مؤتمر بكين .. انتكاس للفطرة ( 2-2 )
13 جمادى الأول 1431
ماجد بن جعفر الغامدي

تحدث الكاتب في الحلقة السابقة عن مؤتمر بكين بالتطرق إلى خلفيته التاريخية، وأبرز دعوات المؤتمر، كما تناول تحليلاً لبعض بنود وثيقة المؤتمر وما تدعو إليه، وكيف تعامل العالم مع هذه الوثيقة، وفي هذه الجزء الثاني والأخير نرحل مع الكاتب في رؤية الإسلام لما تناولته وثيقة بكين، وغيرها من الأمور الأخلاقية.. فإلى الجزء الأخير من الموضوع..

 

الإسلام عائق في تنفيذ الوثيقة :

كما أن خطر هذه الأيديولوجية البديلة يتمثل أيضاً في اقتحام مناطق كان يُنظر إليها باعتبارها خاصة أو شخصيـة، ويُنظّم أوضاعها بشكل أساسٍ الدين والتقاليد والأعراف المحلية والثقافات الخاصة، أي أن الاقتحام والهدم لهذه الأيديولوجية ينال مناطق متصلة بالهوية والثقافة والوجود، وهي محور الكيان الإنساني والوجود البشري، ويقف وراء هذه الأيديولوجية فكر شيطاني يريد أن يجعل من الأخلاق فوضى ومن الفاحشة شيوعاً وذيوعاً .

وبالنسبة للحضارة الإسلامية فلا يزال الدين الإسلامي يمثل مرجعية للناس ونظاماً لحياتهم خاصة في مسائل الأسرة والأحوال الشخصية وفي مسائل الفكر والثقافة والاعتقاد، وهو ما يزعج الأمم المتحدة والغرب؛ إذ إن المسلمين يمثلون ملياراً ونصف مليار نسمة تقريباً، والعالم الإسلامي بإمكاناته وثرواته وأهله يهدد النظام العالمي الجديد بفقدان سيطرته عليه ما بقي الإسلام حاكماً للجوانب الاجتماعية والثقافية وللهويّة؛ ولذا لا بد من تسديد الضرب إلى الصميم للقضاء على الهوية الإسلامية، وعلى النظم الاجتماعية التي أثبتت أنها القلعة التي حمت العالم الإسلامي من السقوط والانهيار، وهكذا فإن الصراع مع الغرب انتقل من السياسي والاقتصادي إلى الديني والثقافي والاجتماعي المتصل بالهوية والوجود؛ وهو ما يتطلب وعياً جديداً وأدوات جديدة؛ كما يتطلب يقظة ومقاومة في صميم الأيديولوجية وتستمد الأيديولوجية الجديدة جذورها الفكرية من الماركسية الحديثة حيث تعتبر أن خطأ الماركسية القديمة هو اللجوء إلى الأساليب الاقتصادية لبناء مجتمع "لا طبقي"؛ بينما ترى الأيديولوجية الحديثة أن اللجوء إلى الأسالـيـب الاجـتماعية هو السبيل الوحيد لمجتمع خالٍ من الطبقات والميول الطبقية، وتمثل "الأسرة" والأمومة في نظر "الماركسية الحديثة" تمثل السبب وراء نظام طبقي جنسي يقهر المرأة لا يرجع إلا لدورها في الحمل والأمومة .
وتمثل توصيات المؤتمرات الدولية والمعاهدات والاتفاقيات العالمية المرجعية العالمية الجـديـدة التي يمكن وصفها بأنها "أيديـولوجية نسوية" لها قوة الأيديولوجيات السياسية التي عرفها القرن الماضي ثم انهارت وخبت وماتت .
وكما كان يحدث بالنسبة للأيديولوجيات السياسية والفكرية فإن الأيديولوجية النسوية الجديدة يُراد لها أن يكون معتنقوها في كل العالم وفي كل الدول والشعوب وفي كل الأعمال؛ فإنها الوسيلة الجديدة لغزو العالم وشعوبه، وهي الدين الجديد الذي يُراد للعالم أن يتوحّد خلفه ويدين به، ويريد أن يفرض هذا الدين والأيديولوجية بالقوة على العالم كله بحيث تكون هناك قوة عالمية واحدة ومرجعية كونية واحدة وإنسان عالمي واحد، وتنهار كل الحدود والقيود والحصون أمام هذه القوة العالمية الجديدة والمنفردة بحيث تصبح إرادتها ورغباتها ومصالحها مُسلَّماً بها ومُرحَّباً بقدومها بلا أي عوائق من الدين أو اللغة أو اللون أو
الجنس أو القومية أو الثقافة.
أي أن المرجعية الكونية الجديدة هي بديل لكل ما عرفته الأمم والأجناس البشرية مـن ثقافات وتاريخ وصراعات وأفكار؛ بحيث يغدو كل هذا ذكرى بلا قيمة ولا معنى، وتصبح القيمة والمعنى في المرجعية الكونية البديلة والجديدة التي يتحوَّل فيها البشر جميعاً عبيداً للإله الذي قررها، وهو النظام العالمي الجديد.

