اجتياح فلسطين بروايات إنسانية وذكريات تاريخية
27 ذو القعدة 1431
علا محمود سامي

في محاولة لاستنهاض ذاكرة التاريخ، وحتى لاتنسى الأجيال الجديدة حقيقته، وكشف من يجورون على تزويره ، حرصت مكتبة الإسكندرية على إحياء نكبة فلسطين، وتسليط الضوء على قضية اللاجئين، التي صار يتنصل منها كثيرون، ولم تنجح أية مفاوضات في البت بشأنهم، وتأكيد حق عودتهم إلى بلادهم.
هذا الإحياء تمثل في إقامة معرض وثائقي عن معاناة الفلسطينيين منذ الاجتياح الإسرائيلي الغاشم في العام 1948، والذي قام بإعداده متحف تروبن في أمستردام بهولندا، بالتعاون مع أرشيف النكبة ببيروت ومكتبة الإسكندرية.
وبالصوت والصوت ، وعبر الروايات المحكية، والشهود على جريمة الاجتياح ، تناول المعرض الأحداث الهامة التي أدت إلى النكبة من سنة 1896 إلى سنة 1967، بالشكل الذي يمكن معه زواره من مشاهدة عدة معالم رئيسية للنكبة من خلال الملصقات والصور المعروضة، بالإضافة إلى أفلام وثائقية توضيحية. 
ويقدم المعرض - الذي تجول موقع (المسلم) في أروقته - تاريخ المنطقة، وخريطة توضح القرى الفلسطينية التي جرى تهويدها ، منذ عملية الاجتياح في العام 1948، وإحلال الكيان البغيض على أنقاضها ، وفي قلب مدينة القدس الشريف.

 

ولم يغفل التوثيق إبراز حياة الفلسطينيين الإنسانية اليوم، وهو ما تحكيه أشرطة الفيديو والصور ، بعدما أصبحوا ضحايا دوامة التاريخ، والصراعات السياسية، وهم يتذكرون ملامح وطنهم، واحتفاظهم بأقل القليل مما خرجوا به من ديارهم، التي تم تهجيرهم منها، وحتى ولو كان هذا الاحتفاظ هو مفتاح بيتهم.
ويركز المعرض على التجربة الفلسطينية في العام 1948، وهو العام الذي أجبر فيه مئات الآلاف من الفلسطينيين على مغادرة منازلهم، وتدمير أكثر من 400 قرية وإخلاء أكثر من 11 مدينة، وهروب اللاجئين إلى الدول العربية المحيطة، إضافة إلى تهجيرهم للمخيمات في الضفة الغربية وقطاع غزة.
وأصبح هذا الرحيل الجماعي معروفا في التاريخ العربي باسم النكبة أو الكارثة، وهو المصطلح الذي يستخدمه الفلسطينيون والعرب لوصف الفاجعة التي أصابتهم من جراء ترحيل الفلسطينيين عن الأراضي التي احتلتها إسرائيل ما نتج عنه تدمير وخسائر في المجتمع الفلسطيني.
ومنذ هذا التهجير، والشعب الفلسطيني يعاني من التزييف الإسرائيلي للحقائق، والاستغلال لأحداث الجرائم النازية لكسب تعاطف العالم، ما أدى إلى تجاهل قرارات الشرعية الدولية والمطالبة بحق العودة.

 

حكايات قروية

ويسجل المعرض بعدسة الأمريكي "آلان جيجينو" سلسلة من القصص للمنافي الفلسطينية، ويلقي الضوء على تهجير 4.5 مليون لاجئ ، إلى جانب تصويره للمناظر الطبيعية للمواقع التي تم طرد أبنائها منها في العام 1948، وتسجيل المناظر الطبيعية التي اختفت من فلسطين بفعل الاجتياح الإسرائيلي، بهدف محو الماضي حرفيا، وجعل عودتهم"حبرا على ورق".
ومن بين القرى التي يكشف المعرض تعرضها للاجتياح، قرية قدينا، والتي جرى تغيير اسمها إلى "بيريا فورست"، وهى القرية التي ظلت تتمتع بحقول وغابات، ومنها أشجار الزيتون، الآخذة حاليا في النمو، على الرغم من استعانة سلطات الاحتلال بأشجار الصنوبر، لتنمو بسرعة، وتكون دليلا بائسا على أحقية اليهود بالمدينة، الذين أخذوا يستوطنوها بعد الاجتياح.
إلا أن نمو أشجار الزيتون المتواصل بالقرية يفضح دعاة الحرية، من وقت لآخر، والتأكيد على أنه كان يسكن بالقرية قبل ستين عاما أصحابها الحقيقيون، وأنهم لو استطاعوا إخراج البشر منها، فلن ينجحوا في إسكات نمو الشجر بها. 
وينقل "الوثائقي" عن الفلسطيني والد حسن أكرماوي ، الذي كان يقيم في مدينة القدس الشريف، إلا أنه بعد التهويد، صار المنزل مطعما يهوديا، في محاولة لسرقة التاريخ، وطمس الحقائق، بالإضافة إلى فعل الشئ نفسه مع قرية ترشيحا ، التي جرى تهويدها.
وفي هذه القرية التي سقطت في أيدي جنود الاحتلال في أكتوبر عام 1948، تم تهجيرا قرابة 4,500 فلسطيني ، إلا أن عددا قليلا منهم آثر العودة تحت ضغط القصف "الإسرائيلي".

