رُجُولةُ الأطفالِ وَطُفُولةُ رجال !
19 ذو الحجه 1433
د. عبد المجيد البيانوني

نموّ الإنسان آية من آيات إبداع الله تعالى ، وجليل حكمته ، ومرآة تجلّيات أسمائه وصفاته .. لاحظ طفلك الصغير وهو ينمو ويترعرع ، وأمعن النظر في تصرّفاته ، وفكّر في بواعث حركاته ومواقفه تخرج بنتيجة واضحة : أنّه أنانيّ مفرط في الأنانيّةِ وحبّ الذات .. يرى أنّه أهمّ ما في الوجود ، وكلّ شيء حوله يجب أن يكون له ، أو يدور في فلكه .. كلّ مَا له من شعور وفكر ، وعمل وسلوك ، ورَغبات ومطالب فإنّما هي موجّهة نحو ذاته .. ولإشباع هذه : " الأنا " المفرِطة .. وعلى هذا الشعور العميق تقوم فطرة حبّ التملّك ، والرغبة في الاستئثار بكلِّ شيء ..

 

ويخطئ كثير من الآباء والأمّهات عندما لا يقبلون هذا الشعور من الطفل ، وينكرونه عليه بشدّة ، ويريدون إلغاءه من حياته بكلّ ما أوتوا من قوّة ، ممّا يزيد الطفل تعلّقاً بما هو عليه ، ودفاعاً عن مواقفه وتصرّفاته ، بصورة لا شعوريّة .

 

ولاحظه بعد ذلك في مرحلةٍ لاحقة ، تجده يتحوّل شيئاً فَشيئاً من هذه : " الأنا " المفرِطة التي لا يعرف غيرها ، إلى الشعور بـ : " نحن " ، مع الشعور " بالأنا " ، ثمّ الشعور بالآخرين ، مع الشعور بـ : " الأنا " و " نحن " ، ويبدأ يشعر أيضاً أنّ إرادة الآخرين قد تتعارض مع إرادته ، ومع إرادة : " نحن " .. وهذا نموّ فطريّ سويّ ..

 

فهو يشعر بأمّه أوّلاً ـ على سبيل المثال ، إذ هي أقرب شيء من العالم إليه ـ يشعر بها على أنّه جزء منها ، ثمّ يتحوّل شعوره بها على أنّها جزء منه ، يتبع رغباته ، ولا شغل له إلاّ تحقيقها ، وربّما يكُون من سلوك الأمّ المفرط في التدليل وتلبية الرغبات ما يؤكّد له ذلك ، ويعمّقه في نفسه ، ثمّ يمتدّ شعوره ليشمل من يحيط به ممّن هو في دائرة ألـ : " نحنُ " ، ثمّ تتّسع دائرة شعوره وتمتدّ ، فيبدأ يشعر بأمّه لا على أنّها جزء منه ، ولا من خلال الشعور بـ : " نحن " ، وإنّما هي جزء من العالم الذي يعيش فيه .. وهنا تراه يبتعد عنها ، بينما كان لا يطيق فراقها ..

 

وبينما كان لا يعرف إلاّ إرادته ورغباته فقد بدأ يشعر بإرادة الآخرين ورغباتهم ، وأنّها قد تختلف مع إرادته ورغباته وتصطَدِم ..
وبينما كان لا يعرف إلاّ لغة الأخذِ والمطالبة ، فقد بدأ يعرفُ لغة الأخذِ والعطاء ..

 

ثمّ يدخل طوراً آخر عندما يعرف أنّ ما يُحبّ ويرغب لابدّ له فيه من المعاناة وبذل الجهد ، وأنّ الحياة لا تقفُ عند لُغةِ ما يُحبّ الإنسان ويرغب ، وإنّما هناك لغة الواجبِ ، الذي يُسألُ عنه ، ويطالَب بتأديته ، ويجازى بفعله ، أو يعاقب على تركه ..

 

وإنّ أهمّ معيارٍ لنجابةِ الطفلِ أن تنضج في نفسه فكرةُ " نحنُ " و " الآخرين " ، بصورة سويّة متوازنة ، ويحسِنَ التعامل معَها منذُ مرحلةٍ مبكّرة ، إذ إنّها تنبني عليها أخلاق وقيم ، تشكّل شخصيّة الطفلِ ، وتبني كيانه المستقبليّ المتميّز ..

 

وإذا ظهر هذا الوعي في الطفل منذ مرحلة مبكّرة ، وظهرت فيه هذه النجابة فأمّل له المستقبلَ المشرقَ بإذن الله ، وما أصدق هذه الكلمة : " إذا أشرقت البدايات أشرقت النهايات " : " ومن لم تكن له بداية مُشرِقة لم تكن له نهاية  مُغدِقة " .

