شباب تونس يحترق.. يجعل أيامك "زين"!
7 صفر 1432
جمال عرفة

ظل التونسيون يقولون في تحيتهم اليومية لبعضهم البعض: "يجعل أيامك زين"، حتي جاءهم الرئيس الحالي زين العابدين بن علي، عام 1987، فأصبحت الكلمة تقال – علي المدونات والمنتديات التونسية - علي سبيل السخرية والتندر وتحاك حولها النكات، وأبرزها قول أحدهم للآخر: "ظللتم تقولون يجعل أيامك زين حتي جاء "زين" !، وقول أم لأبنها : "يجعل أيامك زين" ، فرد عليها:" أكثر من هذا يا أمي"!

 

والحقيقة أن تحول تحية التونسيين اليومية (يجعل أيامك زين) إلي سخرية، وتحية حزن، يرجع لسياسة الإفقار التي تشكو منظمات عمالية وحقوقية من أنها حصيلة السياسات الحكومية نتيجة لتعاظم أوجه الفساد وانسداد أفق الحريات للتونسيين وإطلاق قوات الأمن بصورة شرسة علي الاحتجاجات السلمية بغرض تكميم الأفواه، بحيث لم يعد أمام الشباب العاطل سوى أن يلجأ إلى أسلوب غير مشروع جديد في الاحتجاج الشعبي يعبر عن يأسه من أي إصلاح، وهو (إحراق نفسه) طالما أنه غير قادر علي التكسب وعلي العيش بكرامة ولا الاحتجاج علي أوضاعه عبر احتجاجات اجتماعية سلمية ولا يرى أي تغيير في الأفق!

 

وعندما أقدم الشاب محمد البوعزيزي (26 سنة) على محاولة الانتحار حرقا في التاسع عشر من ديسمبر 2010، احتجاجا على انتقاله لمربع العاطلين (20% نسبة البطالة) بعد منعه من ممارسة عمله كبائع متجول للخضار ومصادرة عربته التي ينفق منها علي 8 من إخوته، لم يكن يدري أنه ستتحرك بموجبه محافظته سيدي بوزيد (265 كيلومترا جنوب تونس العاصمة)، وقرابة ستة مدن تونسية أخرى للاحتجاج مثله ، لينتهي الأمر باستخدام قوات الشرطة الرصاص الحي لقتل المحتجين ونزول الجيش لأول مرة في تونس لحماية المنشآت من غضب المحتجين الذي كانت نيران احتجاجاتهم تستعر كلما ألقي عليها رجال الأمن آلاف الطلقات النارية والقنابل المسيلة للدموع بدعوى الدفاع عن النفس من المتظاهرين!!

 

وتمدد الاحتجاجات لتشمل العديد من المدن الأخرى في تونس بصورة عفوية جاء لأن بئر الغضب كان قد امتلأ عن آخره، فنظمت المسيرات التضامنية والوقفات الاحتجاجية والإضرابات من قبل المحامين والشباب والعمال في تونس العاصمة وبقية المدن التونسية، وكانت المظاهرات تهتف ضد الفساد قبل أن تهتف ضد غلاء الأسعار والبطالة.

 

كان المتظاهرون يهتفون: "العمل استحقاق يا عصابة السراق" و"لا للاستبداد يا حكومة الفساد" و"الأراضي اتباعت ( بيعت )"، قاصدين استيلاء كبار المسئولين علي أراضي الدولة، وهي شعارات ضد كبار المنتفعين والفاسدين في النظام، لهذا ضاق صدر السلطة التونسية بالمقاومة المدنية السلمية غير العنيفة، فاستخدمت العنف بدل احتواء أسباب الاحتجاج، ولم تشفع وعود السلطة المتتالية بتوفير وظائف أو تنمية مناطق معدمة الخدمات، لأن الشعب لم يعد يثق في السلطة لأنه سمع هذا الكلام علي مدار سنوات رئاسة بن علي الـ 24 حتي الآن دون أن يري أي تغيير.

