالقيل والقال، ويصبح جل همهم البحث والتنقيب في أحوال الناس. وأسوأ ما يكون ذلك عند بعض من ينتسب إلى العلم والدعوة والدعاة، حيث تستهلك الطاقات والأوقات في أخبار الناس، ويصبح شغلهم في لحوم الناس وأعراضهم. ومن تدنَّت همته ولم يجد بيئة كريمة تدفعه إلى العطاء والإنجاز؛ ولغ في حضيض التفاهة ولم يعرف إلا بالقيل والقال..!!

ملامح المنهج الشرعي للتعامل مع الأخبار:
يستعرض الكاتب الآفات التي تصيب الأخبار، وصولاً إلى تقديم الرؤية الشرعية الصحيحة لمسألة نقل الأخبار والتثبّت منها، وفي ذلك يستعرض:
أولاً: التثبت في الأخبار:
تمتلك هذه الأمة – بفضل من الله – تعالى – ومنِّه – أعظم منهاج في تنقيح الأخبار والمرويات، وقد بنى أئمتنا الكرام – رضي الله تعالى عنهم – هذا المنهاج الكريم على أسس قويمة وضوابط علمية دقيقة لا لبس فيها ولا غموض، فميزوا بين الثقات والمجروحين من الرواة، والصحيح والضعيف من المرويات، بكل تثبت وإنصاف، بعيداً عن الأهواء الشخصية، والتعصبات المذهبية.
ولم تظهر آثار هذا المنهاج الكريم في تنقيح السنة النبوية المشرفة فحسب – وإن كان هذا هو أبرز المجالات وأجلها – بل تعداه ليشمل جوانب متعددة من الفكر الإسلامي، كالتاريخ ورجاله، والأدب ورجاله وغيرها.
وفي هذا العصر الذي اندرس فيه منار الإسلام، واختلطت فيه السبل، نحتاج إلى إحياء هذا المنهاج لكي يتضح الطريق، ونعرف الحق من الباطل، ونميز أقدار الرجال ومنازلهم، ورحم الله إمام دار الهجرة مالك بن أنس إذ يقول: "ما في زماننا شيء أقل من الإنصاف". ولست أدري ماذا نقول نحن عن زماننا..؟!

الأمر بالتثبت:
جاء الأمر بالتثبت في قبول الأخبار في آية عظيمة من كتاب الله عز وجل، قال الله _تعالى_: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ" (الحجرات:6).
وعلى قراءة أخرى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَثَبَّتُوا" الآية.
قال الإمام ابن جرير – رحمه الله تعالى -: "واختلف القراء في قراءة قوله: "فتبينوا" فقرأ ذلك عامة قراء أهل المدينة "فتبينوا" بالباء، بمعنى: أمهلوا حتى تعرفوا صحته، لا تعجلوا بقبوله، وكذلك معنى فتثبتوا، والصواب من القول في ذلك: أنهما قراءتان معروفتان متقاربتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب".
إذاً فالتثبت أو التبين هو الأصل الذي يُبنى عليه نقل الخبر، والتأني ثم التحري في صحة النقل دليل الكياسة والفطنة وكمال العقل، فإن: "أصل العقل التثبت"، وكما قال أحد الشعراء:

