الفوز السادس للعدالة يضع تركيا على أعتاب دستور جديد
14 شوال 1431
رضا عبدالودود

بعد معركة دستورية وسجال سياسي محتدم نجح حزب العدالة والتنمية في تمرير خطته للاصلاح الدستوري والسياسي بمواجهة العلمانية التركية، متسلحا بسلسلة من الانجازات السياسية والاقتصادية على أرض الواقع نالت استحسان المواطن التركي الذي انحاز 58% منه إلى التعديلات الدستورية التي اقترحها أردوغان، الذي كان أكثر استشعارا بمواطنيه حينما تعهد باستعداده التام للتنحي عن الحكم إذا فشل في تمرير التعديلات..وكان الشعب عند حسن توقع قائده بنِـسبة مشاركة قياسية ناهزت 78% من الناخبين، وهي نسبة تفوق كل نِـسب الاستفتاءات والإنتخابات السابقة في البلاد.

 

قوبلت تلك النتائج بموجة من الترحيب العالمي تناقلته الصحافة العالمية، حيث أشادت صحيفة "جارديان" بنتائج الاستفتاء ووصفته بأنه ثورة صامتة في بلد تاريخه مملوء بالضغوط والانقلابات العسكرية، فيما ذهبت صحيفة "دي ولت" الألمانية إلى أن ما حدث خطوة مهمة من أجل التحديث في تركيا، وأن تركيا الآن في طريقها لأن تصبح قوة عظمى في ظل حكومة حزب العدالة والتنمية، وأن الأتراك أصبحوا متقدمين عن كل دول البحر المتوسط.

وعلى عكس الترحيب الأمريكي والأوروبي الواسع بنتائج الاستفتاء، أعربت وسائل إعلام إسرائيلية عن قلقها من تبعاته، ومنها صحيفة "هاآرتس" التي قالت إن النتيجة تعني أن عهد الانقلابات العسكرية انتهى- ومعروف عن إسرائيل تأييدها للانقلابات السابقة- لافتةً إلى أن هذا مؤشر على زيادة شعبية حزب العدالة والتنمية ذي الجذور الإسلامية الذي جعل تركيا "واحدة من أكثر دول العالم نفوذاً وثراءاً واستقراراً وديمقراطية".

 

تصحيح أخطاء الماضي ورسم للمستقبل
هذه التعديلات الاصلاحية لن تؤدي الى تعزيز المستقبل الديمقراطي لتركيا فقط، وانما الى تصحيح اخطاء الماضي، ووضع حد لسطوة المؤسسة العسكرية، وهيمنتها على دوائر صنع القرار تحت ستار كاذب اسمه الحفاظ على مستقبل العلمانية. الآن سيعود العسكريون الى ثكناتهم، بعد ان بات محظورا عليهم، وبمقتضى الدستور، التدخل في العملية السياسية، وقمع الارادة الشعبية، وحكم صناديق الاقتراع.
أردوغان اجتاز اختبارا صعبا، كان سيؤدي الفشل فيه الى انهاء زعامته السياسية، وربما حزب 'العدالة والتنمية' الذي يتزعمه، ولكنه باصراره على اجراء هذا الاستفتاء رغم التحذيرات والعقبات والتكتلات المعارضة وشراستها في تعبئة المواطنين الاتراك ضده، حقق تحولا تاريخيا سيغير مسار العملية السياسية وربما مستقبل تركيا. حيث سيدخل أردوغان الانتخابات البرلمانية في يوليو 2011 وهو اكثر ثقة حيث بات يملك تأييدا شعبيا كافيا لتشكيل حكومة من حزبه فقط، ودون الاستعانة باي وزراء من الاحزاب الصغيرة الممثلة في البرلمان.
الشعب التركي اعطى اردوغان هذا التفويض الكبير لميوله الاسلامية المحافظة بجانب انجازاته الاقتصادية الكبرى على الارض، حيث باتت تركيا تحتل المرتبة السادسة عشرة على سلم ترتيب الاقتصاديات الاقوى في العالم. واصبحت دولة اساسية في نادي الدول العشرين، وتزحف بثقة لتصبح عضوا في مجموعة الدول الثماني. وقد حقق اردوغان هذا الانجاز التاريخي بسياساته الذكية الداخلية والخارجية، وتصالحه مع جميع جيرانه على اساس المصالح المشتركة، وتسوية الخلافات بالحوار، ووضع مصلحة تركيا فوق ما عداها، والوقوف الى جانب قضايا الحق، والتصدي للغطرسة الاسرائيلية وحصارها الظالم لقطاع غزة.

