"رأس السنة" في أفغانستان!
2 محرم 1432
عبد الباقي خليفة

لم ينتظر المجاهدون الأفغان فصل الربيع ليواصلوا شن هجماتهم الضخمة، وعمليات القنص عبر العبوات الناسفة، التي استنزفت القوات الغازية ، وأثخنتها في 9 جولات.. هي 9 سنوات دامية، خسرت خلالها القوات الدولية طاقم أسنانها الصناعي، وإن احتفظت بقفازاتها، في حالة من الإعياء الذي لم تستطع الخطابات الحماسية، والتصريحات الدعائية أن تخفيها.

 

 
"احتفالات طالبان برأس السنة":

في الولايات المتحدة، وأوروبا، يحتفل الناس برأس السنة بالمفرقعات الصناعية، وأحيانا يطلقون النار من مسدسات، وأسلحة خفيفة، وفي أوربا الشرقية يفعلون ذلك، وفي غرب البلقان يطلقون في بعض الأماكن صواريخ وأعيرة من أسلحة ثقيلة، من مخلفات الحرب البلقانية في تسعينات القرن الماضي.

 أما في أفغانستان فقد حولت طالبان على طريقتها، أيام وليالي قوات الاحتلال من 49 دولة إلى رؤوس سنوات، على طريقتها، فهي ما انفكت تطلق النار، ويتجاوب معها جنود الاحتلال، حتى إنهم ملوا هذه اللعبة. ولذلك مات في جنود الاحتلال الإحساس بالمناسبات، بل كرهوها، لعلاقتها الوثيقة بإطلاق النار. وهذا يذكرني، بقصة ذلك الفلاح الذي أدب كلبه بطريقة مبتكرة، حتى لا يعاود أكل الطيور المدجنة، وذلك بربط دجاجة ميتة في أعلى (مقر) الكلب، دون أن يتمكن الأخير من إدراكها، وظل الحال على ذلك عدة أيام، والكلب لا يستطيع أن يصبر على رائحة الدجاجة الميتة ورائحتها الشديدة، لا سيما وأن حاسة الشم لديه قوية جدا، وبعد عدة أيام من تلك الحالة أطلق الفلاح سراح الكلب الذي أصبح يهرب من الدجاج كلما اقترب منه. ويبدو أن المحتل في أفغانستان لم يبلغ هذه المرحلة بعد، وإن كانت رائحة البارود الأفغاني تؤدي فعلها وتسير على نفس الوتيرة لتحقيق ذات النتيجة.

 

 
وأغلب الناس، أو لنقل كثير منهم، في أمريكا، وألمانيا، وفرنسا، يسكرون، ويعربدون، ويرقصون، ويأكلون بشراهة ليلة رأس السنة، لكن في أفغانستان يلاحظون أن كثيرا منهم يأكل بازوكا، ويشرب عبوات ناسفة، لذلك هناك المئات منهم يرقدون في المستشفيات العسكرية من التخمة؛ فكل شيء تقريبا يذكرهم وبطريقة معكوسة برأس السنة، حتى شهر ديسمبر الحالي، والذي هو شهر راحة واسترخاء وعطلة لدى الكثيرين، يتحول إلى هموم وهواجس وتفكير ومتاعب ومشاق وأخطار وعذابات لدى آلاف الجنود الذين كانوا يقضون رأس السنة في بلدانهم وسط الهرج والمرج، فإذا بهم بين قتيل وأعرج ومعوج.
 
ولم تنتظر طالبان رأس السنة الميلادية، لتعبر بطريقتها عن "الابتهاج" بإطلاق النار، إذ إنها تحتفل على طريقتها طوال أيام السنة، ومن ذلك شنها هجوما على قاعدة عسكرية في جنوب أفغانستان، ولم تمض سوى 5 أيام من ديسمبر شهر العطلات والمسرات والعربدات، وقبلها هاجمت طالبان مطار جلال آباد، وقاعدة عسكرية للاحتلال شرق البلاد، وغيرها من العمليات.

 

تحولات في الشارع الغربي:
 يدرك الكثير من الغربيين، أن لعبة الإرهاب التي يحاول بعض الساسة والأحزاب اليمينية الاستثمار فيها، لم تعد عملة رائجة، ولم تعد الأغلبية في الغرب تسمع لخطاب التخويف لإدراكها بأن سياسات بلدانها الامبريالية، وسياسات الشرق الديكتاتورية وراء العمليات (غير المبررة) في عدد من المدن الأوروبية، فلا أحد بإمكانه تبرير القتل وايذاء الأبرياء، ولكنه من حقه أن يحلل ويربط النتائج بالأسباب، ليعلم الناس كل الناس الحقيقة.
 وفي هذا الإطار لم يعد قتل المدنيين، واستمرار احتلال أفغانستان مقبولا، ولم تعد التبريرات والأسباب الموهومة مقنعة للرأي العام في أمريكا والدول الاوروبية، فما يهم المواطن في هذه الدول هو البيت والسيارة والعمل المضمون وجودة الحياة، بينما الاحصاءات تؤكد بأن أغلب شعوب الدول الأوروبية لا تستطيع اليوم توفير9 سلع أساسية، ونسبة البطالة في الدول الغنية منها تصل نحو 10%، وهناك دول مهددة بالإفلاس، أو معرضة لأزمات خطيرة كإسبانيا والبرتغال وايطاليا، وحتى فرنسا تغازلها الدوامة، بل إن بلدا مثل الدنمارك بدأ بإغلاق بعض سفاراته في العالم بسبب الأزمة المالية.

