الحرية ..البيئة المثلى للإنجازات
1 ربيع الثاني 1432
د. خالد رُوشه

[email protected]

لا يستطيع الإنسان مهما أوتي من قدرات وإمكانات أن يقوم بدوره في بناء حياته ومجتمعه دون أن يكون طيب النفس مستطيعا أن يعبر عن ذاته , ممتلكا لحقوقه , يستشعر الأمن الذاتي والمجتمعي , غير خائف ولا قلق ولا مهدد  , وإلا ظهر منه التراجع والضعف , والتخاذل عن المواقف الإيجابية , وبدا منه النكوص عند تقاطعات الطموح والتقدم .

الحرية إذن هي ذلك المعنى الذي أتحدث عنه لكي يكون أحدنا إيجابيا صالحا , ولكي يستطيع أن يمد ساعدا ليدفع عجلة البناء لأمته , إنها القلب الخافق للمجتمعات الحية المنجزة , وهي البيئة المثلى لنمو الإمكانات الناشئة , وإنبات الإبداعات الخفية , وإعداد القادة والعلماء والمفكرين  .

 

الإنجازات لايمكن أن تبرز بينما المرء لايشعر بذاته ولا يتمتع باستنشاق هواء نقي حر , فالإنجازات ناتج جهد وعطاء وابتكار ومثابرة وكلها معان تعتمد على الثقة في النفس ووضوح الهدف والشعور بالقدرة على الوصول إليه وتحقيقه .

وإنجازات الأفراد لبلادهم وأممهم لايمكن أن تحدث مادام الأفق أمامهم مسدودا فلا يستشعرون بقدرتهم على تأمين إنجازاتهم ولا نشرها كما يريدون ولا أن ينفعوا بها شعوبهم ومجتمعاتهم , فالقيد أمام النفس البشرية يحبطها ويخمد طاقتها , وكم من اختراعات وابتكارات وغبداعات سكنت في الأدراج وخيم عليها العنكبوت بخيوطه نتيجة عدم رضا مسئول ما عنها أو تحفظه على شخصية المبتكر أو رجاء انتفاع شخصي من ذلك المسئول , ما كان من نتيجته أمران الأول هجرة العقول البابغة إلى بلاد يسمونها بلاد الحرية والثاني قتل طموحهم ورغبتهم في الإبداع .

 

إسلامنا له موقف واضح من الحرية , حرص عليها كل الحرص , وأبداها في تعليماته الكريمة وعلى لسان نبيه العظيم صلى الله عليه وسلم .
أحاديث كثيرة وتوجيهات نبوية متتابعة تؤكد على المعنى  الذي نقصده , فعن أبي سعيد الخدري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " لا يمنعن أحدكم مخافة الناس أن يتكلم بحق إذا رآه أو عرفه " اخرجه ابن حبان

 

فالخوف لا ينبغي أن يمنع المرء عن قول الحق , بل يجب على المرء أن يربي نفسه وأبناءه على قول الحق بلا مخافة للمخلوقين  , إذ المخافة تبدأ في صناعة قيد على معصم الحرية للإنسان .
وفي حديث مسند أحمد ناحية إضافية لما نريد أن نقوله , فعن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يحقرن أحدكم نفسه أن يرى أمر الله فيه مقالا ، فلا يقول فيه ، فيقال له يوم القيامة : ما منعك أن تكون قلت في كذا وكذا ؟ فيقول : مخافة الناس ، فيقول : إياي أحق أن تخاف " *

 

إنها حرية الكلمة  التي ربى عليها الرسول صلى الله عليه أصحابه , فأدركوا ذلك فخرج أبو بكر وهو خليفة المسلمين يسأل الناس أن يُقوموه إذا اعوج , وخرج عمر يفسح المجال لشاب ليسأله على شيء من خصوصياته وهي ثوبه – الذي لم يكن يمتلك غيره – فيسأله من أين لك هذا !!

 

لقد علمهم حرية السؤال والاستفسار والنصح والتناصح , فيبايع الناس على " النصح لكل مسلم " , وتسأله امرأة عن خصوصيات ذاتية قائلة "الله لايستحيي من الحق  " , وشاب يأتيه بشجاعة نادرة يناقشه في " أن يحل له الزنا ".. وغيرها كثير , ليتعامل الإمام الأعظم والرسول الأكرم مع كل حالة بكل حكمة وسعة صدر , فيعلم المرأة ويطهر قلب الشاب الذي جاءه بمرض الشهوة ويعيد بناء النفوس جميعا ...

لقد تعدى الأمر ذلك , فقد واجه النبي صلى الله عليه وسلم مواقف ممن انتقدوه , وبعضهم هاجمه وآذاه , وبعضهم طلب منه المال بأسلوب فظ غليظ لايليق نبي عظيم , لكنه صلى الله عليه وسلم علمنا في كل موقف درسا جديدا .

ما يشحذ حرية المرء في الإسلام هي عقيدته , تلك التي تشعره بإيمانه الأعمق بربه القادر الذي هو يدافع عن الذين آمنوا وأنه :" لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا " وأن .. ماأصابك لم يكن ليخطئك ...

 

الحرية الإسلامية أيضا هي نوع متميز عالميا من الحريات , فهي حرية تكفل الكرامة والعزة وأخذ الحقوق , لكنها أيضا حرية تحافظ على أمن البلاد والعباد وترعى الأخلاق والقيم , ولا تضر النفس ولا الغير ولا المجتمع ولا مؤسساته  إذ " لا ضرر ولا ضرار "