ولعل النجاح الاكبر الذي يحسب للعدالة والتنمية تعامله الذكي مع الملفات الشائكة التي أربكت الساحة الداخلية لسنوات عديدة، فقد حصل الاكراد علي الكثير من الحقوق، فقد عمل اردوغان على تخفيف المشاكل التي يعاني منها الاكراد؛ فألغى في العام الماضي بعض القيود المفروضة على الحقوق الثقافية والسياسية للاكراد وعدل عن بعض السياسات التي وضعت بعد انقلاب عام 1980، كما اتخذت حكومته خطوات هامة تجاه حل المشكلة الكردية منها افتتاح محطة تلفزيونية ناطقة باللغة الكردية لتحسين سجل الحقوق الثقافية للأكراد. ومؤخرا تم الاعلان عن افتتاح قسم للغة الكردية وثقافتها بمعهد اللغات بجامعة أرتوقلو بمحافظة ماردين. ومع تلك الاستراتيجية الاردوغانية اضحت تركيا تسير في فلك الديمقراطية التي ترفض الوصاية العسكرية علي السياسة، وتمنح الناس حرية الدين والفكر.

 

مغزى الاصلاحات
تبرز قيمة الإصلاحات، التي قدّمها حزب العدالة والتنمية قبل ثلاثة أشهر إلى البرلمان، وفشل في تمريرها بغالبية الثُّـلثيْـن، دفع بها إلى الشارع، حيث "الكلمة الأخيرة للأمة" وِفقا للشِّـعار الذي رفعته الحكومة، وهو شعار اشتهَـر به في الخمسينيات رئيس الوزراء السابق عدنان مندريس، الذي أعْـدِم عام 1961 في أول انقلاب عسكري شهدته تركيا الكمالية- تبرز – في أنها تغلب الطبيعة المدنية للنِّـظام على العسكرية السابقة وتضع الخيار الديمقراطي في مواجهة الخِـيارات الانقلابية وغيْـر الشرعية. وقد لخص رئيس الحكومة الموقف حينما قال في "خطاب النّـصر" الذي ألقاه مساء الأحد 12 سبتمبر أمام حشد من أنصاره بأن "حِـقبة الوصاية العسكرية انتهت وأن المفهوم الانقلابي قد هُـزم.. الإصلاحات التي أقرّت، كانت مكسبا لكل تركيا وليس فقط لحزب العدالة والتنمية. انتصرت تركيا بانتصار الخيار الديمقراطي للشعب".

 

كما تقرر التعديلات التي أقرها الاستفتاء، تغيير بنية المحكمة الدستورية وزيادة عدد أعضائها من 12 إلى 17 عضوا، وهذا سيُـحدِث تَـحوُّلا في توازُنات القوة داخلها، بحيث تخرج من أن تكون أداة معطّـلة لكل التعديلات الدستورية المقترحة في البرلمان، وتخرج من أن تكون أداة عرقلة للإصلاح، ومن أن تُـنصّـب نفسها (في بعض الأحيان) مكان السلطة التشريعية. بهذا التعديل، تنكسِـر إحدى أهم ادوات "الدولة العميقة"، التي كانت تتحكّـم بالسلطة السياسية في تركيا وتُـعرقل عملها على مدى حقب مديدة.
الأهم من ذلك أن الإصلاحات طالت أيضا بنية مجلس القضاء الأعلى، أي الترفيع في عدد أعضائه من 17 إلى 22 عضوا، وهو المجلس الذي كان يتحكّـم بالقُـضاة ويتدخّـل في عملهم ويطرد مِـن دون أي وجه حقّ أو اعتراض القُـضاة الذين يتعارضون مع توجّـهاته. بجانب القضاء العسكري، الذي لم يعُـد من مهمّـته حصريا محاكمة العسكريين، حيث أصبح ذلك من صلاحيات المحاكِـم المدنية في حالات لا تتعلّـق بمُـخالفات عسكرية داخلية. إضافة إلى ذلك، لم يعد لمجلس الشورى العسكري الأعلى، حرية التصرّف بطرد الضبّـاط والجنود من الجيش، من دون أي مراجعة. وأصبح للمطرودين الحقّ باستئناف قرار طردِهم أمام المحاكم المدنية، (يقدر عددهم بالمئات).
ولم يعد للمُـدّعي العام الحقّ برفع دعوى إغلاق الأحزاب أمام المحكمة الدستورية، حيث أصبح ذلك يتطلّـب موافقة مجلس النواب. وفي حال أغلَـقت المحكمة الدستورية حِـزبا، فلن يسْـري ذلك على النواب المنتمين إليه الذين لن تسقُـط عهدتهم النيابية تحت أي ظرف، إلا في حالات ارتِـكاب جرائم، إذ أن مَـن أعطى التفويض للنائب، وهو الشعب وحده الذي له الحق بسحب هذا التفويض منه (النائب)، وهو ما لا يكون إلا في الانتخابات النيابية.
إضافة إلى ذلك،وفي خطوة تعرقل أية انقلابات عسكرية على الديمقراطية أو أيه محاولة للافتئات على ارادة الشعب ألغت التعديلات المادة المؤقتة في الدستور رقم 15، والتي كانت تمنع مُـلاحقة قادة الانقلاب الذي وقع في 1980 أمام المحاكم. أما على الصعيد الاجتماعي، فتمنح الإصلاحات الموظّـفين والعمال المزيد من الحريات النقابية وحقّ التنظيم والإضراب، كما تمنح المرأة والطفل والمُـعوَّقين، حقوقا واسعة.

