قبل الانفصال..علماء السودان يدقون ناقوس الخطر
19 محرم 1432
تقرير إخباري ـ خالد مصطفى

قبل أيام قليلة من الاستفتاء على تقرير مصير الجنوب السوداني, أصدرت الرابطة الشرعية للعلماء والدعاة بالسودان فتوى أكدت بطلان مبدأ الاستفتاء، وقالت إنه "لا يحمل أي قيمة شرعية" وطالبت حكومة الخرطوم بتطبيق الشريعة الإسلامية "دون الأخذ بعين الاعتبار ما يقرره الجنوبيون", وقالت الرابطة :إن على الحكومة أن تعي وجود "مخطط يهودي صليبي لتقسيم البلاد إلى خمس دويلات هزيلة بمساعدة المتحالفين من أذنابهم بالداخل." إن فتوى الرابطة تأتي في وقت بدا فيه أن الحكومة السودانية ومعها دول الجوار العربي, التي ستكون أكبر المتأثرين بالانفصال إذا تم, بدا هؤلاء جميعا شبه مستسلمين لما رأوه أمرا واقعا, وظهر ذلك في تصريحاتهم عقب القمة الرباعية التي شهدتها الخرطوم مؤخرا, حيث طالبوا بالهدوء وعدم الرجوع للصراع, ودعوا لاحترام نتيجة الاستفتاء مهما كانت. لقد جاءت الفتوى لتؤكد على أمور بدأ البعض يتناساها في ظل الضغوط الغربية المحمومة, فالمسألة أخطر بكثير من قرار يتم اتخاذه تحت تهديد حركة استئصالية تسعى لمصالحها, ومصالح من تمثلهم في الخارج, ليس من العيب التراجع عن اتفاق قد يزلزل كيان دولة هي الأكبر في أفريقيا ويكرس لمنطق لو تم تعميمه سنكون أمام "سايكس بيكو" جديدة لن تدع دولة في المنطقة تتمتع بمقومات الدولة الحقيقية.

 

إن الحركة الشعبية منذ انطلاقها كانت تخطط للانفصال ولم تستخدم السلاح للحصول على حقوق مهضومة كما ادعت ولكن الغرض الرئيسي كان كيفية سحب الحكومة للموافقة على الانفصال لتكون شوكة في جنبها ويسهل عليها بعد ذلك اجتياح الشمال لو أرادت. فالحركة الشعبية بدأت ذات توجهات اشتراكية في مايو من عام 1983م  ولكن بعد انهيار الماركسية العالمية وسقوط نظام منغستو هايلا مريام الشيوعي في إثيوبيا، تحولت إلى مخلب أمريكي ، ومن أول بيان أصدرته الحركة بيَّنت غايتها النهائية وهدفها الكبير فيه؛ ففي المادة (22) الفقرة (ج) كتبت: (إن قوة الجيش الشعبي لتحرير شعب السودان ستنمو وتتعاظم؛ لتصبح قوة تقليدية قادرة على تحطيم جيش السودان الرجعي). وفي 16/5/2000م حدد زعيمها جون قرنق مسارات لحركته، وهي: الأول: ضمُّ جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق ومنطقة أبيي للجنوب وإخضاع الجنوب الموسَّع لحكم الجيش الشعبي واقتسام السلطة المركزية بالتساوي مع السلطة الحالية لمدة عامين ثم يمارس الجنوب حق تقرير المصير. الثاني: إسقاط النظام في الخرطوم واستلام التجمع الوطني الديمقراطي السلطة (قوات التجمع الوطني الفعلية هي الجيش الشعبي). الثالث: أن تعم المناطق «المحررة» كل السودان بفعل الزحف، وتصبح الحركة الشعبية الحزب الحاكم في البلاد وجيشها جيش البلاد. إذن فالامر ليس مجرد انفصال من أجل الحصول على حقوق مهدرة, كما أنه لن يتوقف عند حدود الانفصال, فالحركة الشعبية تقوم بتسليح الجنوب بشكل مبالغ فيه ولا يتناسب مع دولة صغيرة في بداية نشأتها وهي في ذلك تجد كل العون من الدول الغربية والكيان الصهيوني وهؤلاء أغراضهم معلومة جيدا ونواياهم التوسعية في المنطقة أظهر من أن يستدل عليها.

 

ولا يقتصر خطر الانفصال على ذلك بل هناك العديد من الاخطار من أهمها: الخلاف على ترسيم الحدود بين الجانبين قد يؤدي إلى اندلاع حرب مبكرة والحدود ليس أرضاً خلاء ولكنها بشر وأبقار ومزارع وثروات طبيعية، إن قبل الطرفان المساومة عليها فقد لا يقبل سكان الأرض وبعضهم لن يقف مكتوف الأيدي إزاء ما تقرره السلطة الحاكمة في الشمال أو الجنوب, كذلك قد يشجع الانفصال قيام تمرد مسلح جديد في كل من ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق تقوده عناصر الحركة الشعبية التي جاءت إلى السلطة في الولايتين بقوة السلاح إذا لم تقتنع تلك العناصر بنتيجة المشورة الشعبية التي تضمنتها اتفاقية السلام الشامل نسبة لغلبة عضوية المؤتمر الوطني في مجلسي الولايتين وهما أصحاب القرار في حصيلة المشورة.

