تونس إلى أين ؟
4 ربيع الأول 1436
عبد الباقي خليفة

ربما يشعر كثير من المراقبين فضلا عن الكثير من الناس، أن الثورة في تونس قد انتهت، وأن دورة من الإستبداد والديكتاتورية قد ألمت بتونس بعد الإنتخابات الرئاسية في دورتها الأولى والثانية، وفوز" نداء تونس" ذلك الحزب الذي لم تمر ثلاث سنوات على تشكيله بالإنتخابات البرلمانية والرئاسية، ليصبح الحزب الأول في البلاد. لكن قراءة متأنية للأحداث تكشف أن الحرية والديمقراطية على مفترق طريقين، وأن حظوظ قيام أول ديمقراطية عربية تقف على نفس مستوى  حظوظ اجهاضها. مع التأكيد على أن التاريخ لا يعيد نفسه، وعقارب الساعة لا تعود إلى الوراء، وأن الغلبة في النهاية للحريات العامة والخاصة بعد مخاض جديد تبدو ملامحه تتشكل وبدرجات متفاوتة في دول الربيع العربي، وفي مقدمته تونس.

 

يجب أن نلاحظ أن التغيرات الدراماتيكية التي شهدتها تونس، منذ الثورة وحتى الآن اتسمت بالسلمية، وأن عمليات الإغتيال والعنف المسلح، وإن أثرت في المسيرة ، وفي النتائج التي وقفنا عليها ومنها فوز "نداء تونس" ب 85 مقعدا في الانتخابات البرلمانية واحتلال المرتبة الأولى، ثم الفوز بكرسي الرئاسة، بنسبة تزيد عن 55 في المائة بقليل، إلا أنها كانت مؤثرات ثانوية أو جيوب وروافد ساهمت في تشكيل الواقع الموضوعي الذي نعيشه في تونس، ولم تكن المحدد الوحيد أو المعطى الوحيد . فهناك عدة عوامل تظافرت لنصل لما وصلنا إليه، ومنها حالة الدمار التي شهدتها تونس في عهد الإستبداد، والظلم الإجتماعي، والقهر السياسي، والتمييز الجهوي. وقد أمل الشعب في الثورة، وظن أنه بمجرد فرار المخلوع، ستتحول البلاد إلى جنة تجري من تحتها الأنهار. وأن جميع المشاكل ستحل بعصا سحرية، ولكن سارت الرياح بما لم تشته السفن في تونس، فلم يتم القضاء على التفاوت بين الجهات ولم يتمكن جميع العاطلين عن العمل من ايجاد وظائف، ولم تتحسن المقدرة الشرائية للمواطنين، ولم يستتب الأمن، وكل ذلك بفعل عوامل طبيعية وأخرى مفتعلة كانت ساعية منذ البداية لإجهاض الثورة ، فضلا عن حشد الإستبداد الإقليمي، والعدو الصهيوني، ودوائر الإستكبار في العالم لأموالهم وإعلامهم لإعادة الديكتاتورية لبلدان الربيع العربي ومنه تونس.

 

لم تنجح محاولات الإنقلاب في تونس، لوجود مجتمع مدني مضاد وعلى كافة المستويات، وكان بإمكانه أن يفوز في الإنتخابات البرلمانية، لولا حالات الانقسام الشديدة والاستقالات في بعض الأحزاب الثورية { حزب المؤتمر من أجل الجمهورية، والتكتل من أجل العمل والحريات، مثلا } واللذين كان بإمكانهما حصد ما بين 18 و15 مقعدا لكل منهما لو بقيا موحدين، وكذلك حزب حركة النهضة، كان بإمكانه حصد أكثر من ال69 مقعدا التي حصل عليها في الإنتخابات البرلمانية، لو ظلت بعض القيادات في الصفوف الأولى{ أول رئيس للوزراء بعد انتخابات 23 أكتوبر 2011 م ، حمادي الجبالي} . وكان بإمكان محمد منصف المرزوقي أن يفوز بمقعد الرئاسة لو وقفت النهضة بكل ماكينتها وراءه ، ولم ينقسم مجلس الشورى بشأنه.