 

ولا يخفى أنّ هذه الأطوار التي يمرّ بها الطفل ، ليست مُنفصلةً مُتمايزة ، وإنّما هي مُتّصلة متداخلة ، متمازجة متقاربة ، وهي تختلف شدّةً ونوعاً من طفل إلى آخر .. كما تختلف المدّة التي تتطلّبها من طفل إلى آخر ..

 

وكلّما نمى عقل الطفل ، وازداد علمه ووعيه ، وسمَت نفسه ، وأرهفَت مشاعره ، واتّسعت آفاقه ، ضمرت مشاعر " الأنا " المفرطة واعتدلت ، وتهذّبت أخلاقها وصفاتها ، واحتلّت مساحتها " نحن " ، بأخلاقها وصفاتها . 

 

فإذا اكتمل عقل الإنسان ، وبلغ أشُدَّه تمايز الناس ، ثلاثة أصناف : فكان منهم عظماء الرجال ، ومنهم عامّة الناسِ ، ومنهم أشباه الرجال ولا رجال .. فعظماء الرجال هم المحسنون أهل الفضل ، الذين يرون العطاء والبذل هو الذي يحقّق ذاتهم وطموحهم .. وعامّة الناسِ هم أهل العدل ، وربّما غلبتهم " الأنا " المفرطة فجاروا ، فاحتاجوا إلى من يردّهم إلى العدل ، وأشباه الرجال هم أهل الظلم والجور ، وربّما كان منهم العدل عندما يرون فيه مصلحتهم العاجلة ..

 

ولاشكّ أنّ الأنا الفرديّة نعمة في الأصل ، عندما تكون دافعاً إيجابيّاً ، لأنّ فيها نفعاً للجنس البشريّ كلّه ، على أن لا تخرج عن حدّها إلى أثرة بغيضة مفرطة .. فهناك الأنا الفرديّة المرَضِيّة ، والأنا الفرديّة السويّة ، التي تقوم على الاهتمام بالخصوصيّة ، وتحمّل المسئوليّة ، والسلوك الإيجابيّ ..

 

فأمّا عظماء الرجال فهم الرجال بحقّ ، والرجالُ قليلُ ، وهم الذين ذابت من نفوسهم مشاعر " الأنا " وامّحت ، واكتملت مشاعر " نحن " بأخلاقها وصفاتها ، فهم لا يرون لحياتهم قيمة إلاّ إذا ارتبطت بحياة الناس ، والعمل على إسعادهم ، قد وضعوا نصب أعينهم العمل لإصلاح الناس وترقيتهم ، روحيّاً ونفسيّاً ومادّيّاً ، ترى كلّ واحدٍ منهم واسع النظر ، عميق الفهم ، رحب الصدر ، متسامحاً لا يعرف العصبيّة لرأي أو حزبٍ أو فئة ، يُقَدّم مصلحة الآخرين على مصلحته ، وحقّهم على حقّه ، فيضحّي براحته ووقته في سبيل إسعادهم ، ويرى أنّ ما ينال من حظّ روحيّ بذلك يفوق أضعافاً مضاعفة ما يبذل من حقّه ، ويترك من حظّه ..

 

وعظماء الرجال ربّما كانوا أطفالاً من حيث الصورةُ الظاهرة ، ولكنّهم من حيث الحقائق التي يحملونها ، والقيم التي يعونها قد سبقوا كثيراً ممّن هم في صورة الرجال ..
ولقد عرفت هذه الأمّة نماذج فذّة من رجولة الأطفال المبكّرة ، وأعني بالرجولة النضج ، وما يقترن به من نبوغ علميّ أو عمليّ ..

 

اقرأ من سير هؤلاء سيرة عبد الله بن الزبير ، وسيرة عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز ، وسيرة أمّ المؤمنين الصدّيقة بنت الصدّيق السيّدة عائشة ، وغيرهم كثير  ..
ويتسامى عظماء الرجال ويتفاضلون ، حتّى يكون منهم المصلحون الكبار ، الحكماء الراشدون ، المهتدون بهدي الأنبياء والمرسلين .. وأعلى العظماء شأناً وشأواً : الأنبياء والمرسلون ، فهم الأسوة العظمى للخلق كافّة ، لأنّهم قد خرجوا عن حظوظ أنفسهم ، ولم يتحرّكوا في الحياة لأجلها ، وعاشوا حياتهم للغاية الكبرى التي خلقوا لها ، دعاة للخلق إلى ربّهم ، وهداة للعباد إلى ما يسعدهم في دنياهم ، وينجيهم في آخرتهم ، وكانوا منارات لمن بعدهم .. ولم يبالوا بما نالهم في الله من أذى الخلق واستهزائهم ، وكيدهم وافترائهم ..