 

ولهذا يفسر حقوقيون وقياديون عماليون استمرار الاحتجاجات الرسمية، على الرغم من وعود التنمية التي قدمها الرئيس والحكومة بغياب الثقة في الحكومة (أولا) وتصاعد استفزازات المؤسسة الأمنية للمحتجين (ثانيا) لحد اقتحام بيوتهم وتحطيم ما بها ومنع إنقاذ مصابين في الشوارع حتي يقضوا أجلهم، وإطلاق النار علي أمهات وبنات دون مراعاة لأي مشاعر، منهم السيدة منال بنت إبراهيم بوعلاقي (26 عاما) وهي أم لطفلين أصيبت بطلق ناري أمام بيتها، في مدينة الرقاب بمحافظة بوزيد، وقتل ما لا يقل عن 10 شبان في محافظة القصرين بحسب مصادر نقابية وحقوقية وبحصيلة إجمالية تصل إلى 15 قتيلا بخلاف من حرقوا أنفسهم يأسا، غير اعتقال وتعذيب المئات من الشباب بعدما هدد الرئيس المحتجين بسحقهم ومحاكمتهم واكتفى بعزل بعض الوزراء والمحافظين بدلا من العلاج السياسي والاجتماعي لأصل المشكلة!

 

وكشفت المواجهات أن غالبية المتظاهرين شبان مؤهلون جامعيا ولا يجدون فرص للعمل مثل الشاب القتيل محمد العماري (25 عاما) الذي يحمل درجة الأستاذية في العلوم الفيزيائية والعاطل عن العمل منذ تخرجه سنة 2009 من جامعة قفصة جنوب البلاد وقد أصيب بطلق ناري في صدره خلال مواجهات دامية بين الشرطة وحوالي ألفي متظاهر.

 

بعبارة أخرى أسهمت الدماء التي سالت في زيادة الاحتقان وانتشار الاحتجاج الذي توافرت له أسباب الخروج للشارع منذ البداية للاحتكام له بعدما انسدت آفاق الحوار وزادت أساليب البطش، فالشرطة كانت تواجه أي مظاهرة سلمية بعنف وتقمعها بالرصاص الحي ما يثير غضب المحتجين ويحولها إلى مظاهرة تحرق وتقذف الحجارة وتخرب ما تطاله يدها في زمرة غضبها، فهذه ليست المرة الأولى التي يواجه فيها التونسيون الفساد ويشكون الفقر والبطالة، فمن قبل خرجوا في ثورة الخبز عام 1984، ثم الانتفاضة المسلحة بمدينة سليمان (40 كلم شرق العاصمة تونس) التي كانت شرطتها تنزع الحجاب عن رأس فتياتها في الشوارع (!)، ثم تمرد واحتجاجات مناطق "الحوض المنجمي والرديف" في ابريل 2008 التي ردت عليها السلطة باجتياح عدد واسع من قوات الأمن لمدينة الرديف، الواقعة بالجنوب الغربي والتابعة إداريا لولاية (محافظة) قفصة، وبينما أهلها غارقين في نومهم، انهالوا على السكان المحتجين منذ شهر بالعصي، وتحولت البلدة إلى ساحة مواجهة مفتوحة، بخلاف اضطرابات المناطق التونسية الحدودية مع ليبيا التي يتندر أهلها بأكلهم علف الحيوانات، والآن "سيدي بوزيد" ومناطق واسعة في الغرب الأوسط امتدت لتشمل العاصمة.

 

الوسيط السياسي غائب
والمشكلة الأكبر – كما يقرر معارضون تونسيون - أن هناك نوعا من التآخي بين الفساد والديكتاتورية وغياب أي قوي سياسية وسيطة أو بدائل للنظام، حتى أن هناك من يتساءلون عن خليفة الرئيس "بن علي" لو غاب عن الصورة لأي سبب، ويقولون أن سياسة إقصاء المعارضين أو أي وجوه بارزة – وهي سياسة متبعة في عدة دول عربية أخرى – تجعل الحديث عن المستقبل غامضا وغير واضح، وتعمق من جذور الإحباط وعدم الثقة لدى المواطنين، وتصيبهم بحالة من الجمود والشلل لا يتصورون معها وسيلة أو مخرج في ظل الظلم والفقر سوى حرق أنفسهم، حتي أصبحت وسيلة حرق الشباب التونسيين لأنفسهم رائجة، ووصل العدد لقرابة 10 شبان وفق مصادر مختلفة، تم إنقاذ بعضهم وتوفي آخرون، ما دفع مفتي تونس للتدخل والدعوة لتحريم الصلاة علي المنتحرين بحرق أنفسهم كي يرتدع الشباب اليائس عن اللجوء لهذا السلوك الاحتجاجي المدمر!