 

الشرائع السماوية ترفض الانحلال :
ومع تقديم الوثيقة وإلزام الدول بتنفيذها فهم على علم تام بما سيحدث لها من معارضات؛ فقد ربطوا هذه الانحرافات التي يُروّجون لها بالديمقراطية والازدهار، وذكروا أنهم سيُجابهون أياً من "رجال الدين" ممن تسوِّل له نفسه الاعتراض على
هذه المطالب، أو رفض تعديل التَّعاليم الدِّينية كي تتماشى مع مخططهم؛ ولذلك فقد أشارت الوثيقة بوضوح إلى أن الدين يقف عائقاً أمام تحقيق هذه المقررات، فناشدت الوثيقة المؤسسات الدينية لكي تساعد على تحويل مقررات مؤتمر بكين إلى واقع بمعنى أن تصبح المؤسسات الدينية إحدى أدوات المرجعية الكونية الجديدة التي يتبناها النظام العالمي ويسعى لفرضها على العالم .
وأما عن ردات الفعل الدينية فقد حدث ما تنبأت به الوثيقة؛ لأن كثيراً مما أتت به وثيقة بكين لا يقرّ به العاقل وجميع الشرائع السماوية ترفضه تماماً.

 

فالأزهر الشريف أبدى رفضه لمقررات المؤتمر، بل وحتى الكنيسة الشرقية والفاتيكان انزعجوا من المؤتمر واعترضوا على بنوده، وقد صدر بشأنه قرار من هيئة كبار العلماء بالسعودية، وقرار من المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي، وكلاهما برئاسة الشيخ عبد العزيز بن باز – رحمه الله – ومما ذكر ابن باز في بيانه بعد أن تحدّث أنه اطلع عليه كاملاً وعلى مقرراته فقال:" والآن يأتي مؤتمر بكين، وقد تبنّت مسودة الوثيقة المقدمة للمؤتمر من الأمانة العامة لهيئة الأمم المتحدة على مبادئ كفرية، وأحكام ضالّة في سبيل تحقيق ذلك، منها: الدعوة إلى إلغاء أي قوانين تميز بين الرجل والمرأة على أساس الدين، والدعوة إلى الإباحية باسم: الممارسة الجنسية المأمونة، وتكوين الأسرة عن طريق الأفراد، وتثقيف الشباب والشابات بالأمور الجنسية، ومكافحة التمييز بين الرجل والمرأة، ودعوة الشباب والشابات إلى تحطيم هذه الفوارق القائمة على أساس الدين، وأن الدين
عائق دون المساواة... إلى آخر ما تضمنته الوثيقة من الكفر، والضلال المبين، والكيد للإسلام وللمسلمين، بل للبشرية جمعاء، وسلخها من العفة، والحياء، والكرامة؛ لهذا فإنه يجب على ولاة أمر المسلمين، ومن بسط الله يده على أي من أمورهم- أن يقاطعوا هذا المؤتمر، وأن يتخذوا التدابير اللازمة لمنع هذه الشرور عن المسلمين، وأن يقفوا صفاً واحداً في وجه هذا الغزو الفاجر، وعلى المسلمين أخذ الحيطة والحذر من كيد الكائدين، وحقد الحاقدين" ا.هـ
وقد قامت اللجنة الإسلامية العالمية للمرأة والطفل بإصدار تقرير يوضح التصور الإسلامي لما ورد في "وثيقة بكين" وسُمي بـ "التقرير البديل"، وهو يرفض إجمالاً: كل ما يدعو إلى الحرية الجنسية والإباحية، وكل أنواع العلاقات الجنسية خارج إطار الأسرة، وكان لهذا التقرير أصداء واسعة خاصة بعد أن تمّ توزيعه في بعض المؤتمرات التي عُقدت وطرحت الرؤية الإسلامية للمرأة بشكل جلي واضح، وكيف أن الإسلام حفظ لها كامل حقوقها ورفعها عن الدنس والرجس .

 

تود الزانية لو أن النساء كلهن زواني:
وأما هذه المجتمعات الغربية والتي قد شرعت مسبقاً في تنفيذ هذه القوانين الشاذة فقد عاد ذلك بالنكبات المتتابعة عليهم، وزادتهم تمزقاً وفرقة، وهنا لغة الأرقام تتحدث؛ فالإحصاءات والبيانات التي تصدر تباعاً من داخل المجتمعات الغربية تؤكد ذلك، وعلى سبيل المثال لا الحصر. تقول بعض المصادر الأمريكية: إن هناك حوالي مليون فتاة أمريكية من المراهقات يحملن كل عام ( خارج الزواج )، وأن حوالي300))ألف منهن دون سن الخامسة عشرة، وأن (400) ألف منهن يقدمن على الإجهاض .