وأعلى المرسلين شرفاً وقدراً سيّدُنَا محمّد  ، الذي أثنى الله عليه بالخلق العظيم ، وجمع له كمالات الأوّلين والآخرين ، وجعل شريعته خاتمة الشرائع إلى يوم الدين .. فقد كان  لا يغضب لنفسه ، ولا ينتصر لها ، وإذا انتهكت حرمات الله لم يقم لغضبه شيء .. ولم يصدّه عن نفع الناس ، والحرص على هدايتهم شيء ..

 

وأمّا عامّة الناسِ ، فهم الذين تتقارب في نفوسهم وسلوكهم ومواقفِهم : " الأنا " مع " نحن " ، فلا يتخلّون عن " أنا " في سبيل الآخرين ، كما لا يتنكّرون للآخرين انسياقاً وراء ذواتهم ، وربّما مالت الكِفّة بهم ذات اليمين أو ذات الشمال ، ولكنّهم عندما ينساقون وراء أنانيّتهم في موقف من المواقف يشعرون بإسفاف نفوسهم ، وتدنّي مستواهم ، ويحسّون بعذاب ضميرهم ، وتأنيبه لهم .. فهم بين شدّ وجذب ، لا يزالون يغالبون نزعات الطفولة في أنفسهم ، ويرون ضرورة التسامي عليها ، ويتطلّعون إلى حياة العظماء ، ويرغبون في بلوغها .. وهؤلاء لعمر الحقّ على خير عظيم ..

 

وأمّا أشباه الرجال ولا رجال ، فهم الأطفال في صورة رجال ، وليتهم كانوا ببراءة الأطفال ، ولكنّهم بتشوّه صورة الرجال ، قد نمت أجسَامُهم ، وامتدّت سنواتُ حياتهم ، وربّما ملكوا الأموال الطائلة ، وتمتّعوا بالجاه العريض ، وكانوا على علم من علوم الدنيا ، ولكنّهم لا يزالون يعيشون الطفولة العقليّة في نفوسهم ورغباتهم ، يفرحون بما يفرح به الأطفال ، ويحزنون لما يحزن له الأطفال ، ويتعلّقون بالحسّيّات ومتعها ، ويقنعون بها ، ويقيمون لها أكبر الوزن والاعتبار ..

 

فعندما يفرح الطفل بلعبة العيد ، والثوب الجديد ، والحلوى التي يحبّها ، وشيءٍ من المال يجده بين يديه فهذا أمر معقول مبرّر ، أمّا أن يكون فرح الكبير بمثل فرح الطفل الصغير ، لا يزيد عليه ولا يتجاوزه ، فهذه هي " الطفولة العقليّة والنفسيّة " عينها .!

 

إنّهم لا يزالون يعيشون " الأنا " في أخصّ أنانيّتها ، التي لا تعترف بأحدٍ سواها ، وتريد من الناس جميعاً أن يعملوا لأجلها ، ويقنعون من الحياة أن يدوروا في فلكها .. وهم الذين ينطبق عليه وصف الشاعر : " جسم البغال وأحلام العصافيرِ " ..

 

ترى أشباه الرجال معجبين بأنفسهم مغرورين ، مخدوعين بأشياء الدنيا الحسّيّة ، لا يعجبهم في الناس شيء ، ولا يرضيهم عمل ، دأبهم الاشتغال بعيوب الناس ، ونقدهم وتجريحهم ، وربّما أتوا أسوأ ممّا انتقدوه في الناس ، وعابوهم به .. إنّهم الذين وصفوا في القرآن أنّهم مردودون إلى أسفل سافلين ..

أشباه الرجال لا همّ لهم إلاّ شهوات البطون والفروج ، وما يدور حولها ، وشهوة البغي في الأرض ، والتسلّط على الناس ..
وما أكثر أشباه الرجال في حياتنا ، الذين يتبوّءون مراكز القوّة والتأثير .! ويلتفّ حولهم الغوغاء والدهماء ، ومرضى القلوب من المتزلّفين ، ممّا يزيدهم غيّاً وضلالاً ..

وينبغي أن يعلم أنّ الحياة ملأى باختبارات الطفولة والرجولة ، ومن نجح في اختبار تأهّل لاختبار آخر ، ولا يزال الطفل يسمو برجولته المبكّرة حتّى يكون في مصافّ العظماء ، ولا يزال الرجل تسفّ به طفولته حتّى يكون من أموات الأحياء .. ولا سواء بين مراتب الأحياء ، فالمرء حيث يضع نفسه ..