ظاهرة تجارة البشر بين التوحش المعاصر و المعالجة الإسلامية
2 محرم 1436
د. عامر الهوشان

لظاهرة الرق والتجارة بالبشر تاريخ طويل غائر في القدم , فتاريخ هذه الظاهرة هو ذاته تاريخ استغلال الإنسان لأخيه الإنسان , ولذلك فلا غرابة إن علمنا أن آلاف السنين هو تاريخ مولد هذه الظاهرة , وأن جميع الأمم السابقة على الإسلام قد عرفت هذه الظاهرة , وأن الفراعنة وفارس والرومان واليهود والهنود القدماء والإغريق واليونان وغيرهم كانوا يمارسون استعباد الإنسان بأبشع الصور .
ولم يختلف الحال عند عرب الجاهلية قبل الإسلام , فقد كان مألوفا أن تتخذ القبائل المنتصرة من أطفال ونساء القبائل المهزومة عبيدا وجواري , كما كان بعض مشاهير مكة كعبد الله بن جدعان من تجار الرقيق , كما تذكر لنا كتب السيرة النبوية عددا من الصحابة كانوا عبيدا قبل الإسلام منهم : زيد بن حارثة وبلال بن رباح وعمار بن ياسر ووالديه وغيرهم .
توحش الظاهرة في العصر الحديث
في الوقت الذي يزعم فيه الغرب أنه أضحى قاب قوسين أو أدنى من إنشاء مدينة أفلاطون الفاضلة على أرض الواقع في القارة العجوز , وذلك من خلال الادعاء بحماية حقوق الإنسان , والرقي بحريته من درك العبودية إلى الفردية المطلقة , تتوالى التقارير الدولية التي تدق ناقوس الخطر من تنمر وتوحش تجارة البشر في العالم , على يد مافيا وعصابات غربية ويهودية بالدرجة الأولى .
وفي الوقت الذي يحاول فيه أعداء الإسلام بكافة أطيافهم الهمز واللمز بظاهرة الرق التي كانت موجودة قبل الإسلام , والتي استمرت بضوابط خلقية ولفترة محدودة بعد ظهور هذا الدين العظيم , ومحاولة الطعن بملك اليمين الذي لم يكن للإسلام أي دور في ظهوره , بل كان لهذ الدين الحنيف الدور الكبير في تجفيف منابعه وإلغائه فيما بعد .
في هذا الوقت نجد الغرب غارقا بتجارة البشر إلى أذنيه , وموغلا في تحقير كرامة الإنسان الذي كرمه الله تعالى على سائر خلقه , ومسرفا أيما إسراف في إهانة الإنسان والانحطاط بإنسانيته وكرامته , الأمر الذي يؤكد أن تجارة الرقيق في العصر الحديث قد وصلت في توحشها وتنمرها إلى درجات لا توصف .
فبينما يظن الكثيرون أن العبودية قد انتهت في العالم بتحريمها داخل الإمبراطورية البريطانية ككل عام 1834م , وتحرير قيصر روسيا العبيد في بلاطه في ستينات القرن التاسع عشر , أو بتحرير العبيد في مزارع القطن في الولايات الجنوبية للولايات المتحدة بمبادرة من الرئيس ابراهام لينكولن، إلا أن الحقيقة تنطق بعكس ذلك , وتؤكد أن زمن العبيد أو “الاستعباد” عاد مرة أخرى وبصورة أكثر شراسة على أيدي مافيا تجار البشر.
تغول ظاهرة تجارة النساء
فقد عادت في صورة تجارة النساء في سوق (نخاسة جديد) في أسواق أوروبا، وعادت في صورة بيع أطفال ونساء من بعض الدول العربية التي تشهد حروبا خصوصا العراق وسوريا ، والأخطر أنها عادت في صورة تجارة العبيد .
وليس هذا الكلام على عواهله , بل هناك تقارير دولية تتحدث عن ارتفاع معدل قضايا الاتجار بالبشر في دولة الإمارات العربية المتحدة على مدار الأعوام الثلاثة الماضية، منها 43 قضية، , تم فيها توريد فتيات للعمل في تجارة الجنس من قبل عصابات تحت ستار العمل لدى شركات .
ومن الإحصائيات الحديثة حول هذا الموضوع , تشير دراسات لمؤسسات بحثية أن هناك نحو مليوني إنسان يتم الاتجار بهم سنويا أغلبهم من النساء والأطفال لأسباب متعددة ومعقدة ومتداخلة أهمها : سرعة الأرباح والتكلفة البسيطة، حيث يبلغ سعر الضحية من 2000 إلى 10000 دولار فضلا عن أن مخاطر المقاضاة الجنائية تكون ضئيلة في معظم الدول.