 

إذن، عودة بعض العناصر من المنظومة القديمة ضمن حزب نداء تونس، لم يكن قدرا مقدورا، ولم يكن انقلابا بالمعنى الكلاسيكي للكلمة بقدر ما كان خلطا للأوراق، وانطلاقة جديدة لم تتبين ملامحها حتى الآن . وإن كانت المقاربات تشير إلى أن الخطر لا يمثله الباجي قايد السبسي، الذي يبدو أنه يريد أن يترك أثرا حسنا، ويحافظ على المسار الديمقراطي، الإنتخابي. ولكن الخطر أشار إليه السبسي نفسه في خطابه يوم الخميس، 24 ديسمبر، والذي حضره " المسلم" عندما تحدث عن وجود" مؤسسات ضد المسار الديمقراطي الإنتخابي منذ بداية نجاح الثورة " وتابع" هناك تهديد من الداخل ولا بد أن نكون في حالة يقظة لأنه إذا نجحت هذه المؤسسات { لم يسمها } فكل ما فعلناه سيذهب أدراج الرياح". ودعا التونسيين ليكونوا في حالة يقظة " لتكريس المكاسب التي حققناها جميعا". وأكد على الالتزام بالدستور نصا وروحا ، ونحن قرأنا رسالة الشعب بوضوح ولا بد من احترامها" .

 

تعهد السبسي، قبل يوم من إعلان استقالته من حزب نداء تونس،{ 25 ديسمبر}  وقبل يومين من تتويجه رئيسا جديدا لتونس { 26 ديسمبر} ، بالعمل الجماعي ، ودعا المرزوقي للمشاركة في بناء الوطن على حد تعبيره. وسبقه تعهد سلفه محمد منصف المرزوقي، بحراسة الديمقراطية، ودعوته لتشكيل ما وصفه ب" حراك شعب المواطنين" ووصف الحراك الذي أعلنت شخصيات سياسية وثقافية الانضمام إليه بأنه أهم من الأشخاص ومن الأحزاب ومن الأرقام . وأن مهمته هي " التصدي للإستبداد". وأكد على أن " مشكلة التونسيين هي معالجة الفقر وليس الصراع الآيديولوجي" وأوضح بأن المجتمع المدني القوي، والأحزاب السياسية " مسؤولة على مواصلة مسيرة الحريات والتداول السلمي على السلطة" وأنه "لا المال الفاسد ولا الإعلام المنحاز يمكنه أن يغير وجهة التاريخ"

 

حركة النهضة الحزب القوي في البلاد والذي يتمتع ب69 نائبا في البرلمان، عبر زعيمها راشد الغنوشي، عن رؤية الحركة لمستقبل تونس السياسي، من خلال تشكيل حكومة وحدة وطنية تجمع مختلف الأطياف السياسية باعتبارها ضمانة لنجاح التجربة الديمقراطية للبلاد. لا سيما وأن البلاد تعاني من ديون تقدر حاليا ب 7 مليارات من الدنانير التونسية{ اليور ديناران تقريبا } وستصل هذه الديون في سنة 2015 م إلى 9 مليارات. وهو ما يكلف الدولة 50 في المائة من الناتج القومي الخام. وهذا الرقم مرشح للزيادة ليصل إلى 60 في المائة من الناتج القومي الخام. علاوة على عجز الميزانية بحدود 9 في المائة وسيصل هذا العجز إلى 12 في المائة سنة 2015 م. مع نسبة فقر تقدر بأكثر من 24 في المائة ، وهناك مناطق تصل فيها نسبة الفقر إلى 50 في المائة{ سليانة، في الشمال الغربي}.

 

هذه المعطيات تفيد بأن من ينزع للاستبداد سيضع هذه الحقائق أمامه وبين عينيه، فضلا عن كون المجتمع التونسي، امتلك الجرأة ، ويرفض العودة إلى بيت الطاعة، والركون إلى الإستبداد الذي يرغب فيه البعض وأشار إليه السبسي في كلمته يوم 24 ديسمبر في فندق باريس بالعاصمة التونسية .

