هزيمة أمريكا في أفغانستان
27 رجب 1431
عبد الباقي خليفة

أكثر من 100 قتيل حصيلة خسائر قوات الاحتلال في أفغانستان ، خلال شهر يونيو الماضي ، رغم اعتماد الاحتلال لاستراتيجية الدروع البشرية الممثلة في القوات الحكومية الافغانية . وإذا كان شهر يونيو الماضي الأكثر دموية حتى ذلك الوقت ، فإنه من المتوقع أن تزداد وتيرة الخسائر بقدر ارتفاع عدد الجنود الذين سيرسلون إلى حتفهم في أفغانستان .

 

ووفقا لوزارة الدفاع الأمريكية فإن عدد القتلى الأمريكيين فقط حتى 24 يونيو الماضي بلغ 320 قتيلا . إلى جانب ذلك تَتَابع أنباء الفساد الذي يمثله حكم كرزاي تترى ، وكان آخرها تهريب أكثر من 3 مليارات دولار خارج أفغانستان . وعمليات تهريب الأموال تفيد بأن كرزاي وجماعته يعدون العدة للفرار بعد خروج قوات الاحتلال . وذلك تزامنا مع تهديدات وجهتها طالبان لشركات البحث عن المعادن ، بعد أسبوعين من الاعلان عن اكتشاف كميات هائلة من المعادن يمكنها أن تحدث نقلة اقتصادية نوعية كبيرة في البلاد الذي مزقته الحروب العدوانية ، وحتى الخلافات الداخلية .
كما تزامن ذلك مع هجوم لطالبان استهدف قاعدة عسكرية للاحتلال ، قالت طالبان أنها أسفرت عن قتل 16 جنديا من قوات الاحتلال .

 

غبار أفغانستان :
لقد تبين للأمريكان بأنهم وقعوا في مأزق كبير ، وذلك بعد أكثر من 8 سنوات من العبث بوحدة الأفغان ، وإزهاق أرواح المدنيين منهم ، ومحاولات فاشلة في شراء ذمم بعض المجاهدين ، ولا سيما من حركة طالبان ، من خلال رفع أسمائهم من قوائم الإرهاب. وليس أدل على ذلك من تصريحات مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية ، سي آي إيه ، ليون بانيتا ، والتي ذكر فيها بأن " الحرب في أفغانستان أكثر صعوبة مما كان متوقعا".
لقد انجلى غبار8 سنوات من القتل الجماعي لأهالي القرى الأفغانية ، عن الحقيقة ، وهي فشل الاحتلال في تحقيق أهدافه ، وفي مقدمتها القضاء على طالبان ، ولكن بعد قرابة عقد من الزمن ، تثبت طالبان ، ليس وجودها فحسب ، بل تفوقها وعنفوانها وشدتها أيضا.
وكان الخلاف بين العسكريين والقيادة الامريكية المدنية ، قد كشف حجم الانهيار في معسكر الاحتلال ، وهو ما لمسته حركة طالبان ، والتي أعلنت بأن " قرار الرئيس الأمريكي باراك أوباما بإقالة أكبر مسؤول عسكري لبلاده في أفغانستان ، ( ستانلي ) يعد دليلا على خسارة أمريكا للحرب "

 

حتى القائد الجديد لقوات الاحتلال في أفغانستان الجنرال ديفيد بترايوس ، والذي تولى المهمة التي كان يقوم بها سلفه الجنرال ستانلي ماكريستال ، والذي فر من المعركة بطريقة ذكية عن طريق مهاجمة رؤسائه المدنيين وفي مقدمتهم الرئيس أوباما ونائبه جون ماكاي . وبالطبع ، كان يتوقع إقالته ، التي مهد لها عمدا بتصريحاته المشهورة .

