يا تونُس الخضراء كيفَ خَلاصُنا؟!..
11 صفر 1432
د. محمد بسام يوسف

أكان على الشابّ التونسيّ الثائر (محمد البوعزيزي) أن يُضرِمَ النارَ في جسده، فتبتلعه، لكي يصحوَ نظامُ القتل والقهر والاستبداد، على الحقيقة الـمُـرّة؟!.. التي وصل بِوَحْيِها (البوعزيزي) ورفاقهُ الشباب إلى اقتناعٍ تامّ، بأنّ النار التي ابتلعته، أخفّ وطأةً من نار الظلم والاضطهاد والقمع، التي يمارسها نظام (الحزب الواحد) منذ عشرات السنين، فيسوم بها أكثر من عشرة ملايين إنسانٍ تونسيٍّ سوءَ العذاب؟!..

 

أما كان على الرئيس الفارّ من وجه العدالة: (زين العابدين بن علي)، أن يُفكِّر في لحظة صفاءٍ وتأمّل، يختلسها من سنوات حكمه المستبدّ التي بلغت ثلاثةً وعشرين عاماً.. بأنّ الظلم لا يدوم، وبأنّ الظالم –لا شك- سيقف يوماً وراء مكبِّر الصوت، يخطب في شعبه المقهور، مُسترضياً له، مُستعطِفاً، شاحبَ الوجه، مُرتَـجِفَ القلب والصوت، مُصطَكّ الأسنان، مُرتَعِشَ الساقين؟!..

 

ربما وحدنا –نحن السوريين- نَعي تماماً، معنى أن يُزَجّ آلافُ الأحرار في السجون عشرات السنين، لا يعلم عن مصيرهم أحد من ذويهم أو أبناء شعبهم.. ونحن الذين نعرف معنى سرقة قوت الإنسان ولقمة عيشه وحبّات عَرَقِه.. ونعرف كيف تُهدَر الكرامةُ الإنسانيةُ في أقبية الأجهزة الأمنية.. وكيف تتمرّعُ عصاباتُ الحاكم ومافياته بخيرات الوطن وثرواته، فينشأ فتىً من فتيان العصابة كـ (رامي مخلوف)، لا يبلغ الثلاثين من العمر، وفي أرصدته ما يزيد على ثلاثةٍ وعشرين مليار دولار!.. ونحن الذين نعرف كيف تتحوّل البلاد –بِطُولـِها وعَرضها- إلى مفرخةٍ للفاسدين، ومَصنعٍ للّصوص، ومزرعةٍ لمافيا العائلة الحاكمة، في الوقت الذي تزداد فيه أعدادُ المحرومين والجائعين والفقراء والـمُعدَمين، من أبناء شعبنا، بمتوالياتٍ هندسية.. ونعرف معنى أن تُختَصَرَ الشامُ -بمجدها وتاريخها وحضارتها- بشخصٍ عسكريٍّ استولى على الحكم، بالدبابة التي دفعنا ثمنها من كَدحنا وعَرَقنا ودمنا، لتحرير أرضنا المحتلّة.. ونعرف معنى أن يُحكَمَ بالقهر على أجيال الذراري، للانتقام من الآباء، وعلى الأحفاد، للتشفّي من الأجداد.. ونعرف كيف يُحرَم الرضيعُ الوليدُ من كل حقوقه المدنية والإنسانية قبل أن يولَد، فيُدرَج في القوائم السوداء لأجهزة النظام الحاكم، التي تُمنَع عنه –بموجبها- وثائق إخراج القيد وجواز السفر والهوية الشخصية الوطنية.. نعرف معنى ذلك كله، ونُحسّ به، وتلسعنا أسواطه.. وربما –لشدّة ما نحن فيه- نغبط شعباً كالشعب التونسيّ الشقيق، على (نعيم) زين العابدين بن عليّ، الذي ثار بوجهه أحرارُ تونس، فكان لهم ما أرادوا، بالتضحيات والإصرار، خلال مدةٍ قياسيةٍ لم تتجاوز بضعة أسابيع!..
*     *     *

 

عندما شاهدنا الرئيس الغارب (زين العابدين بن عليّ) يسترضي شعبَه في ساعةٍ فات فيها الأوان.. تذكّرنا (حافظ الأسد)، الذي ثار عليه شعبه في الثمانينيات من القرن الماضي.. تذكّرناه وهو واقف يخطب مرتعداً، ويُقسم بالله يميناً مغلّظة، بأنه يؤدّي الصلاةَ منذ ثلاثين عاماً!.. فلماذا يضع هؤلاء الحكّام أنفسَهم في مثل هذه المواقف، فلا يتّعظون من سُننِ التاريخ التي لا تتغيّر ولا تتبدّل؟!..