 

ولذلك يشعر الأوروبيون بأن مواطنيهم يقتلون في أفغانستان، وأموالهم تصرف عبثا على حرب خاسرة، وعلى قتل أناس أبرياء ذنبهم أنهم يريدون أن يعيشوا أحرارا، وأن يقاسموا العالم أفراحه. وقد تظاهر العديد من النشطاء في أمريكا ودول الاتحاد الأوروبي في الفترات الماضية، ومنهم آلاف الأشخاص الذين تظاهروا في هايدبارك بلندن نهاية شهر نوفمبر الماضي، مطالبين بإنهاء احتلال أفغانستان، ووقف العدوان فورا، وعدم انتظار الموعد الذي حدده حلف شمال الأطلسي في اجتماعه الأخير في لشبونة، وهو نهاية 2014 م. إذ أن أموال الخدمات العامة تصرف على حروب المهوسين بالحرب على الإسلام، بينما شعوبهم يتهددها الفقر، واقتصادهم يتوعده الدمار، ورفاهيتهم معرضة للزوال. ولعل من المفيد أن نذكر أن بلدا مثل بريطانيا ينفق على عدوانه على أفغانستان 11 مليار دولار، وهو مبلغ ضخم للغاية يعادل ميزانيات العشرات من الدول الفقيرة التي تقتل شعوبها ندرة المياه، وكثرة الأمراض، وفساد أنظمتها الاستبدادية الديكتاتورية الحاكمة.

 

 
السلام وليس المواعيد:
 لا شك أن تحديد المواعيد، ومعرفة الأسقف الزمنية أمر مهم للغاية، ولكن الأهم من ذلك بناء سلام حقيقي وفق معايير متفق عليها، وليس وفق أجندة المحتل. وليس مهما إن كان حلف شمال الأطلسي بقيادة أمريكا، سينسحب بالفعل في سنة 2014 م أو أنه سيفضل الانتحار البطيء في أفغانستان، وتحويل دوله إلى مستويات شعوب العالم الثالث، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، فهناك نزعات للعودة للحكم المطلق في الغرب، ووأد الديمقراطية بعد نحو 300 سنة من المدنية، وتصاعد نفوذ اليمين المتطرف، ومقولات صراع الحضارات، تؤسس لقيام أنظمة ديكتاتورية "ذات رسالة" على غرار أنظمة ملوك الحق الإلهي، أو النازية، والفاشية، التي قضت على الديمقراطية التي أوصلتها للحكم، ومن هذا الفصيل نعثر على جورج بوش الابن، وتوني بلير، ونيكولا ساركوزي، وغيرهم.
وبالتالي فإن أمريكا وأوروبا مهددة بأسوأ النماذج التي عرفها التاريخ، بل أسوأ من نظام نيرون، وفرانكو، وستالين، وتشاوسيسكو. أو الأنظمة الأسيوية ، والإفريقية التي يصعب حصر أسماء ديكتاتورييها المقبورين والمومياوات اللاصقة في كراسي الحكم حتى اليوم.
 

 

بعد رأس السنة، ستبدأ القوات الأمريكية بالانسحاب تدريجيا، كما أعلن بتريوس للسي ان ان في الشهر الماضي، وهناك 16 ألف جندي بريطاني عملوا في أفغانستان سيتم تسريحهم، لسد ثغرة مالية مقدارها 38 مليار جنيه استرليني في الميزانية، فيما أعلن رئيس وزراء اسبانيا خوسيه ثباتيرو، أن قوات بلاده لن تبقى في أفغانستان، وذلك بسبب الأزمة المالية، وارتفاع عدد العاطلين الذي بلغ أكثر من 4 ملايين عاطل، بينما تتوعد طالبان تحالف العدوان بالهزيمة، وهو تهديد لا ينطلق من فراغ، فالجميع باتوا يدركون المأزق الذي أوقعتهم فيه السياسات اليمينية المهوسة الرعناء المبنية على العواطف والقراءات الصفراء، لا العقل والحكمة والعدل والانسانية. وكانت النتيجة ما تفجر على لسان وزير الدفاع الفرنسي حيث أكد على أنه "يمكن القول أن أفغانستان مصيدة لكل الأطراف المعنية هناك" أي قوات بلاده، والقوات الامريكية والبريطانية وكل الأشرار الذين بلغ عددهم 49 دولة من القتلة والمقتولين. حتى الجنود الأفغان التابعين لكرازي لم يعودوا يطيقون رؤية جنود الاحتلال، فساهموا بدورهم في قتل الكثير منهم، وهي ظاهرة كما تؤكد الاحصاءات، وليست حالات فردية معزولة.