 

ولم تكن حركة طالبان ، والمراقبون المستقلون ( أمثالنا ) من تراءت لهم حقيقة الأوضاع الميدانية في أفغانستان فحسب ، بل أن جهات سياسية وإعلامية تحظى بالاحترام داخل أمريكا نفسها ، باتت تدرك ذلك جيدا . فقد كشفت صحيفة " واشنطن بوست " الأمريكية النقاب عن حالة من البلبلة وعدم الاستقرار داخل الجيش الأمريكي ، بسبب الحربين اللتين تخوضهما حاليا ، إضافة إلى تغيير قيادة الجيش من حين إلى آخر . وقالت الصحيفة يوم 27 يونيو 2010 م إن " وضع الجيش الأمريكي في حالة بلبلة وعدم استقرار في الآونة الأخيرة بسبب انخراط الجيش في حربين في كل من العراق وأفغانستان في وقت واحد ، وبسبب تغيير قيادة الجيش بين حين وآخر " وقالت الصحيفة " منذ عام 2001 م اعتلى عشرات القادة أبرز الوظائف العسكرية في العراق وأفغانستان ، وبين هؤلاء العشرات ، ثلاث قادة بينهم الجنرال ستانلي ماكريستال ، والذي أقيل حديثا بسبب تصريحاته الساخرة وبقسوة من المسؤولين الأمريكيين " وأشارت الصحيفة إلى أن بقية القادة " تم طردهم ، أو قدموا استقالتهم تحت وطأة الضغط " .

 

ماذا يحمل بتريوس :
لم يكن الجنرال ديفيد بتريوس ، السيف النازل من السماء ، لإنقاذ أمريكا من عار الهزيمة في أفغانستان . وإنما كان خشبة لسد الفراغ الذي تركه الجنرال ستانلي ، والذي توقع ازدياد الخسائر ، وعدم تحقيق أي تقدم يذكر خلال الشهور الستة القادمة . فما الجديد الذي أضافه بتريوس ؟!

 

لم يضف بتريوس جديدا ، بل كرر ما قاله سلفه ، فقد توقع هو الآخر ، ارتفاع عدد القتلى في صفوف جنود الاحتلال خلال الفترة المقبلة ، وذلك بعد ارتفاع عدد القتلى إلى أكثر من 100 جندي قتيل خلال شهر يونيو 2010 م . وقد نفى وأكد في نفس الوقت ، عملية الانسحاب الأمريكي في 2011 م بقوله الذي ينم عن إرباك حقيقي " البيت الأبيض لم يقل بأن الانسحاب من أفغانستان سيبدأ في يوليو 2011 م بل إن العملية الآيلة إلى ذلك ( الانسحاب ) ستبدأ في هذا التاريخ " ؟!!!
لقد استدعت التصريحات المتناقضة لبتريوس ، تدخل رئيس لجنة العسكريين في الكونجرس ، كارل ليفين ، الذي أوضح بشكل جلي قرار الانسحاب ، حيث شدد على وجوب أن يبدأ الانسحاب من أفغانستان في يوليو من العام المقبل ، معتبرا أن من شأن ذلك وضع المسؤولين الافغان أمام الأمر الواقع الداهم .

 

ومع تزايد الكراهية الشعبية لوجود الاحتلال في أفغانستان ، بسبب التكاليف ، وارتفاع عدد قتلى جنود الاحتلال في دول حلف شمال الأطلسي ، وبسبب العدوان الذي يستهدف المدنيين ، والبنية الثقافية للشعب الأفغاني ، كحوادث تدنيس المصحف الشريف ، وهي حوادث متعمدة ، تهدف لإذلال الشعب الأفغاني ، والنيل من أقدس مقدساته (وقد تظاهر الأفغان في كابل يوم 29 يونيو 2010 م ، احتجاجا على عدوان جديد على المصحف الشريف ، واعتقال إمام مسجد)، فإن الطريق لا يبدو ممهداً لبيتريوس، ولا أحد يمكنه القول بأن ذلك سيحقق نصراً للأمريكان في أفغانستان؛ إذ هل سيكون هذا العبث هو ما سيكرس بيتريوس لها مهامه في أفغانستان مستقبلا إلى جانب الاستمرار في قتل المدنيين ، والعمل على نشر الفتن بين الأفغان ، والتمهيد لحرب أهلية جديدة ، وهو ما أشارت إليه صحيفة " الأوبزرفر " نقلا عن أحد " الخبراء " قوله " إن البلد يقترب من سيناريو حرب أهلية مروعة " مضيفا بأن السكان يعتقدون أن " القوات الأجنبية ( قوات الاحتلال ) تخسر الحرب التي تخوضها ضد طالبان " وهناك مصادر أخرى تحدثت أيضا عن الحرب الأهلية ، وإن كان من منطلق تبرير الحوار مع طالبان .