 

وقد أعرب الأمين العام لحزب التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات في تونس الدكتور مصطفى بن جعفر، عن أسفه لغياب الحوار بين الحكومة والقوى السياسية الحقيقية في البلاد، وقال: "للأسف الشديد فإن عقلاء السياسة لا أحد يستمع لهم ، فنحن في (تحالف المواطنة والمساواة) وأحزاب أخرى ومنظمات المجتمع المدني وكل أصوات الاعتدال الحرة والمستقلة عبرت عن رأيها ودعت إلى الحوار الجدي لحل الإشكالات القائمة، لكن للأسف الشديد؛ فإن القطيعة بين السلطة والقوى الحية في المجتمع لازالت قائمة، ولم نلمس من السلطة حتى الآن أي استعداد للحوار مع الناس المحتجين في الشارع على المستوى الجهوي، ولا يوجد أي اتصال بين السلطة وقوى المعارضة الحقيقة على المستوى الوطني".

 

وأكد بن جعفر أن الحلول الأمنية وحدها لن تنهي الاحتجاجات، والقبضة الحديدية لن توقف الاحتجاج الذي له أسباب عميقة ينبغي معالجتها بالحوار الجدي، مشيرا لأن أصوات التعقل موجودة في جميع الجهات السياسية بما في ذلك أروقة النظام لكنها أصوات خافتة وغير مسموعة!

 

العولمة صفعت التعتيم الرسمي
والحقيقة أن الدرس الأبرز الذي يمكن استخلاصه من هذه الاحتجاجات التونسية ، أنه برغم الرقابة المشددة المفروضة على حرية التعبير ووسائل الاتصال من قبل الحكومة التونسية ، فقد فشلت فشلاً ذريعاً في منع وصول الصور وأخبار الاحتجاجات الى محطات التلفزة والصحف في العالم ، بفضل (المواطن الصحفي) الذي بات يستخدم الشبكة العنكبوتية في لعب دوراً كبيراً في نشر المعلومات والصور، وكذلك مواقع التواصل الاجتماعي "الفيس بوك"، وما يبثه النشطاء من مظاهرات واحتجاجات عبر "اليوتيوب" .

 

كما أن مظاهر هذا الفساد الحكومي افتضحت عبر وثائق نشرها موقع ويكيليكس عن تونس، حيث نشر العديد من الوثائق السرية والحساسة عن الفساد في تونس وتجاوزات في ميادين حقوق الانسان بعضها وصفت المحيط العائلي للرئيس التونسي زين العابدين بن علي بانه "اشبه بالمافيا" وان زوجة الرئيس حصلت من الدولة علي ارض كمنحة مجانية لبناء مدرسة خاصة، ثم اعادت بيعها.

 

وقالت الوثائق الأمريكية أن : "الرئيس بن علي يتقدم في العمر ونظامه متصلب وليس لديه خليفة معروف"، وأضافت الوثيقة أن "التطرف لا يزال يشكل تهديداً، وفي مواجهة هذه المشكلات لا تقبل الحكومة لا الانتقاد ولا النصح سواء جاء من الداخل او الخارج، وعلي العكس هي لا تسعي سوي الي فرض رقابة اكثر تشددا، وغالبا ما تعتمد علي الشرطة في هذا " .

 

مشكلة تونس ومعها دول عربية أخرى عديدة تتمثل في كشف هذه الأحداث عن مشهد مستقبلي غامض دموي، وأن ما يجري ليس سوى إنذار للأنظمة السياسية بأن حالة الفقر وإفقار الشعوب بسبب الفساد، وخنق حرياتها، ومنعها من التعبير حتي عن غضبها وقمعها حتي لو احتجت سلميا، وكلها مظاهر تشير لهبات جماهيرية عنيفة من قبل غالبية الشعب غير المسيس أصلا الباحث عن لقمة العيش، وهي مشاهد قد تفوق في عنفها وانتشارها عنف الغضب السياسي أو الاسلامي الذي يظهر من قبل جماعات سياسية أو دينية محدودة وحينها لن تصبح أيام تونس "زين" !.