وقفة على أطلال الأندلس
26 ذو الحجه 1431
زياد آل سليمان

لقد بدأ الفتح الإسلامي للأندلس (إسبانيا) سنة 91 هـ - 710 م، وكان الإيمان والرغبة في نشر الإسلام هو الدافع الحقيقي وراء هذا الفتح العظيم، وساهمت دقة التنظيم والتخطيط والإعداد، والصراع الداخلي الذي كان قائماً بين النصارى (القوط)، والظلم الذي كان سائداً في سرعة سقوط البلاد تحت حكم المسلمين، ورغبة السكان في التخلص من الحكم الجائر، وفي رسالة موسى بن نصير إلى الخليفة الوليد في دمشق وصف هذا الفتح بالحشر فقال: "لم يكن هذا فتحاً كغيره من الفتوح يا أمير المؤمنين، فإن الواقعة كانت أشبه باجتماع الحشر يوم القيامة".

 

استمر وجود المسلمين في الأندلس حتى سنة 897هـ - 1492م، وخلال هذه السنين الطويلة تعاقب على حكم البلاد دول عدة أشهرها الدولة الأموية، ومرت البلاد بعهود القوة كعهد عبدالرحمن الداخل والذي توفي سنة 172هـ - 788م، وعهد عبدالرحمن الناصر والذي توفي 350هـ - 961م وحكم أكثر من خمسين سنة، وعهد محمد بن أبي عامر "الحاجب المنصور" والذي توفي سنة 392هـ - 1002م.

 

كما مر الحكم الإسلامي بعهود من الضعف بسبب العصبية التي طغت على بعضهم، واشتعلت الحروب وقامت الصراعات تارة بين العرب كما جرى بين القيسية واليمنية، وتارة بين العرب والبربر، كما قامت الثوارت بسبب الظلم والعنصرية ووجود الطبقية في المجتمع خلافا لتعاليم ديننا الحنيف، ولئن كانت المصالح الشخصية هي السبب الحقيقي وراء الكثير من تلك الصراعات إلا أنها غلفت بغلاف القبيلة أو الانتماء، حتى تقاسمت الأسر القبلية وقادتها البلاد، حتى غدا لكل مدينة تقريباً حاكمها المستقل بالحكم وإن كان اللقب أوسع من مدينته التي يحكمها، وتقسمت البلاد في عهد دول الطوائف إلى نحو ستة وعشرين دولة، فصح فيها قول الشاعر:

 


مما يزهدني في أرض أندلـسٍ * أسمـاءُ معتمـدٍ فيها ومعتضـد
ألقاب مملكة في غير موضعها * كالهر يحكي صورة انتفاخاً الأسد

 

وإن كانت هذه إلماحه سريعة عن الوضع السياسي إلا أن الوجود الإسلامي كانت له آثاره العظيمة على الحضارة الإنسانية في مختلف الميادين والتي كانت قاعدة أساسية ومنطلقاً للنهضة في أوروبا وذلك بفعل عوامل متعددة، ولا تزال آثار الحكم الإسلامي موجودة إلى اليوم شاهدة على تلك الحضارة وآثارها.
استمر حكم المسلمين بالرغم من وجود فترات من الضعف كانت كفيلة بزوال ملكهم، ومن الأسباب التي أدت لهذا البقاء هي نصرة المسلمين في المغرب لإخوانهم في الأندلس، فكانوا سنداً لهم في كل أزمة أو نازلة، ولم ينتهي الوجود الإسلامي في الأندلس إلا بعد أن سيطر النصارى على مدن السواحل الجنوبية والتي كانت حلقة الوصل بين المسلمين، وعندها انقطع المدد الإسلامي، ولما ضعف المدد من الأرض جاء المدد من السماء، فلطالما كان الثلج حائلاً بين الطرفين، ولما حوصرت بسطة سنة 894هـ - 1489م، قتل من جنود النصارى أكثر من عشرين ألفاً، ثلاثة آلاف فقط بالقتال، والبقية بمرض حل به، {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ}.

 

ومن أسباب بقاء حكم المسلمين تلك الصراعات التي كانت تشتعل بين النصارى فتضعف قوتهم وتشغلهم عن المسلمين، وكذلك التقليد الجرماني القديم الذي كان ينص على أن الملك إرث يقسم بين أبناء الملك المتوفى، واستمر النصارى في تطبيق هذا المبدأ والذي أدى إلى تفتيت دولهم وقوتهم، بينما كانت النصوص الشرعية لدى المسلمين واضحة وصريحة، فأمرت بأن تكون البلاد الإسلامية تحت سلطة حاكم واحد، وحرمت وجود خليفتين على المسلمين ولو بالمبايعة، وحرمت الاستجابة لدعوات الفرقة بين المسلمين، إلا أن منصب الملك أو الخلافة عندما فقد مكانته وهيبته ومنزلته تفرقت كلمة المسلمين، وكان هذا إيذان بزوال حكمهم، وبدلاً من أن يستفيد المسلمون من الخلافات بين النصارى، استطاع النصارى أن يستغلوا الخلافات بين المسلمين وأن يتحكموا بمصيرهم بتغذية تلك الصراعات حتى ولو بدعم الخصمين في وقت واحد.

 

كما اعتمد النصارى على سياسة الأرض المحروقة لتهجير السكان بالبطش والإرهاب في كل حصن أو مدينة يسيطروا عليها، وأدركوا أن قوتهم بوحدتهم، فوحدتهم المصالح، كما وحدتهم الأهداف واستطاعوا من خلال ما سمي بـ"حرب الاسترداد" أن يوحدوا النصارى بمساندة من الكنيسة ورجالها، بينما تفرقت كلمة المسلمين ولم توحدهم العقيدة ولا المصالح ولا المصائب، وكانت الأموال التي يقدمها المسلمين للنصارى في عهود ضعفهم سبباً لتقوية جيوش النصارى، وتدفق المرتزقة إليهم، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
وإن علينا أن نأخذ العبرة، وأن نعمل بما أمرنا الله تعالى به ورسوله عليه الصلاة والسلام، قال سبحانه: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُم تَهْتَدُونَ} سورة آل عمران، آية: 103، وقال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} سورة لأنفال، آية: 46.