المتصدقون بالسعادة
11 ذو الحجه 1436
د. خالد رُوشه

أن يبحث الإنسان عن سعادة نفسه في الحياة , هو مراد سعي الناس جميعا , وأن يسعى لإسعادها في الدنيا والآخرة هو مراد سعي المؤمنين , لكن أن يبحث المرء عن سعادة غيره فهذا سلوك إيماني راق لا يبلغه إلا قليل من أهل القلوب الحية الرقيقة الراقية ..

 

كثير من الناس يحيا حياة شاقة , فكثير منهم يعانون أمراضا فتاكة , وكثير منهم يتعرضون لمصائب في أنفسهم أو فيمن يحبون , وكثير منهم يعاني فاقة وفقرا , وآخرون يعانون ظلما وألما ... وهكذا

 

 

هؤلاء يكادون يستشعرون وحدة مطبقة , وإهمالا من الناس جميعا لهم , وكأنهم يعيشون منفردين في دنياهم , إذ الأزمات تضيق الصدور , وتظلم الحياة في أعين المصاب ..

 

 

ههنا يأتي هؤلاء الأنقياء الأطهار , يأتون من بعيد , يحملون باقات الورود العاطرة , ويخبئون بين أيديهم مضادات للمصائب والآلام , فلكأنهم كائنات خير ورحمة بعثهم ربهم لتفريج الكروب , وتنزيل السكينة , والتخفيف من الآلام ..

 

 

كان لنا جار كريم , رايت من أمره عجبا , فقد نذر نفسه كل يوم بعدما يعود من عمله في وسط النهار , أن يدور على مستشفيات المدينة الكبرى  , فيدور فيها على المرضى المشتكين , فيسألهم عن حاجاتهم فيقضيها جميعا بقدر استطاعته, ومالم يكن يستطيعه من حاجاتهم يستعين بمعارفه من أهل الخير ليقضيها , ويظل هكذا حتى الليل , كان يفعل ذلك بصورة يومية تامة بغير انقطاع ..

 

 

شاب آخر أعرفه جيدا , جاء يحدثني مرة عما إذا كنت أرغب في مساعدة أحد اليتامى أو كفالتهم , ولم أكن ساعتها قد عرفته تمام المعرفة , فسألته أن يمهلني أياما , ورحت أسال عنه , وعن سلوكه , فإذا به قد نذر نفسه لمساعدة اليتامى , يقضي حاجاتهم , ويشتري ملابسهم , ويعالج مريضهم , وإذا به يكتب جداول بعشرات اليتامى الفقراء , يمر عليهم بصورة دورية , يسألهم عما يحتاجون , ويقوم بما استطاعه لهم , صحبته يوما فرايت عجبا من حب الايتام له , وعطفه عليهم , ورحمته بهم , وجهده الكبير المضني في رعايتهم .

 

 

موقف آخر حدث وكنت عليه شاهد , من امرأة عجوز , قد فقدت بصرها , وعاشت في بيت في غاية التواضع , ليس لها من يعولها , ولا مال لها , ولا معاش يأتيها , مررنا بها ذات مرة اثناء رغبتنا في السؤال عن بعض الفقراء , إذ أشار إليها بعض من أرشدنا اليها , بأنها بلا عائل يعولها ...

 

 

ولما سألناها عمن يعولك وأنت ضريرة , ومن ينظف بيتك – الذي بالفعل بدت عليه النظافة والاهتمام برغم تواضعه الشديد – قالت إن هناك شخصا يأتيها كل يوم , فيسلم عليها , ويترك لها ما تيسر من طعام , وينظف بيتها , ويرحل , وهي لا تعرف اسمه ولاشىء عنه سوى ذلك  .. وأن لها جارة تأتيها كل جمعة , فتجمع ثيابها فتغسلها وتردها لها , وهكذا تمضي حياتها منذ فترة طويلة !

 

 

لقد رايت مواقف كثيرة سأل فيها بعض هؤلاء الأنقياء الكرام عن فقراء أو محتاجين , فأرسلوا لهم أموالا أو طعاما أو دواء , وحرصوا ألا تذكر اسماؤهم أو يعرفهم أحد أبدا .

 

 

فكم من قلب رؤوم رحيم هزته آهات المرضى على أسرتهم فلم يرض لنفسه أن تنام وهم متألمون , فقام ساعيا على راحتهم .