 

لا ننسى أيضا، أن { المنظومة السابقة } عادت إلى تونس عبر الإنتخابات، وهو سياق مختلف تماما عن أي بلد آخر، وبالتالي فإن الإنتظارات والمآلات ستكون مختلفة بالضرورة . وفي ظل وجود جيش لا ينزع للانقلاب ولا يتهافت على السلطة، { وهي حقيقة تصب في نفس خانة الإطمئنان }، فإن المسار الإنتخابي الديمقراطي لن تضره رغبات بعض الأمنيين الذين  عناهم الباجي قايد السبسي في خطابه . وهناك مؤشر آخر يصب في إطار الإستقرار، وهو أن البعبع الذي يخاف منه بعض التونسيين أو يخوفون به مهدد هو الآخر بالتصفية الجسدية، باعترافه وإقراره وجدد ذلك قبل الإنتخابات وبعدها.

 

التحدي الحقيقي، هو وجود من لا يتعترفون بالتعددية السياسية الكاملة داخل ، نداء تونس، ذاته، وتحديدا الشق اليساري، الذي خرج من أصوله التنظيمية وانضم للديكتاتورية والإستبداد لتحقيق مآرب شخصية ، ثم آيديولوجية وهم من عرفوا باليسار الوصولي الإستئصالي الانتهازي ، وهم من يحرصون على عدم اشراك حزب حركة النهضة، في الحكومة القادمة، ويفضلون الجبهة الشعبية ، للاستيلاء على نداء تونس، وربما الحكم إلى الأبد، وهم بذلك يجسدون المثل التونسي" أحلام تيوس" .

 

من المؤكد أن الصورة ستتضح أكثر بعد تشكيل الحكومة القادمة، فإذا اختار{ النداء } الجبهة الشعبية ، وغلب الشق اليساري ، بقية الطيف بالحزب، فإن خمس سنين عجاف ستشهدها تونس وعلى كل المستويات، وإذا كانت النهضة ممثلة في الحكومة القادمة فإن ذلك مؤشر على تواصل المسار الانتخابي والحريات والديمقراطية، مع استقرار سياسي واقتصادي. أما إذا أقصي الطرفان ، الجبهة الشعبية، وحركة النهضة من تشكيلة الحكومة فهذا يقوي المجتمع المدني والمعارضة التي ستكون بجناحيها اليساري والإسلامي أفضل ضمانة لاستمرار المسار الانتخابي الديمقراطي، مع قلاقل اجتماعية، وتواصل الاضطرابات بزخم أكبر لا سيما في ظل ارتفاع متوقع للأسعار، وتجميد للأجور، وتراجع عن دعم السلع الأساسية.. ولا يعرف مسار التطورات الأمنية في ظل إقصاء الجبهة الشعبية، وحزب حركة النهضة من الحكم، وانعكاس ذلك  على الرأي العام، وموقف الشعب من المستجدات في حينها.

 

ويمكن لتشكيلة الحكومة بعد اعلانها أن تشرح أكثر الوضع الضبابي الحالي، الذي لا يمكن أن يستشف منه، لا عودة إلى الإستبداد، ولا استمرار للمسار الثوري الديمقراطي، فكل الاحتمالات واردة ، وكل السيناريوات متوقعة، واليقظة واجبة لأن تجارب الثورات تفيد بأن عقب كل ثورة هناك ثورة مضادة، تتسم بالعنف في الغالب . وقد عاد آل البوربون لحكم فرنسا بعد الثورة الفرنسية ، واستطاع الجنرال التشيلي الانقلاب على سلفادور الليندي الذي وصل للحكم عبر صناديق الإقتراع، وعادت اسبانيا ديمقراطية بعد فرانكو. والربيع الاوروبي كان داميا وفوضويا ولم تستقر الأمور إلا بعد مرور الكثير من الوقت ، وثورات شرق أوربا وجدت لها مستقرار بعد بعض القلاقل، لكنها الآن أفضل مما كان .