 

وسيؤثر الانفصال أيضاً على حركات التمرد في دارفور فيرتفع سقف مطالبها ليشمل تقرير المصير أيضاً، ومن الناحية الأخرى فإن العنف القبلي الذي ارتفعت وتيرته في الجنوب في الثلاث سنوات الأخيرة بسبب الصراعات التاريخية بين القبائل وسرقة البهائم بين قبيلة وأخرى، هذا العنف مرشح للتصاعد لأن السمة القبلية لأجهزة الدولة النظامية والمدنية ستصبح أكثر وضوحاً واستفزازاً للآخرين. ودخل الحلبة بعض القادة العسكريين السابقين بالجيش الشعبي الذين لم يرتضوا هزيمتهم في الانتخابات الماضية بدعوى أنها مزورة وغير نزيهة، فقاد كل من اللواء جورج أتور وديفيد ياويو وقلواك قاى تمرداً مسلحاً ضد حكومة جوبا في ولايتي جونقلى والوحدة، ولم تستطع حكومة الجنوب أن تخمد تمرد هذه المليشيات عسكرياً أو سياسياً واذا كانت هناك اختلافات عرقية وثقافية بين الشمال والجنوب زعم الجنوب أنها السبب في طلب الانفصال فإن الجنوب ليس قومية واحدة ولا ثقافة واحدة فهو متعدد العرقيات والثقافات وبعض تلك القبائل تتطلع إلى الخروج من هيمنة قبيلة الدينكا التي تسيطر على أية حكومة إقليمية في الجنوب بحكم حجمها السكاني، وقد سبق لقبائل الاستوائية أن طلبت من الرئيس نميري تقسيم الجنوب إلى ثلاثة أقاليم بعد أن منحته اتفاقية أديس أبابا «1972» حكماً ذاتياً تحت حكومة واحدة، وكانت حجتهم هي سيطرة الدينكا الاستفزازية على مقاليد الأمور حتى في عاصمة الاستوائية الكبرى.

 

كما لا يخلو الانفصال من مخاطر اقتصادية لعل أهم هذه المخاطر هو خروج حصة حكومة السودان من عائدات بترول الجنوب الذي يشكل حالياً حوالي 85% من البترول المنتج في السودان، ويبلغ عائده للحكومة الاتحادية حوالي 40% إلى 45% من إيرادات الموازنة العامة، ويشكل البترول «من الجنوب والشمال» المصدر الرئيسي للعملة الصعبة إذ يبلغ حوالي 95% من جملة الصادرات. فإذا خرج البترول من إيرادات الدولة سيصبح الوضع الاقتصادي صعباً للغاية لأن الدولة لا تملك وسيلة لتعويض ذلك المبلغ الكبير، وما ستجنيه من بيع خدمات البترول الموجودة في الشمال للجنوب «الترحيل والتصفية والتخزين وميناء التصدير» لن يغطي ربع العائد المفقود، كما أن شركات البترول التي مولت تأسيس تلك الخدمات لها نصيب في عائدها. وبالنسبة لجنوب السودان فإنه لا يكاد يعتمد على إيرادات أخرى سوى البترول إلا ما تجود به الدول الغربية من معونات محدودة لمشاريع محددة تشرف على تنفيذها بنفسها، ورغم حجم العائدات الضخمة التي تلقتها حكومة الجنوب في السنوات الخمس الماضية «حوالي 40 مليار دولار» إلا أن كثيراً من سكان الجنوب يشكون أنهم لا يرون من الخدمات والتنمية ما يوازي تلك العائدات. ويتهم الكثيرون أن جزءاً كبيراً منها قد ذهب إلى حسابات بعض المتنفذين في الدولة وإلى الصرف الباذخ على الجيش الشعبي وقياداته العليا وإلى الصرف السياسي على أجهزة الحركة الشعبية والعاملين فيها. وبحكم خدمات البترول الموجودة في الشمال فإن حكومة الجنوب ستصبح رهينة لحسن العلاقة مع الشمال لأنها لا تستطيع أن تستغني عن تلك الخدمات ولا تستطيع أن تعوضها بخدمات مع دول الجوار الإفريقي إلا بتكلفة عالية وفي مدة لا تقل عن بضع سنوات. وتحتاج حكومة الجنوب إلى عدة سنوات قبل أن تتمكن من إدارة مرفق البترول بنفسها، ولا بد لها من أن تعتمد على خبراء أجانب من شمال السودان أو من غيره. وبالطبع فإن الانفصال سيعطي الجنوب عوائد أكبر من البترول، ولكن كيف ستصرف تلك العوائد؟ إن نهج الصرف السابق سيؤدي إلى قدر كبير من التوتر والاحتقان خاصة إذا كانت الجهات المستفيدة هي أشخاص بعينهم ينتمون إلى قبائل بعينها يمتلكون النفوذ والسلطة.

 

إن هذه بعض المخاطر المتوقعة وغيرها الكثير مما يشير إلى إقبال السودان على فترة مظلمة من تاريخها تهدد مستقبلها ووجودها كدولة كما تهدد المنطقة ككل بالمزيد من الصراعات.. فهل تتحول السودان في غضون سنوات قليلة إلى صومال جديدة؟