إرتريا .. القريبة البعيدة: غطرسة الطاغية تكسر حاجز الخوف
17 صفر 1439
منذر الأسعد

تماماً، كالقطرة التي تجعل الكأس تفيض لأنها ممتلئة أصلاً، جاء اعتداء النظام الأرتيري على مدرسة الضياء برمزيتها الخاصة، ليفجر أول شعلة في البركان الكامن، وليضطر المواطنين المقموعين إلى كسر حاجز الخوف، والخروج في مظاهرة شعبية تلقائية، لأول مرة منذ تسلط أسياس أفورقي على كل مفاصل السلطة في البلاد.

 

لم تعد ندرة الأخبار التي تأتي من أرتيريا دليلاً على أنها ساكنة وخالية من الأحداث، بقدر ما تشير إلى النظام الاستبدادي الرهيب، الذي يقمع كل حركة فيها، على غرار النظم الشمولية التي اندثرت مع الاتحاد السوفياتي البائد، وبقيت جيوب منها متناثرة من الصين وكوبا وكوريا الشمالية التي يوصف نظام أفورقي بأنه نسختها الإفريقية...

لذلك، سرعان ما استأثرت المظاهرات الأخيرة في عاصمتها: أسمرا باهتمام واسع، وخاصة أن المقاطع المصورة تصوير الخائفين، تثبت ما دأب النظام الشمولي على نفيه نفياً حاداً.. وربما كان حرصه الشديد على حجب كل ما يغلي في المرجل، سبباً كافياً في تفسير التعقيدات التي تتفرد بها سلطته أمام أي إنسان يرغب في زيارة بلده بالرغم من ثراء أرتيريا بالمواقع السياحية المميزة.

 

الشيخ  المهيب
 اعتقال الشيخ التسعيني موسى محمد نور وسبعة من كادرها الإداري والتعليمي، على خلفية تبعية مدرسة الضياء الإسلامي، كان الشرارة التي أطلقت الغضب المتراكم المكظوم، فقد رأت فيه الأوساط الشعبية في الداخل والخارج عدواناً صارخاً لتقويض حياة المسلمين الأرتيريين وتدخلاً سافر في شؤونهم الخاصة.

الشيخ نور الذي تجاوز الـتسعين عاما رجل صنديد خَـبِـرَ المعتقلات الرهيبة زمن الاحتلال الإثيوبي.. حكيم قوي الشكيمة لا يهادن حسب وصف عارفيه.
لهذا صدرت عدة بينات تندد بالتدخل الأمني في الشؤون الخاصة للمدرسة الأهلية من عدد من التنظيمات السياسية بينما اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي بالمناقشة حول سبل المواجهة في الوقت الذي صمتت فيه "منظمات المجتمع المدني الأرتيرية" المزعومة.

ومدرسة الضياء الاسلامية، آخر القلاع في العاصمة الأرتيرية، والتي بقيت رمزا للتعليم الإسلامي في اسمرا منذ العهد الامبراطوري مروراً بحقبة الشيوعية بزعامة منغستو، حيث ظلت الضياء بفضل ادارتها الاهلية الخبيرة في التعامل مع تقلبات الدهر والحكومات والنظم القهرية، ولم تتعرض لمحاولة جادة للقضاء عليها كلياً، كما يريد أفورقي اليوم، فقد حرصت دائماً على التزام القوانين واجتنبت العلاقة سلباً أو إيجاباً بتقلبات نظم الحكم المتباينة ونأت بنفسها عن التصنيفات الفئوية والحزبية..

             ثم ورثها نظام أفورقي بعد الاستقلال، وبفكره الشيطاني وتوجهه المعادي للتعايش والحوار الثقافي والاجتماعي بين الجماهير الارتيرية، ظل منذ وصوله لسدة الحكم يبحث عن كل ما يمزق أواصر المجتمع ليسهل عليه إحكام قبضته القمعية على جميع شرائحه، فتارة يزرع كوادره المخربة في المؤسسات والتنظيمات الدينية في الداخل والخارج ، لتأجيج الجدال وتغذية الصراع بين فئات المجتمع، وتارة يستخدم أدواته في السلطة لزرع التفرقة والبغضاء بين الجميع.

ثم فرض النظام منهجه الدراسي العقيم على المدرسة، التي قبلت به على مضض، وعوَّضت عن ثغراته بجرعات مكثفة من الثقافة الاسلامية واللغة العربية خارج الإطار المنهجي لمقررات النظام.