 

الصراع العلماني الإسلامي :
وفي إطار تحليلنا لنتيجة الاستفتاء على التعديلات التي أقرتها غالبية الشعب التركي لا ينبغي التوقف عند مجرد النظر إليها على أنها مجرد تعديل في بعض المواد الدستورية التي لم تعد صالحة للعمل بها, بل ينبغي النظر إليها كقضية حساسة لطرفي الصراع؛ إذ إنها تتعلق بنظرتين مختلفتين للدولة والمجتمع والدين وآلية إدارة البلاد وخياراتها السياسية, ومن هنا تنبع أهمية معركة تعديل الدستور والتي تأخذ طابع الإصلاحات الدستورية والسياسية بنظر حزب العدالة, فيما ترى الأوساط المعارضة لها أنها بمثابة انقلاب أبيض هادئ على آلية إدارة مؤسسات البلاد والتي تمثل الإرث السياسي للأتاتوركية. "
كما أن الأحزاب العلمانية ترى أن التعديل الدستوري هدفه تحقيق المزيد من أسلمة الدولة والمجتمع عبر إلغاء الإمكانية القانونية لإغلاق حزب العدالة والتنمية, وهو ما قد يقود إلى تداعيات خطيرة حسب رئيس حزب الشعب الجمهوري العلماني دينز بايكال, بل إن بايكال ذهب إلى حد التحذير والتهديد من استمرار حزب العدالة والتنمية في مساعيه لتعديل الدستور, وهو تحذير قال البعض عنه إنه يشكل دعوة صريحة للجيش للقيام بانقلاب عسكري في حال أصرّ حزب العدالة والتنمية على التعديلات الدستورية. هذه الحالة الجدلية المشبعة بروح التحريض والاستعانة بالظهير المسلح كانت تعبيرًا صادقًا عن الحالة العلمانية التي تعاني من ضعف غير خاف على أحد بسبب عدم قدرتها على تنظيم صفوفها وإعادة النظر فى خطابها... كما أنها لم تثنِ أردوغان عن المضي قدمًا في إصلاحاته التي رأى أنها إضافة إلى كونها تعبيرًا عن التطورات الجديدة التي ألمت بالمجتمع التركي فإنها في الوقت ذاته تقرب المسافات بين تركيا وبين نظرائها الأوروبيين، كما أنها خطوة جادة على طريق الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي..

 

ما بعد الاستفتاء
ورغم أهمية الانجاز تبقى أمام أردوغان العديد من التحديات، الداخلية والخارجية..منها:

- المسألة الكردية : حيث أعلن الأكراد مقاطعتهم للاستفتاء الذي جرى، وأعلن حزبهم «السلام والديموقراطية» أن المقاطعة كانت جيدة (هي لم تكن عالية كما توقع الأكراد) وأن الهدف الأساسي للأكراد هو الحصول على حكم ذاتي وليكن الحكم الذاتي لمقاطعة «الباسك» في اسبانيا هو النموذج المقترح. ويريد الأكراد أن يدخلوا ضمانة الاعتراف بهويتهم في الدستور الجديد، وهذا أمر ليس سهلاً على الإطلاق أن يقبل به أردوغان من دون عدم استبعاد إمكانية الوصول إلى حل «خلاق».