 

وعلى الرغم من محاولات نقلهم، وسماح الاحتلال لهم بالبقاء المشروط، إلا أن منازل الجميع تعرضت للاحتلال، بنقل المستوطنين القادمين إلى الكيان من الاتحاد السوفيتي السابق إليها، وكان ذلك في العام 1990.
وفي قرية زكريا ، يوثق المعرض قيام جنود الاحتلال بدخولها في عام 1948، وتهجير حوالي 1000 شخص من سكان القرية ، الذين فروا تحت القصف إلى المناطق المجاورة، حتى عاد بعضهم بعد انتهاء الاجتياح في العام1950.
إلا أنه لم يتبق منهم سوى 160 فلسطينيا، بعد قرار الاحتلال ترحيلهم إلى مخيم "دهيشة" للاجئين في الضفة الغربية، لإعادة استيطان اليهود مكانهم ، وتحديدا القادمين من كردستان العراق ، حيث قاموا بتغيير اسم القرية إلى "موشاف"، إلا أن بقاء أطلال مسجد بها إلى يومنا ، يعكس أن العرب كانوا هنا، وأن مستوطنيها اليوم، ما هم إلا مغتصبين لها.
الشئ نفسه حدث مع قرية النهر، التي جرى تغيير اسمها إلى "بن آمي"، حيث اجتاحها جنود الاحتلال، وقتلوا ذكورها، وقاموا بتدمير 120 منزلا في 21 مايو 1948، ما نتج عنها فرار 600 فلسطينيا، ولم يتم السماح لهم بالعودة حتى يومنا.

 


ذكريات لاتنسى 

وينقل المعرض عن الفلسطينية زينب السقا ، كيف جرى إخراجها  من منزلها في ذات القرية، وخروجها وزوجها منها سيرا على الأقدام ، وهى التي لم يمر على زواجها أكثر من شهر قبل الاجتياح، الأمر الذي جعلها تحتفظ بفستان زفافها ، لعله يثبت يوما أحقيتها في بيتها المسلوب.
وكعادة الاحتلال في القرى التي كان يجتاحها فعل الشئ ذاته مع قرية كوكبة، والتي جرى تهويدها باسم مزيف هو"كوكاف ميخائيل"، وهى عبارة عن حقل زراعي ، فر منها سكانها في 13 مايو عام 1948، بعد هدم منازلهم، ليحل محلهم مستوطنة سميت باسم القرية المزيفة تاريخيا.

 

هذا التهويد حدث أيضا مع قرية الطنطورة، التي حرف اسمها الاحتلال إلى "كيب تنرنا شوليم"، وقيامه بتحويل أحد مواقعها الفلسطينية بها إلى متحف آثاري مزعوم، عقب الاجتياح ، والذي نتج عنه إعدام 100 من رجال القرية، التي كان يعيش فيها 1500 فلسطيني، لتصبح اليوم منتجعا سياحيا بائسا للمستوطنين، لقضاء عطلاتهم فيها.

 

ويتعرض المعرض الوثائقي إلى قرية أشدود ، التي جرى تهويدها وتغيير اسمها إلى "أسدود"، بعدما هاجمها الاحتلال في مايو من العام 1948، بإثارة الخوف بين سكانها، وطردهم منها ، في موكب طويل إلى غزة، إلا أنه لم يتبق من إرثها الفلسطيني سوى مدرستين تحولتا إلى أطلال ، بجانب بقايا مسجد، وهى الأطلال التي تقف شاهدة على جريمة نكراء ، لن يغفرها التاريخ.

 

الشئ نفسه ، فعله جنود الاحتلال مع قرية حيفا، والتي اجتاحها جنوده في 21 أبريل العام 1948، ما دفع سكانها إلى التوجه إلى البحر أملا في الهروب من أجواء القصف، حتى غرقت بهم السفن، تحت سمع وبصر القوات البريطانية آنذاك، لتكون شاهدة على مأساة أزمة إنسانية، يحفرها التاريخ بأحرف من نور لشهدائها، ويسجل لمرتكبيها أنهم دعاة إجرام، وليس أبدا دعاة لحرية الإنسان.

 

  وفي نهاية المعرض ، يمكن لزائريه الوقوف عن ملامح تهويد مدينتي القدس الشريف ودير ياسين وحيفا ، وكأن إدارة المعرض حرصت على أن تكون خاتمة جولات الزائرين، بأهم المدن الفلسطينية التي جرى تهويدها. مستعرضة المذابح التي تعرض لها الفلسطينيون في دير ياسين ، بقيادة المحارب "مناحم بيجين"، والذي أشرف بنفسه على قتل 100 من رجال وأطفال ونساء القرية، والاستعراض بهم عبر موكب من الشاحنات قبل قتلهم، ليكون هذا الموكب رسالة لغيرهم، والذين فروا خوفا من إلقاء نفس المصير.