الإعلام المصري يرتد على نفسه
13 ذو القعدة 1431
علا محمود سامي

في الوقت الذي يعمل فيه الإعلام العالمي على تطوير أدواته، وتساهم تكنولوجيا الاتصال في نشوء وسائط إعلامية جديدة له، نجد الإعلام المصري يرتد إلى الخلف ، ليعود إلى المربع الأول ، وبالتحديد لمرحلة ما قبل تسعينيات القرن الفائت، والتي شهدت بدايتها انطلاق أول فضائية عربية، هى الفضائية المصرية.

 

إلا أن هذه الريادة التي ظل مسؤولو الإعلام المصري يرددونها لنحو عقد أو يزيد لم يكد لها أن تستمر حتى ظهرت فضائيات عربية جديدة، لم تحاكي الإعلام الحكومي وفقط في مصر، بل تفوقت عليه، وقدمت أنموذجا إعلاميا اتسم بالحرفية والمهنية ، حتى واكبتها فضائيات أخرى، مما جعل الإعلام المصري يتذيل قائمة نسب المشاهدة للمواطن العربي حتى أصبح طاردا لمشاهديه، بدلا من أن يكون "إعلام الريادة" جاذبا لهم.

 

ومع انطلاق المسبار المصري "نايل سات" الأول في جيله الأول أيضا في العام 1998، كانت نقطة التحول في منظومة الإعلام المصري بالسماح ببث قنوات فضائية خاصة ، لأول مرة في إطار من المنطقة الإعلامية الحرة ، بعدما ظلت هذه القنوات حكرا على الإعلام الرسمي وفقط. إلا أنه مع ذلك فلم يسمح إلى يومنا هذا للأفراد بالبث الأرضي، ليظل الإعلام الأرضي حكرا وفقط على اتحاد الإذاعة والتلفزيون، وحتى إشعار آخر.

 

وقت هذا التحول الذي شهدته منظومة الإعلام المصري، كان لذلك مدخله وأهدافه، بأن يتم السماح للأفراد ببث فضائيات خاصة لسبب تجاري بالدرجة الأولى، وهو شغل حيز الترددات التي كان يحملها القمر الأول ، إلى أن تزايد هذا السماح لبث مزيد من الفضائيات عقب إطلاق القمر الثاني "نايل سات 102" في جيله الأول ، وهى الفترة التي بدأت تشهد تزايدا هائلا في كم الفضائيات العربية التي صار عددها يتجاوز 700 محطة فضائية، يخرج معظمها إن لم يكن جميعها عن نطاق جميع الروافد الإعلامية القائمة، سواء كانت اللجنة الدائمة للإعلام العربي أو اتحاد الإذاعات العربية، أو اللجنة الدائمة للتنسيق بين الفضائيات ، اللهم إلا الجهات المشغلة لها كالأقمار الصناعية وجهات بث التراخيص.

 

ومع شغل الحيز الترددي للقمرين المصريين واتساعها، مما تسبب في استئجارها للقمر الدولي "يوتلسات" في العام 2007، لتلبية طلبات العملاء من الفضائيات العربية ، وللحفاظ عليهم في إطار من "النايل سات" ، لحين إطلاق قمر جديد، كانت إرادة الإعلام المصري الرسمي قد بدأت تنظر نظرة مغايرة للفضائيات التي سمحت ببثها ، ومنها قنوات دينية ، حتى كانت الانتكاسة الكبيرة ، والتي تزامنت مع إطلاق مصر للقمر الثالث من جيلها الثاني في 4 أغسطس الماضي، بحجب فضائيات دينية، وتوجيه إنذار إلى أخرى، بعدما نجحت من قبل في حجب قناة"البركة" عقب صدور وثيقة البث الفضائي الشهيرة، والتي شهدت اعتراضا كبيرا عليها من جانب مسؤولي الإعلام أنفسهم، حتى حفرت لنفسها قبرها، قبل أن تخرج إلى حيز التنفيذ والاسترشاد.
وعلى مدى الأيام الأخيرة شهدت الساحة الفضائية المصرية تراجعا واضحا، إن لم تكن توصف بأنها هجمة جديدة على الفضائيات الدينية بحجب مجموعة قنوات إسلامية منها "الحكمة" و"نسائم الرحمة" و"صفا" وكذلك شركة "البراهين" ، والتي تمثل فضائيات"الناس والحافظ والصحة والجمال والخليجية"، بجانب ما سبقها من حجب نهائي لفضائية "البدر"، مع اختلاف توجهات الأخيرة عنهم.