 

أثناء خطاب القَسَم، حين أقسم (بشار الأسد) اليمين، في شهر آب منذ أكثر من عشر سنين (فحسب)!.. وَعَدَ شعبَه –الذي تغاضى عن الطريقة التي نُصِّب بها بشارُ حاكماً- بالرفاء والحرية والديمقراطية والحداثة والتحرير والازدهار والإصلاح السياسيّ والاقتصاديّ والانفراج والانفتاح.. لكنه –خلال كل هذه السنين- ما زاد هذا الشعبَ إلا شقاءً وقهراً وفساداً وفقراً وضَياعاً وانتهاكاً لأبسط الحقوق الإنسانية، وضَعفاً وإحباطاً، واستقواءً على دِين الأمة وأصوله وثوابته وتعاليمه وفروضه وواجباته.. فماذا ينتظر (بشار) وأسرته المتسلّطة على البلاد والعباد؟!.. بعد أن رأى بأمّ عينه فرار صنوه (ابن عليّ)، وهو يتنقّل بطائرته في أجواء الأرض، لا يجد مَن يقبل بهبوط طائرته الخاصة -المسروقة من قوت الشعب التونسيّ-.. في أحد مطاراته، حتى من بين أولئك الذين كانوا يدعمون ثباته على كرسيّ الحكم، من الدول الاستعمارية المعروفة!.. فتحوّل البيت الأبيض الأميركيّ بقيادة الرئيس (أوباما) –بقدرة قادرٍ- إلى أكبر مُدافعٍ عن حقوق الإنسان التونسيّ، وهو يصفعنا بتصريحاته المعسولة: [ إنّ أميركة تُشيد بشجاعة الشعب التونسيّ لانتزاع كرامته]!.. وذلك عشية إرسال (أوباما) نفسه، سفيره الجديد إلى دمشق، لتدشين عصرٍ جديدٍ من العلاقات الأميركية مع النظام المستبدّ الحاكم في دمشق!..
*     *     *

 

أهي مصادفة أن يتوجّه الدمشقيّ الأصيل (نزار قباني) منذ عشرات السنين، إلى تونس.. تونس التي تُسطِّر اليوم ملحمةَ الحرية في المنطقة، فيخاطبها بقوله:
 
يا تونُس الخضراء جئتكِ عاشِقاً = وعلى جَبيـــــــــــني وردةٌ وكـِتــــــــابُ
إنّي الدمشقيُّ الذي احترفَ الهوى = فاخضوضَرَت لِغِنائه الأعشابُ
أحْرَقْتُ مِن خَلفي جميعَ مَراكِبي = إنّ الهوى أنْ لا يكونَ إيـــــــــابُ

 

 
ثم يزهو (نزار) بانتسابه إلى دمشق.. دمشق العروبة والإسلام، والمستقبل، فيُفرِّغ ما في جعبته من حُبٍّ لعاصمة الأمويّين، ومن مرارةٍ لما آل إليه أمرُها:
 
قَمَرٌ دمشقِيٌّ يُسافرُ في دَمـــــي = وبَلابِلٌ وسنابلٌ وقِبَــــــــــــــــــابُ
الفُلُّ يبدأ من دمشقَ بَياضُــــــــــهُ = وبِعِطْرِهَا تَتَطَيَّبُ الأطيــــــابُ
مِن أينَ يأتي الشعرُ حين نهارُنا قَمْـ ــــعٌ وحينَ مَساؤنا إرهـــــــــابُ
سَرَقوا أصابِعَنا وعِطْرَ حُرُوفِنــا = فبأيّ شَيءٍ يَكتُبُ الكُتّـــــــــــــــــــــابُ
والحُكْمُ شُرطيٌّ يَسيرُ وَرَاءَنــــا = سِرّاً، فَنَكْهَةُ خُبْزِنَا أستجــــــــــــــــــوابُ

 

 
ويعودُ (نزار قباني) إلى مخاطبة العروس التونسية: (قرطاجة)، التي لا يغادرها شبابُـها:
 
بَحْرِيَّة العينين يـــــــــــا قرطاجــــــةٌ = شاخَ الزّمانُ وأنتِ بَعْدُ شــــــــــبابُ
قرطاجة.. قرطاجة.. قرطاجة = هل لي لِصَدْرِكِ رجعة ومَتَـــــــــــابُ

 

 
ثم ما يلبث أن يُذكِّر بالحال المؤسفة التي وصلت إليها دمشق.. أمّ التاريخ العربيّ الإسلاميّ.. وأبوه:
 
مَاتَت خُيولُ بَني أميّة كلّهــــــا = خَجَلاً، وظَلَّ الصَّرْفُ والإعـــــــــــــــرابُ

*     *     *

 

نتساءل اليوم، ونحن نراقب الأحداث في تونس الشقيقة: هل سيتّعظ الحكّام في دمشق من سيرة (زين العابدين بن عليّ)؟!.. أم سيشقّ الشعبُ السوريّ الأصيل طريقَه، مُقتدِياً بشقيقه التونسيّ، وهو يهتف بما هتفه العملاق (أحمد شوقي) منذ عشرات السنين أمام الدمشقيين، مُـحرِّضاً إيّاهُم على انتزاع حرّيّتهم بجهدهم ودمائهم، مذكِّراً، بأنّ الحرية لها ثمن باهظ، لكنّه -في كل الأحوال- لا يصل إلى قيمة الأثمان التي تدفعها الشعوبُ من كرامتها وإنسانيّتها، حين تسكتُ على اضطهادها وإذلالها والاستبداد بها؟!..
كأنّنا اليومَ بـ (أحمد شوقي) يصرخ في وجوه أهل الشام بكلماته الذهبية:
 
سَلامٌ من صِبا بَردى أرقُّ = ودَمعٌ لا يُكَفْكَفُ يا دمشقُ
وللحرّيـةِ الحمراءِ بــــــــــابٌ = بِكُلِّ يَدٍ مُضَرَّجَــــــــــةٍ يُــــــــــــــــدَقُّ