-المسألة العلوية : والتي تخص كتلة كبيرة. وهؤلاء يطالبون بالاعتراف بهم على أنهم أقلية علوية لهم هويتهم ومعتقداتهم ومراكز عبادتهم الخاصة بهم، مثلهم مثل أي أقلية مذهبية أخرى. أيضاً ليس سهلاً على أردوغان القبول بذلك، وأن ليس أمامه من حل سوى الاعتراف الكامل بالمطالب العلوية التي نصت عليها التقارير الأوروبية، وهي من الشروط الإلزامية من جانب الاتحاد الأوروبي لقبول تركيا عضواً في الاتحاد.

-مسألة إعطاء المسيحيين بعض مطالبهم: مثل الاعتراف بمسكونية (عالمية) بطريركية الروم الأرثوذكس في اسطنبول وإعادة فتح مدرسة الرهبان في جزيرة هايبلي قرب اسطنبول.

-اجتثاث ما تبقى من نظام الوصاية العسكرية: ومن أهم الخطوات على هذا الصعيد هو إلغاء المادتين 35 و85 من نظام الخدمات الداخلية للجيش، والتي تحدد مهمة الجيش بالحفاظ على النظام العلماني وحمايته ولو اضطر الأمر لاستخدام السلاح.

بجانب تلك التحديات يبقى أمام أردوغان وحزبه ثلاث معارك معلنة، وهي:

- وضع دستور جديد للبلاد، فقد أعلن أردوغان، أن حزبه لا يكتفي بالتعديلات الـ 26 على الدستور الحالي، ولكنه يحضر لتغيير الدستور كاملاً واستبداله بدستور مدني جديد.

- تحويل نظام حكم الدولة إلى النظام الرئاسي بدلاً من النظام البرلماني الحالي، فقد نقلت صحيفة "حريت" تصريحاً صحفياً لأردوغان قال فيه: "نحن سنعمل على أن تتحول تركيا إلى النظام الرئاسي بدل البرلماني، وقد يتطلب الأمر أن نعرض هذا في استفتاء شعبي إذا لزم الأمر". ورداً على مخاوف المعارضة التي تقول إن النظام الرئاسي يعني أنه سيعيد نظام الخلافة التوريثي ويلغي سلطة البرلمان استشهد أردوغان بنجاح وديمقراطية النظام الرئاسي في الولايات المتحدة قائلاً: "إن الكونجرس الأمريكي نفوذه واضح في القرارات الرئاسية، فالرئيس الأمريكي لا يمكن مثلا أن يبيع قطع سلاح واحدة للخارج بدون إذن الكونجرس".

- الانتخابات العامة التي لم يبق أمامها سوى 10 أشهر، والتي إما أن تثبت حزب العدالة منفرداً بالسلطة للمرة الثالثة على التوالي- وهو ما لم يحدث من قبل في تاريخ الدولة- وإما أن يفوز بنسبة ضئيلة تجبره على التحالف مع أحزاب أخرى لتشكيل الحكومة، وإما أن تحدث المفاجأة ويفقد السلطة.

 

بجانب ما سبق تأتي مسألة انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي التي باتت أقرب إلى تركيا وبشروطها لا بشروط الأوربيين وفق الواقع الجديد الذي فرضته حكومة العدالة، حيث اختلفت صورته كثيرًا في السنوات الأخيرة، حيث بادرتْ أنقرة في ظلّ حكومة حزب "العدالة والتنمية" لممارسة دبلوماسية فعالة على الصعيد الدولي والإقليمي، خاصةً أنها محاطةٌ ببؤَر صراع قابلة للانفجار في أي لحظة، مما يجعل البقاء في مربع "ردّ الفعل" أمرًا بالغ الخطورة، بعدما اعتمدت لسنوات سابقة على أهميتها الأمنيَّة والعسكرية، وتحالفها مع الولايات المتحدة كأبرز ورقتي ضغط تملكهما لتعزيز حظوظها في اللحاق بالركب الأوروبي، وبالفعل نجحتْ تركيا في السنوات الأخيرة في لعب أدوار فعَّالة على صعيد الصراع العربي "الإسرائيلي"، كما أنها تدخَّلَت بقوة لوقف الحرب بين روسيا وجورجيا، فضلًا عن مشاركتها في قوة "الناتو" العاملة في أفغانستان، ودخولها –مؤخرًا- مع البرازيل في وساطة ما بين إيران والغرب لتسوية الخلاف حول ملف طهران النووي.