قد يُدرك المتأني بعض حاجته وقد يكون مع المستعجل الزللُ

الاعتماد على ضبط النقلة وصحة فهمهم:
من القضايا المشكلة الخفية التي قد يغفل عنها بعض الأفاضل: أنهم بادئ ذي بدء ينظرون إلى عدالة الناقل وأمانته دون النظر إلى ضبطه وإتقانه في النقل..!
وعندما تكون استجابة الإنسان استجابة عاطفية، فإنه عادة يعجز عن تمييز الحقائق، فقد يكون الناقل قد بلغ الغاية في التقوى والورع، لكنه قليل الضبط، قليل التيقظ، ضعيف الحفظ لما يسمع.
وهذا يذكرني بقول ابن أبي الزناد – رحمه الله تعالى -: "أدركت بالمدينة مئةً كلهم مأمون؛ ما يؤخذ عنهم الحديث، يقال: ليس من أهله".
وقال الإمام مالك بن أنس – رحمه الله تعالى -: "إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذونه، لقد أدركت سبعين ممن يقول: قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_. عن هذه الأساطين – وأشار إلى المسجد – فما أخذت عنهم شيئاً، وإن أحدهم لو ائتمن على بيت مال لكان أميناً، إلا أنهم لم يكونوا من أهل هذا الشأن".
وهي من طريف ما يمكن ذكره في هذا الموضع: أن أحد الإخوة الأفاضل دخل على أحد أشياخه في مجلسه، فنظر إليه شيخه نظر عتاب وملامة، فلما سأله عن ذلك؟! أخبره شيخه أنه قد سمع أنه يتأول صفة اليد لله – سبحانه وتعالى – بالقوة والقدرة..! فقال صاحبنا: سبحانك ربي هذا بهتان عظيم... وكيف أطيق هذا..؟!
فتهلل وجه الشيخ بعد اطمئنانه، وقال: لعل الناقل لم يثبت من فهمه!
ثم تذكر صاحبنا أنه تحدث قبل أيام مع بعض أصحابه في تفسير قول الله – عز وجل-: "وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ" (الذاريات:47)
فقال: بأيد، يعني بقوة، كما نقل ذلك الحافظ ابن كثير – رحمه الله تعالى – عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والثوري وغير واحد، ولم يتطرق صاحبنا لصفة اليد لله – سبحانه وتعالى – ولكن فهم منه الناقل فهماً بعيداً عن المراد فأبعد النجعة..!
وقديماً كان الحكماء يقولون: "وما آفة الأخبار إلا رواتها"، وما أجمل قول أبي الطيب المتنبي:


وكم من عائب قولاً صحيحاً وآفته من الفهم السقيم
ولكن تأخذ الأذهان منه على قدر القرائح والعلوم

الاعتماد على القرائن في قبول الأخبار وردها:
مما تقدم يتبين لنا: أن الخبر إذا نقل عن أحد من العلماء أو الدعاة، ولم يتأكد لنا صحة النقل، أو صحة فهم الدلالة، فينبغي أن يُعرض ذلك الخبر على أقواله وأفعاله السابقة واللاحقة، ويُقاس بطريقته وأحواله، فإن خالف ذلك الخبرُ المعروفَ من سيرته وقوله، كانت هذه قرينة مهمة في رد الخبر، أو حمله على المعروف من حاله.
وأعتقد أن هذه الطريقة – أعني: الاعتماد على القرائن – من الوسائل المفيدة جداً في تمييز الأخبار وتنقيحها، قال الإمام ابن القيم – رحمه الله تعالى-: "والكلمة الواحدة يقولها اثنان، يُريد بها أحدهما: أعظم الباطل، ويُريد بها الآخر محض الحق، والاعتبار بطريقة القائل وسيرته ومذهبه، وما يدعو إليه ويُناظر عنه".
وتقدم قريباً قول الإمام السبكي – رحمه الله تعالى -: "فإذا كان الرجل ثقة مشهوداً له بالإيمان والاستقامة، فلا ينبغي أن يُحمل كلامه وألفاظ كتاباته على غير ما تُعوِّد منه ومن أمثاله، بل ينبغي التأويل الصالح، وحسن الظن الواجب به وبأمثاله".