كما تؤكد الدراسات العديدة الصادرة عن أشهر ثلاثة باحثين أمريكيين في السلوك الجنسي وهم ( كنزي و جونسون و ماستر ) أن 50% من الذكور الذين تمت دراسة حالتهم قد مارسوا الجنسية المثلية – والعياذ بالله - كما تؤكد دراسات أخرى أن مليون ونصف امرأة وفتاة يمارسن السحاق، وإلى غيرها من الأرقام المخيفة والمفجعة، والمنبئة بخطر داهم على هذه المجتمعات ذات الشهوات الحيوانية إن هم استمروا على فحشهم .

 

وها هو العالم الغربي في أوروبا يواجه حالة من العقم، إذ أدّى الانحلال الأخلاقي والشذوذ إلى عدم تعويض الأجيال العجوز بأجيال جديدة من المواليد، كما أن مؤسسة الأسرة تواجه الانقراض هناك، حيث ترتفع نسب الطلاق والامتناع عن الزواج، كما ترتفع نسبة الأولاد غير الشرعيين، وترتفع نسب الإلحاد، والمثير أن ذلك كله يتناسب تناسباً طردياً في حالة الدول ذات الوضع الرفاهي الأعلى، وفي أمريكا حيث يتمرد المهاجرون من آسيا والشرق الأوسط ودول أمريكا اللاتينية على برامج تنظيم الأسرة، وهو ما يحافظ على إبطاء شيخوخة المجتمع الأمريكي، وأظن أن الدمار الذي أصاب الغرب يريد أن يشاركه فيه العالم كله خاصة المسلمين ـ كالزانية التي تودّ أن لو صار الجميع مثلها .

 

إذن:
إن الإنسان: الرجل، والمرأة، والأطفال، والأسرة هم المقصودون بالهجمة العالمية الجديدة وهم المقصودون بالمرجعية الكونية البديلة للنظام العالمي الجديد، وعلى عالمنا الإسلامي أن ينتفض ويستيقظ؛ فإن وجودنا مرتـبــط بمدى ارتباطنا بكلمة: "مسلمين" اسماً وفعلاً؛ وإلاَّ فالاستبدال كما قال ـ تعالى ـ: (وإن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ). [سورة محمد: 83].
وما ينبغي علينا أن نفعله لمواجهة هذا الخطر الذي يهدّد كياننا الأسري يتلخّص في: إعطاء المرأة كامل حقوقها التي منحها إياها الإسلام، والنظر إليها نظرة الإسلام الصحيحة؛ فالقصور الموجود حالياً في مجتمعاتنا الإسلامية هو الذي أوجد
فيها ثغرات نفذوا إلينا من خلالها، وإنها مسؤولية دينية علينا نحن المسلمين،وهي المبادرة تجاه الإنسانية لإنقاذها من هذا التيه والانفلات والفوضى الجنسية التي تفرضها عليها الصهيونية العالمية؛ فنحن لو أنصفنا المرأة، وأعطيناها كامل حقوقها في الإسلام نكون قد أعطينا للإنسانية النموذج الأمثل الذي يُحتذى به .

 

وفي هذا السياق فإن الجدير بأمة الإسلام أن تفيق من غفوتها، وتقوم من كبوتها، وألاّ تغتر بتلك الدعوات الآثمة، وأن تحذر من أن يُمّرر عليها ذلك من خلال الوسائل الإعلامية التي تخدم توجهات تلك المؤتمرات عبر زمرة الفن الرخيص وتجار الغرائز، وليحذر أولئك المهرولون في ركابهم من أن يكونوا شؤماً على أمة الإسلام بما قد تتلقفه قلوبهم من تلك الأباطيل؛ فيوحي إليهم الشيطان بإحلاله في بلاد الإسلام، وخاصة وسائل الإعلام في بلاد الإسلام والإعلاميين والمثقفين الذين يرومون التحديث والتجديد؛ فإن كثيراً منهم قد طالت معاناة الأمة من إفكهم و تلبيسهم وهرطقاتهم التي يتلقفونها من الشرق والغرب، ويودّون إحلالها بين المسلمين بدلاً من شريعة رب العالمين بدعواتهم التي راموا من ورائها تغريب الأمة وتغريرها، وعمدوا من خلالها لتحريض المرأة ودعوها لنبذ العفة والفضيلة، وتباكوا على المتمسكين بالوحيين ورموهم بالتهم والأباطيل، والتي بدت في كتاباتهم، وفي لحن القول مما تنطق به أفواههم، فالعودة العودة إلى حياض النجاة، والتمسك بشرع خالقنا فبه فلاحنا ونجاحنا بإذن ربنا .