 

الفرار من أفغانستان :
احتمال فرار قوات الاحتلال من أفغانستان ، أمر وارد ، في حالة رفضت طالبان التفاوض على الطريقة التي يعرضها الاحتلال . كالمشاركة في الحكم تحت إشراف الاحتلال ، فضلا عن إلقاء السلاح والانخراط في العمل السياسي . ويبدو أن الفرار هو أحد الاستراتيجيات العسكرية لعدد من الدول من بينها ايرلندا ،واستراليا، وألمانيا . فقد طالب وزير الدفاع الألماني ، كارل تيودور تسو جوتنبرغ ، بتحديد موعد لانسحاب قوات الاحتلال من أفغانستان . وإن كان برر ذلك بهدف زيادة الضغط على الحكومة الأفغانية ، في ظل ازدياد هجمات حركة طالبان التي أصبحت توصف في الأدبيات الأطلسية ، بالشرسة . وقال الوزير الالماني عقب مباحثات مع نظيره البريطاني ، وليام فوكس ، في لندن يوم الثلاثاء 29 يونيو 2010 م " إن على الجميع أن يعلموا أن الجنود لن يبقوا في أفغانستان لأجل غير معلوم " . أما نظيره البريطاني فوكس فقد تحدث عن " الخروج الآمن " من خلال " إعطاء دفعة للعملية السياسية " وطالب فوكس بإجراء حوار مع حركة طالبان . وإن كان فوكس قد أشار باحتشام إلى امكانية اجراء حوار مع ما يوصفون بالمعتدلين من طالبان ، إلا أن ذلك يخفي طموحا لمحاورة طالبان بجسمها الجهادي وقيادتها المعروفة ، حتى لا يقال إن حلف شمال الأطلسي انهزم في أفغانستان كما انهزم الروس .

 

ويحدد قائد الجيش البريطاني ، بقاء قوات الاحتلال 5 سنوات أخرى ، فيما أعلن المتحدث باسم رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون " أنا أفترض أننا سنبقى منشغلين في أفغانستان من 3 إلى 5 سنوات أخرى ، وهذا هو الافتراض المعمول به حاليا في وزارة الدفاع " . وإذا كانت بريطانيا قد فقدت أكثر من 300 جندي في أفغانستان حتى الآن فإن السؤال المطروح هو كم سيبلغ عدد القتلى من الجنود البريطانيين إذا ما استمرت بريطانيا في احتلالها لأفغانستان ؟!
وربما كان رئيس هيئة الأركان البريطاني ، السير ديفيد ريتشاردز ، أكثر حصافة من بقية السياسيين والعسكريين البريطانيين ، عندما أكد على ضرورة البدء الفوري في الحوار مع حركة طالبان ، كجزء من استراتيجية انسحاب قوات الاحتلال من أفغانستان . وقال ريتشاردز لبي بي سي يوم 28 يونيو 2010 م إلى أن " وقت التفاوض قد حان " . كما طالب نواب بالكونجرس الأمريكي ، الرئيس أوباما باستراتيجية للخروج من أفغانستان ، بعد انتقادات حادة إلى الاستراتيجية التي تتبعها قوات الاحتلال ، مؤكدين على ضرورة وجود استراتيجية للخروج من هذا البلد المحتل .

 

الانسحاب من أفغانستان ، بهذه الطريقة أو تلك ، هي قدر الحرب الدائرة منذ أكثر من 8 سنوات في البلد الذي لم تستقر فيه قوة احتلال على مدى تاريخه الطويل ، بدءا بالحرب مع الهند مرورا بالاحتلال البريطاني ، والغزو الروسي ، وانتهاءً بالغزو الأطلسي لأفغانستان سنة 2001 م . فالانسحاب من أفغانستان أصبح حديث الجميع ، حيث أعرب قائد قوات الاحتلال البريطاني في أفغانستان ديفيد ريتشاردز عن اعتقاده بقرب بدء مفاوضات مع حركة طالبان كجزء من استراتيجية الانسحاب . وقال ريتشاردز " إن أي حملة ضد ما أسماه حركة تمرد عبر التاريخ كانت تشهد في وقت ما حوار بين الجانبين" . وكل تلك التصريحات ، ليست سوى تمهيدات للمفاوضات حتى لا تفاجئ الرأي العام.