الخبر التحليلي:
ومما يُؤثِّر على صياغة الخبر ونقله ويوجب التحري والتثبت: أن الناقل للخبر يقرن بين ذكره للخبر وبين رأيه هو وتحليله... حتى إن السامع يظن أن كل ما ينقل هو الخبر، وتختلط بين يديه الأوراق ولا يستطيع بعد ذلك أن يُميز بين الخبر وبين تصورات الناقل وتحليلاته الشخصية، وهناك فارق جوهري بين ذكر الخبر مجرداً، وبين الخبر التحليلي، ولا شك بأن الالتزام بالأسلوب العلمي في عرض الأخبار شرط أساس في صحة النقل وإبراء الذمة.
ومما تجدر الإشارة إليه أيضاً: أن رؤية الإنسان الفكرية وانطباعاته النفسية لها تأثير كبير على صياغة الخبر ونقله، فقد يثير الناقل حول الخبر ضباباً كثيفاً، يحجب رؤية السامع ويُعمي بصيرته، ومعلوم أن الخبر الواحد يمكن أن يروى على سبعين وجهاً، ويستطيع الناقل أن يتخير أحسن الألفاظ وأعفها، كما أنه يستطيع اختيار أقسى الألفاظ وأفحشها...!!
ومن روائع الإمام ابن القيم قوله – رحمه الله تعالى -: "وكل أهل نحلة ومقالة يُكسبون نحلتهم ومقالتهم أحسن ما يقدرون عليه من الألفاظ، ومقالة مخالفيهم أقبح ما يقدرون عليه من الألفاظ، ومن رزقه الله بصيرة فهو يكشف بها حقيقة ما تحت تلك الألفاظ من الحق والباطل، ولا تغتر باللفظ، كما قيل في هذا المعنى:


تقول: هذا جنيّ النحل تمدحه وإن تشأ قلت: ذا قيء الزنانير
مدحاً وذماً وما جاوزت وصفهما والحق قد يعتريه سوء تعبير

فإذا أردت الاطلاع على كنه المعنى هل هو حق أو باطل، فجرِّده من لباس العبارة، وجرِّد قلبك عن النفرة والميل، ثم أعط النظر حقه ناظراً بعين الإنصاف، ولا تكن ممن ينظر في مقالة أصحابه ومن يحسن ظنه فيهم – نظراً تاماً بكل قلبه، ثم ينظر في مقالة خصومه وممن يسيء ظنه به كنظر الشزر والملاحظة، فالناظر بعين العداوة يرى المحاسن مساوئ، والناظر بعين المحبة عكسه، وما سلم من هذا إلا من أراد الله كرامته وارتضاه لقبول الحق".

وقد يكون الخبر المنقول صحيحاً، ولكن الناقل يُخبر به بصيغة التهكم والاستهزاء، والتهكم سلاحٌ خفي لاذع يُسقط من قيمة الآخرين، ويُقلل من احترامهم.. "فطعن اللسان أنفذ من طعن السنان".
فاللغة التي يُصاغ فيها الخبر تؤثر تأثيراً بالغاً على المتلقي، سلباً أو إيجاباً، وجزماً أن الخبر إذا عرض بأدب وورع: تقبله المخالف واطمأنت إليه النفس، ولكن إذا عرض في سفهٍ وتشفٍّ: أثار المخالف وجعله يُصر على عناده وباطله وتكذيبه للخبر!!

وأشار الجاحظ إشارة عجيبة إلى هذا الشأن، حيث قال: "اللفظ الهجين الرديء، والمستكره الغبي، أعلق باللسان، وآلف للسمع، وأشد التحاماً بالقلب، من اللفظ الشريف، والمعنى الرفيع الكريم".
وأكثر دقة منه قول الإمام أبي محمد ابن حزم – رحمه الله تعالى -: "من العجائب أن الفضائل مستحسنة ومستثقلة، والرذائل مستقبحة ومستحبة".
وهذا عند من لم ينوِّر الله فؤاده بنور الإيمان.. وأما من اطمأنت نفسه بذكر الله، وخالطت بشاشته سويداء قلبه، كان للكلم الطيب أقرب، وعن اللغو الباطل أبعد، قال الله _تعالى_: "قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ" (المؤمنون:1-3).