كما تقدر منظمة العمل الدولية وجود ما لا يقل عن 3.12 مليون إنسان يعيشون تحت شكل من أشكال العبودية في عالمنا اليوم، وتؤكد أحدث دراسة صادرة عن مركز دراسات اللاجئين بجامعة أكسفورد البريطانية أعدها «هيذر مونتغمري» و«سادي ساس كروبوني» و«روز انفانز» أن تجارة البشر تعد ثالث أكبر نشاط إجرامي بعد تجارتي السلاح والمخدرات، بل والأسرع نموا، وأن 98% من الضحايا هم من الفتيات والأطفال، وأن أرباحها تقدر بنحو 28 مليار دولار سنويا.
وتشير إحصائيات منظمات دولية أن ما بين 200 ألف إلى 500 ألف امرأة وفتاة يعملن في سوق الدعارة بأوروبا، وتقول إحصائية أخرى صادرة عن وزارة الداخلية الأوكرانية أن حوالي 400 ألف امرأة وفتاة دون سن الثلاثين غادرن أوكرانيا خلال السنوات العشر الماضية عن طريق عصابات المافيا، التي استغلت ظروفهن الاجتماعية والاقتصادية.
وقدرت المصادر البريطانية أنه تم تهريب أكثر من 4000 امرأة إلى بريطانيا وحدها، للدعارة في عام واحد، كما تشير إحصائيات أخرى أن خمسة آلاف شخص يقعون ضحايا للاتجار بالبشر في بريطانيا سنويا، وهذا بخلاف باقي الدول الأوروبية .
بل إن أحدث طريقة لتملك الضحايا من البشر في سوق النخاسة الدولية لجأت إليها أعتى الشبكات العالمية الخطيرة مؤخرا، بحسب وكالة الجريمة الوطنية البريطانية NCA، هي وشْم سماسرة الجنس ضحاياهم، لتأكيد ملكيتهم قبل بيعهم بآلاف الدولارات.
حيث أكد “ليام فيرنون”، رئيس مركز الاتجار بالبشر في المملكة المتحدة، إن هذه هي الطريقة المعتمدة من قبل المتاجرين بالنساء في أوروبا والولايات المتحدة، بحيث تصبح المرأة سلعة تباع وتشترى من خلال هذا الرمز الالكتروني المعروف بـ “بار كود”، حسبما نقلت عنه صحيفة “اندبندنت” البريطانية.
وأكدت صحيفة “اندبندنت” في تقرير نشرته 30 سبتمبر الماضي 2014 تحت عنوان: “Human traffickers’ victims ‘branded like cattle” أن الضحايا يجلبون إلى بريطانيا للعمل في تجارة الجنس، ويباعون بأسعار تتراوح بين 200 و 6 ألاف جنيه إسترليني .
لقد أصبح الإنسان في ظل الحضارة الغربية الحديثة المزعومة التي يريد نشرها في العالم , أقل شأنا من الحيوان وأرخص منه ثمنا في كثير من الأحوال , فهو يوشم كما توشم المواشي , ويباع بثمن بخس قد لا يصل إلى سعر المواشي في كثير من الحالات !!
تنمر ظاهرة تجارة الأطفال
تشير إحصائيات الأمم المتحدة أن تجارة البشر من الأطفال تصل إلى 2.46 مليون، وأنه يجري استغلال الأطفال الذين يولدون في أوروبا بدون والدين محددين، ففي روسيا هناك أكثر من مليون طفل بدون والدين، ويزيد هذا العدد كل عام، بسبب الفقر والعجز الاقتصادي، كما تتخلى النساء في براج" عن 20 ألف طفل سنوياً.
ويمثل هؤلاء المشردون من الأطفال سوقاً رائجة لعصابات مافيا تجارة الرقيق الأبيض، في أوروبا والولايات المتحدة وكندا، الذين يضعون للأطفال أسعاراً وفق مواصفات معينة،
وأكدت دراسة قامت بها «جمعية حقوق الطفل» التابعة للأمم المتحدة بيع 20 مليون طفل خلال السنوات العشر الأخيرة، كما فقد 12 ألف طفل من البوسنة أثناء الحرب، بعدما تعرض أهاليهم للخداع من قبل عصابات الجريمة المنظمة مثل منظمة تدعى «سفارة الأطفال» يرأسها صربي، خدعت الأهالي أثناء الحصار بأنها تريد توفير أماكن آمنة للأطفال خارج البوسنة، وأنها ستعيدهم إلى ذويهم بعد ذلك، ولكن تم بيعهم لعائلات وكنائس في أوروبا .