 

 

وكم من صدور مؤمنة أدمعتها صورة ارملة يحيط بها ايتامها الصغار , فراحت تسعى عليهم , وتلبي طلباتهم بل ورغباتهم .

 

 

وكم من نفس نقية رقيقة , عرفت آلام الناس , ولما علمت فقرها , ورأت عدم قدرتها على معونتهم , رفعت أكفها إلى السماء دعاء لهم , ورجاء من الله سبحانه أن يمدها برزق كي تستطيع معونتهم ..

 

 

وددت لو جمعني الله سبحانه بجمع من هؤلاء الكرام - المتصدقين بإسعاد الناس , فهم يسعدونهم بجهدهم , ومالهم , وعطائهم النفسي والقلبي , والعقلي , صادقين في عملهم ذاك , جادين فيه أيما إيجابية وجدية – أتعلم من فضلهم وأربي نفسي على سماتهم العلية .

 

 

الناس ..كل الناس بحاجة إلى يد حانية , تربت على أكتافهم في أوقات المصائب , وتقوم انكسارهم في أوقات الآلام , وتبلل ريقهم بماء رقراق عند جفاف الحلوق ..

 

 

ومن طالت به خبرته بالحياة علم أن أغلى الناس فيها قدرا هم الناصحون لغيرهم والمفرجون كرب الناس والميسرون على المعسرين والباذلون جهدهم لإسعاد غيرهم ..

 

يقول النبي صلى الله عليه وسلم : " إن من أحب الأعمال إلى الله إدخال السرور على قلب المؤمن, وأن يفرِّج عنه غمًا, أو يقضي عنه دينًا, أو يطعمه من جوع " أخرجه البيهقي , وحسنه الألباني

 

وفي رواية للطبراني " " إن أحب الاعمال إلى الله تعالى بعد الفرائض : إدخال السرور على المسلم ، كسوت عورته ، أو أشبعت جوعته ، أو قضيت حاجته "

 

 

وللطبراني أيضا عن عائشة رضي الله عنها " من أدخل على أهل بيت من المسلمين سرورا لم يرض الله ثوابا دون الجنة "

 

 

وله عن أنس رضي الله عنه قال " ” مَن لَقيَ أخاهُ المُسلِمَ بِما يُحِبّ لِيَسُرَّهُ بِذلك ، سَرّهُ اللّهُ عزّ وجَلّ يومَ القِيامةِ”

 

 

وفي الصحيح قول النبي صلى الله عليه وسلم " من فرج عن مسلم كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة والله في عون العبد ماكان العبد في عون أخيه "

 

 

 

إنها عبادة إذن ما إن يستصحب العبد فيها نية صالحة , إنها من أحب الأعمال إلى الله تعالى ..فتأمل

 

 

 

إن مجتمعاتنا تلك - التي تعيش الآن في صراعات متشابكة على المصالح الشخصية - لفقيرة إلى فهم ذلك المعنى العظيم , الذي يصرخ فينا أن سارعوا إلى الرفق بالناس وتفريج الكرب عنهم وتخفيف آلامهم وإطعام جائعهم وقضاء الدين عن مدينهم , وإهداء السرور لحزينهم ..

 

 

سُئِلَ الإمام مالك : "أي الأعمال تحب ؟" فقال: "إدخال السرور على المسلمين، وأنا نَذَرتُ نفسي أُفرِج كُرُبات المسلمين"

 

 

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: بينما نحن في سفر مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل على راحلة له, فجعل يصرف بصره يمينًا وشمالاً, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان معه فضلُ ظهر فليعُد به على من لا ظهر له, ومن كان له فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له), فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لا حق لأحدٍ منا في فضل" رواه مسلم

 

 

فكم من يتيم ضعيف فقد اباه  ينتظر اليد الحانية , وكم من مشرد من بلاده ينتظر الايواء والغذاء , وكم من متأوه في أروقة المستشفيات في أقسام الغسيل الكلوي والأورام وغيرها ينتظر الرعاية والمعونة , وكم من عاجز لا يستطيع أن ينفق على أهله ولا أولاده ينتظر اليد المعطاءة ... ولنتذكر دوما أن الله في عون العبد ماكان العبد في عون أخيه ..