 

وتقوم فلسفة هذه الدبلوماسية النشطة على معادلة مفادها أن قيام تركيا بدور فاعل ومؤثر في محيطها الجغرافي ومواطن نفوذها، سوف يعظِّم الاحتياج الأوروبي إليها، ويجعل انضمامها للاتحاد الأوروبي "قيمة مضافة" وليس "عبئًا زائدًا" كما يروِّج لذلك الكثير من ساسة أوروبا، خاصةً أن هذا الطرف من المعادلة يسير بالتوازي مع خط آخر يتعلق بالشأن الداخلي، ويركِّز على تعزيز الديمقراطية وتفعيل دور المجتمع المدني وترسيخ قيم حقوق الإنسان والأقليَّات، والحدّ من دور الجيش في الحياة العامة، ولَجْم تدخُّلِه في الشئون السياسة، كما تقرره التعديلات الدستورية الأخيرة.

وإذا كان اختلاف الدين والثقافة والثقَل السكاني يشكِّل السبب الرئيس للفيتو الذي تضعُه بعض الدول الأوروبية، مثل ألمانيا وفرنسا، على دخول تركيا للاتحاد الأوروبي، فإن الاقتصاد شكل أيضًا عنصرًا مُهِمًّا لتدعيم وتبرير هذا الفيتو، فتركيا كانت شبه "مفلسة" عام 2002، ووصلتْ معدلات التضخُّم والدين الحكومي لمستويات قياسية، وانهارت "الليرة التركية" بينما وصلت البطالة لأرقام قياسية، ولولا قروض صندوق النقد الدولي –حينذاك- لأعلنت أنقرة إفلاسها بالفعل.

 

أما الآن فالصورة تبدو مختلفة تماما، حيث يحقّق اقتصاد تركيا منذ 8 سنوات معدلات نمو مرتفعة، بلغت 11.9% عام 2009، ليحتلّ المرتبة الثانية عالميًّا بعد الصين، بينما لم يتجاوز نمو اقتصاد الاتحاد الأوروبي 0.3% عن نفس الفترة، وقد ارتفع الناتج الإجمالي التركي من 350 مليار دولار عام 2002 إلى 750 مليار دولار عام 2008، وقَفَزَ متوسط دخل الفرد من 3300 دولار عام 2002 إلى 10 آلاف دولار عام 2008، بينما ارتفعت الصادرات من 33 مليار دولار عام 2002 إلى 130 مليار دولار عام 2008، وبينما كان الاقتصاد الألماني يشكِّل خمسة أضعاف نظيرِه التركي قبل ربع قرن أصبح الآن يشكِّل 3 أضعاف فقط، ويتوقع أن يتقلَّص إلى ضعفين بحلول عام 2014، وهو ما جعل الاقتصاد التركي يتبوأُ المرتبة السابعة بين الاقتصاديات الأوروبية، مشكِّلًا نحو 4.3% من إجمالي حجم الاقتصاد الأوروبي مقارنة بنحو 3.4% في عام 1992. في مقابل ذلك فإن أزمة اليونان الاقتصادية كشفتْ عن هشاشة الأوضاع الاقتصادية لكثير من دول الاتحاد، حيث تشيرُ المؤشرات إلى أن البرتغال وأسبانيا وإيطاليا تبدو قريبةً من مصير اليونان، أي العجز عن سداد ديونِها الحكومية، إذا لم تنفذ خططًا صارمة للتقشُّف وضبط الإنفاق، كذلك فإن هذه الأزمة فضحتْ ضعف التعاون بين دول الاتحاد، حيث تقاعس الجميع عن نجدة اليونان من أزمتِها مما أدى لتفاقمِها، ولم يحدث التدخُّل الأوروبي إلا عندما أوشكت أثينا على إعلان إفلاسها، كذلك فإن "اليورو"، الرمز الأبرَز للوحدة الأوروبية، تحوّل خلال هذه الأزمة إلى عِبءٍ ثقيل، حيث أن القيود الصارمة التي تضمنتها اتفاقية العملة الأوروبية الموحَّدة حرمت اليونان من اتخاذ أي مبادرة ذاتية لعلاج الأزمة. وفي المحصِّلة فإن أوروبا تحتاج بشدة لقوة اقتصادية نامية تضخّ دماءًا جديدة في عروق اقتصادها العجوز، حيث أن تركيا بسكانها الـ 73 مليون نسمة تشكِّل سوقًا استهلاكية ضخمَة، خاصة في ظلّ القفزات المتتالية في معدل دخل المواطن التركي، وإن كان ذلك لا ينفي حاجةَ أنقرة كذلك إلى الاتحاد الأوروبي، الذي تمتص أسواقه أكثر من نصف الصادرات التركية.