وتعتمد شبكات الرقيق الأبيض في جلب الأطفال أساليب عدة، منها: سرقة الأطفال حديثي الولادة من المستشفيات والادعاء بأنهم ماتوا، إضافة إلى شراء الأطفال من ذويهم كما يحدث في ألبانيا حتى الآن، حيث يباع الأطفال الألبان في سن مبكرة بسعر يتراوح بين 6 و15 ألف يورو، لاسيما إلى الإيطاليين والفرنسيين والألمان.
وقد أدت الحروب التي وقعت في العراق وسوريا لفتح الطريق أمام تجارة البشر، حيث هاجر من سوريا أكثر من مليوني مواطن باتجاه الدول المجاورة كتركيا والأردن ولبنان والعراق , ومن فضّل منهم الهجرة صوب الدول الأوربية وقعوا ضحية جشع واستغلال عصابات دولية يرسلونهم إلى الموت.
معالجة الظاهرة بين الغرب والإسلام
بينما اقتصرت المعالجة الغربية لهذه الظاهرة الخطيرة بسن القوانين الوضعية غير الرادعة , مع وجود الكثير من الثغرات التي تجعل من الإفلات من العقاب , بل والإفلات من المساءلة الجنائية أصلا أمرا ميسورا وسهلا , الأمر الذي أدى إلى تضخم هذه الظاهرة في الغرب , حتى أضحت غولا بشكل شركات وعصابات ومافيات تتجاوز الحدود والقارات , لتمارس أبشع جريمة بحق الإنسانية على مر التاريخ .
نجد المعالجة الإسلامية لهذه الظاهرة معالجة متأنية متدرجة , تضع نصب عينيها تحرير الإنسان من العبودية التي كانت سائدة قبل ظهوره , ضمن منهج واضح هو "التحرير" بخطوات هادئة ولكنها ثابتة .
لقد بدأ الإسلام من الناحية الفكرية بتغيير النظرة الاستعلائية بين الإنسان وأخيه الإنسان , موضحا أن منهج الإسلام في اعتاق العبيد ينطلق من العقيدة الإسلامية التي تجعل الناس جميعا سواسية , كلهم لآدم وآدم من تراب , وأنهم عبيد لله تعالى وحده , لا فضل لعربي على عجمي ولا لأبيض على أحمر إلا بالتقوى والعمل الصالح , وقد وضع بذلك اللبنة الأولى على طريق تحرير الرقيق والعبيد .
كما اتبع الإسلام أسلوب التدرج للقضاء على هذه الظاهرة مراعاة للحالة الاجتماعية التي كانت سائدة قبل الإسلام , فقد كان ثلاثة أرباع العالم من العبيد والربع فقط من السادة , فلا بد والحالة هذه اتباع أسلوب التحرير تدريجيا , مراعاة للحالة الاجتماعية والاقتصادية التي ستترتب على ذلك , والتي يدركها تماما علماء الاجتماع والاقتصاد .
كما أن منهج الإسلام في التدرج في سبيل "التحرير" لم ينس وضع الشروط والضوابط التي تكفل للمملوك حياة كريمة ريثما يصل إلى حريته الكاملة , فوضع الإسلام الكثير من القواعد التي تبين كيفية معاملة العبد الغلام أو الجارية معاملة جيدة , بعدم تحيله فوق طاقته في العمل , وإطعامه والإحسان إليه , وتنذر من يخرج عن هذه الضوابط بالعقوبات الدنيوية والأخروية .
كما أن "تجفيف منابع الرق" كان من أبرز وأعظم معالم المنهج الإسلامي لمعالجة ظاهرة الرق , وذلك من خلال تحريم وتجريم استعباد الأحرار بأي وسيلة كانت , قال صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي الصحيح : ( قال الله تعالى : ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة ، رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حُرَّاً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره ) صحيح البخاري برقم 2270, وبذلك أوقف الإسلام تدفق رافد جديد من روافد الرق إلى هذه الظاهرة الخبيثة .
وأخيرا وليس آخرا فتح المنهج الإسلام أبواب العتق على مصراعيه , وذلك من خلال نظام الكفارات على جميع المخالفات التي قد يقع فيها المسلم صغيرة كانت أم كبيرة , بالإضافة إلى نظام التدبير والمكاتبة التي تمهد لتحرير العبيد , ناهيك عن جعل مصرف من مصارف الزكاة لإعانة المكاتبين لإتمام إجراءات تحريرهم كما يقول بعض العلماء .
فأين هذا المنهج الإلهي الإسلامي في القضاء على ظاهرة الرق التي كانت منتشرة قبل الإسلام , من التدابير الهزيلة والضعيفة التي يزعم الغرب اتخاذها لتحجيم تضخم هذه الظاهرة , فضلا عن إيقافها أو القضاء عليها .