مع ذلك، استعجل النظام قراراته، خوفا من تجييش القضية للصف الاسلامي والانساني في ارتريا، وقام باعتقال المئات من اعضاء الادارة ومجالسها، ومعظمهم من كبار السن الثابتين على المبادئ في مواجهة كل النظم والأجهزة القمعية، ممن تجاوزت أعمارهم السبعين والثمانين والتسعين عاما.
            وكانت الادارات الاهلية وفي كل مراحلها للنقاش الموضوعي مع النظام، تسأل لماذا لا يتعامل النظام بنفس الاسلوب مع المدارس الكنسية؟ لماذا لا يصادر ممتلكاتها ويغير مناهجها؟ لماذا لا يحاول التدخل في طريقة إدارتها؟

هويات قسرية

قامت الحكومة بإغلاق العديد من مدارس اللغة العربية في إقليم عشبا غرب العاصمة الإرترية، وإجبار مدارس أخرى على تدريس العلوم باللغة الإنجليزية بدلاً من العربية.

وفي منطقة عفر ذكر بعض الأهالي أن الحكومة تعمل على وضع قواعد جديدة، واختراع حروف أخرى للغة العفر بدلاً من تلك المستعملة في جيبوتي وإثيوبيا منذ مائتي عام، وقال هؤلاء الأهالي إن الهدف من ذلك هو عزل القومية العفرية عن امتدادها في جيبوتي والصومال وإثيوبيا.

وكانت إثيوبيا التي احتلت إرتريا حتى عام 1993 قد حاولت في الماضي فرض اللغة الأمهرية التي تتحدث بها على الشعب الإريتري لكنها فشلت في ذلك وجوبهت بمقاومة عنيفة، وكانت من جملة أسباب اندلاع الحرب بينهما في أعوام 1997 و1998 و2000.

 

والغالبية العظمى من السكان تفضل استخدام اللغة العربية؛ لارتباطها بالدين والتراث الإسلامي؛ حيث أن أغلب سكان إرتريا مسلمون، كما أنها لا تزال اللغة الرسمية في دواوين الدولة والإذاعة والتلفزيون والصحيفة الرسمية الناطقة باسم الدولة، وهي صحيفة إرتريا الحديثة.

 

وقد اتخذ البرلمان الإريتري، قبل أن يحله الإثيوبيون، من اللغة العربية لغة رسمية لإرترية إلى جانب اللغة التغرينية بحسب المادة 38 من الدستور الإريتري، وكانت اللغتان العربية والتغرينية تُدرسان في المدارس قبل أن تمنع ذلك إثيوبية، ومما ساعد على اقتصار التعليم بهاتين اللغتين فحسب كونهما الوحيدتين اللتين تمكن الكتابة بهما.

ومن مفارقات نظام أفورقي الديكتاتوري حرصه على تخلف البلاد فالتعليم في إرتريا بائس جداً بحسب المعايير العالمية، وعمد النظام إلى إغلاق جامعة أسمرة –وهي الوحيدة في البلد- وتحويل كوادرها إلى معاهد منتشرة في جميع أنحاء اريتريا بعد نشوب صدامات بين الطلبة والجيش منذ عام 2000 م لانتزاع حقهم النقابي والاعتراض على العمل الصيفي الإلزامي.

 

السجن الكبير
يستغل أفورقي موقع أرتيريا الحيوي حيث تضم 126 جزيرة في موقع عظيم الأهمية للعالم كله وينتهز تجاهل العالم لجحيم نظامه وممارساته المتوحشة ولذلك فهو كما يقول مواطنوه الهاربون إلى الخارج: يبني سجوناً ولا يبني مدارس ولا مستشفيات
حتى أصبحت البلاد عبارة عن سجن كبير.

لقد استقلت أرتيريا عن الاحتلال الأثيوبي سنة 1993 بعد تضحيات جسيمة ومديدة وما زال حزب الجبهة الشعبية للديموقراطية والعدالة هو الحزب الحاكم منذ الاستقلال ولم تجرِ أي انتخابات حتى الآن ولا يوجد برلمان ولا نقابات ولا أي مؤسسة من مؤسسات الدولة الحديثة.
وقد احتلت اريتريا المرتبة الأخيرة في حريات الإعلام بحسب تصنيف مراسلون بلا حدود.

وأسياس أفورقي في المقابل يدرك ذلك، ويعرف دوره، ويكتفي بأن يفرض نفسه على ملايين الإرتيريين في صمت وبدون كثير من الجلبة، ولذلك فإن قائمة الانتهاكات الإرتيرية لحقوق الإنسان تبقى مجرد ملف مهمل حتى لو وثقته الأمم المتحدة، ومن فيض الانتهاكات يصبح الاسترقاق والسجن والاختفاء القسري والتعذيب والاضطهاد والاغتصاب والقتل، ممارسة نمطية لأنه لا يمارس على مجموعات معينة، وإنما امتد ليصبح أسلوباً للحياة في إرتيريا.