 

وعلى الرغم من أن إغلاق مجموعة"البراهين" حسبما أعلنت المنطقة الإعلامية الحرة ومسؤولو "النايل سات" بأنه إغلاق مؤقت لحين التزامها بميثاق الشرف الإعلامي. فانه عند العبارة الأخيرة، يظل ميثاق الشرف هو القاسم المشترك وراء إقفال جميع القنوات الدينية السابقة، وما حصلت عليه فضائية"الحكمة" من تهديد مباشر ، حرمها ذلك من البث المباشر لفترة طويلة ، وما تلاها من إغلاق نهائي لقناة"الرحمة" استجابة لاعتراضات المجلس السمعي البصري في باريس ، مما دفع"الرحمة" إلى تغيير اسمها إلى "نسائم الرحمة" تحايلا على قرار الإقفال.

 

ومن هنا كان المبرر الرسمي مع إغلاق كل فضائية دينية هو عدم الالتزام بميثاق الشرف الإعلامي، دون تحديد لطبيعة هذا الميثاق، فضلا عن مخالفة ما هو شائع في جميع بلدان العالم بأن الميثاق ما هو إلا التزام أدبي ، وليس عقوبة معنوية أو مادية ، إضافة إلى أنه في فترة الإغلاق المؤقت  يطرح التساؤل نفسه : ما هى المعايير التي تسترعي القائمين على أمر المنطقة الإعلامية الحرة الحكم على مثل هذه القنوات بأنها تابت وأنابت ، وهى قيد الإغلاق ، دون الحكم عليها بالممارسة، لإثبات عقوبة التجاوز عليها ، أو العفو عنها.
وعلاوة على ذلك كله ، فان التساؤل الذي يطرح نفسه أيضا:أليست هناك قنوات تدعو إلى التنصير صراحة ، ويتم بثها عبر القمر المصري، بطرق مباشرة ن وغير مباشرة ، ومعها قنوات أخرى للرافضة تسب الصحابة ، رضوان الله عليهم، وتنشر مذهبهم الباطل ، بالإضافة إلى قنوات أخرى هابطة تقدم الرذيلة ليل نهار، وتحث عليها بشكل مباشر دون أدنى خجل، وتصل إلى مخادع الأسر العربية ، لتصبح جميعها قنوات إثارة تخالف ميثاق الشرف ، ليس فقط الإعلامي ، ولكن الأدبي والأخلاقي والمجتمعي، وما يسبق الجميع من مخالفة للتعاليم الإسلامية الصادرة في بلد إسلامي.

 

إلا أنها – وحسبما يبدو – أن قرار الحجب والتجميد والتعليق ما هو إلا رسالة لجميع أجهزة ووسائل الإعلام الإسلامية بأن عليها أن تلتزم إطارا معينا، ينبغي أن يكون مرسوما، تهتدي به، على الرغم من أن جميع القنوات الموقوفة لم تخرق يوما إطارها الذي تلزمه على نفسها، وهو عدم الخوض في السياسة، وخاصة في المواضيع الساخنة منها، بل وتحاول تنويع برامجها ، لتبدو أشبه بالقنوات العامة ، وليست الدينية، حيث أن موافقات الجهات المعنية على بث مثل هذه القنوات يأتي انطلاقا من كونها قنوات عامة ، وليست قنوات دينية ، في ظل تعهدات رسمية بمنع بث قنوات على أساس ديني.

 

ومن هنا فان قرارات الحجب ، وإن طالت في جلها القنوات الدينية فإنها رسالة للجميع، في ظل ما سوف تشهده الساحة السياسية المصرية خلال أسابيع قليلة من انتخابات "برلمانية" لمجلس الشعب المصري، الغرفة الأولى للدستور، توصف بأنها الأسخن من نوعها في تاريخ الحياة البرلمانية المصرية ، على نحو ثلاثة عقود على الأقل، في ظل معارضات وشد وجذب في أوساط سياسية مختلفة، وحديث عما يسمى بالتوريث، فضلا عن كونها(الانتخابات) ستكون مدخلا  لمرشحين مفترضين للرئاسة المصرية، وهو الاقتراع التي سيجرى عليها قبيل نهاية العام المقبل.

 

من هذا كله يبدو الأمر أكبر من أن يكون حجب مثل القنوات الدينية السابقة أكبر من خرق لميثاق إعلامي، والذي بالمؤكد أن العاملين في جهاز الإعلام الرسمي "ماسبيرو" من مذيعين ومقدمي برامج ، ومن لف لفيفهم ، لم يطلعوا عليه يوما، سوى ما أصبح شائعا كمبرر للردة الإعلامية ، والعودة إلى المربع الأول ، ليصبح الميثاق أشبه ب"الشماعة" التي تلوكها الألسنة، وتستند إليها في الوصول إلى زمن الردة الإعلامية ، والمشاهدة الأحادية ، دون النظر إلى عالم يتطور ، تتنوع مساقاته ، وتتعدد وسائطه، دون حجر عليها، ودون إدراك بأن الدار أصبحت لها ألف باب وباب، يمكن الخروج منه، وأن للسفينة أطواق عديدة للنجاة.