 

وبشكلٍ عام فإن الانضمام للاتحاد الأوروبي لم يعد الخيار الوحيد المتاح أمام الأتراك، بل إنه بات خيارًا جيدًا من بين عدة خيارات أخرى استطاعتْ أنقرة أن تصنعها وتضعها على المائدة، ورغم أن حكومة أردوغان تؤكِّد بشدة تمسكَها بالحصول على عضوية كاملة في "الاتحاد الأوروبي"، رافضةً الصيغ الفرنسية والألمانية بمنحها "مكانة متميزة" لكن دون العضوية الكاملة، إلا أن كافة المؤشرات تشير إلى أن أنقرة لم تعدْ تتعامل مع الأمر باعتبارِه مسألةً "مصيرية"، وأن تشديد أردوغان ورفاقه المتكرّر على تمسكِهم بالحلم الأوروبي يرجع إلى سببين: الأول إزالة شكوك الغرب تجاه ما يعتبرها "ميولًا إسلامية" دفينة لدى "العدالة والتنمية"، وسوف تتزايد هذه الشكوك إذا ما أعطى أردوغان ظهرَه لأوروبا والغرب، أما الثاني فهو استخدام ورقة "المعايير الأوروبية" لإبعاد يدِ الجيش عن الحياة السياسية بشكلٍ كامل، وتمرير مشاريع تعزيز الحريات وحقوق الإنسان بما يقلِّص قبضة النُّخَب العلمانية على التعليم والقضاء والإعلام، وغيرها من أوجُه الحياة في تركيا.

 

ختاما لابد من الاعتراف بأن خطة الإصلاح التي تحقّـقت لم تأت من فراغ، بل سبقتها خطوات إصلاحية عديدة منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في نهاية عام 2002. وهو ما يعني أن الإصلاح مسار يتحقق بالتدريج، خصوصا في بلد كان مُـكبّـلا بالسياسات الاستِـبدادية والمتطرِّفة للعسكر وفريق من غلاة العِـلمانيين، لذا، فإن ما هو مطلوب من اردوغان بعد استفتاء 12 سبتمبر، سيكون كبيرا وذلك بعد تحقيقه 6 انتصارات سياسية متتابعة –تعظم من تبعات المرحلة المقبلة- وكانت أولى هذه الانتصارات فوزه في عام 2002 بنسبة 34% من الأصوات في الانتخابات العامة، وهي نسبة مفاجئة بكل المقاييس لحزب جديد مكنته ليكون أول حزب يشكل الحكومة منفرداً في العقود الأخيرة من عمر تركيا. وفي عام 2004 فاز في الانتخابات المحلية بنسبة 41% وهو ما رفع رصيده في الانتخابات البرلمانية لعام 2007 ليحقق النصر الثالث ويفوز ب 47% ويشكل الحكومة منفرداً مجدداً. وفي عام 2007 نجح الحزب في تغيير مادة في الدستور ليسمح للمواطنين باختيار رئيسهم بالاقتراع المباشر وليس عبر البرلمان كما كان معتاد؛ ما رفع رفيقه ووزير خارجيته آنذاك، عبد الله جول بإرادة 69% من الأصوات، إلى سدة الحكم كأول رئيس لتركيا الحديثة العلمانية من جذور إسلامية، ولتصبح زوجته أول محجبة تتسيد قصر شكنايا الرئاسي الحصين. النصر الخامس كان في عام 2009 في الانتخابات المحلية، وإن حملت مؤشراً مقلقاً لحزب العدالة وهو تراجع شعبيته؛ حيث فاز بنسبة 38%، ثم جاء النصر السادس الأحد 12-9-2011 بأن صوت 58% من الشعب لصالح التعديلات الدستورية الـ 26 التي اقترحها ليغير بها وجه تركيا العسكري...ما يقرب تركيا أكثر من محيطها الاقليمي والدولي وعمقها الحضاري في المنطقة العربية بجانب دورها المؤثر في العالم الاسلامي..