العالم في مأزق!
25 صفر 1431
طلعت رميح

يبدو العالم وقد خيمت عليه سحابة اظلام ضخمة، لا يتمكن احد من النفاذ منها لرؤية الطريق، وفى منطقتنا فالبادى أن كل الدول والقوى السياسية (حركات المقاومة والقوى القومية والليبرالية واليسارية) ومحور الممانعه (حسب الوصف الرائج) ومحور الاعتدال (حسب الوصف ايضا) قد وصلت حد المأزق. وعلى الصعيد الدولى فان الدول بمختلف اتجاهاتها ومعالم قواها ووجودها ودورها الموزع فى مختلف اطراف الكرة الارضية قد وصلت حد المازق من أوروبا لأمريكا إلى روسيا إلى الصين. .الخ..لا احد بعيد او خارج دائرة المازق فى الصراعات الاقليمية او الدولية وفى داخل الدول يبدو الوضع كذلك،بل ان اتجاهات الحلول ذاتها صارت باهتة وغير واضحه، إلى درجة ان يمكننا القول بان الآنسانية صارت فى مازق !.

 

فى الوضع الدولى لم نعد امام صورة واضحه كتلك التى عاشها العالم خلال نهضة أوروبا وتحولها إلى ظاهرة استعمارية –حتى مع صراعاتها وحروبها وتبدل معالم القوة بين دولها من اسبانيا والبرتغال إلى بريطانيا وفرنسا-ولم نعد امام صورة واضحه كتلك التى عاشها العالم خلال الحرب الباردة او خلال انفراد الولايات المتحدة بادارة العالم بعد سقوط وانهيار الاتحاد السوفيتى. يبدو العالم فى ضباب شامل او بات يعيش فى حالة اللاوضوح، فلا خط صراع واضح بين الدول الكبرى بل كل خط وصراع يتداخل مع عشرات اخرى، فاذا تصارعت الصين مع أمريكا لا شك ان خطوط الصراع الأمريكى الروسى والمصالح بين ذات البلدين تقفز فى داخل الصراع الصينى، وبنفس الطريقة يقفز الصراع الصينى الهندى والهندى الباكستانى والصينى واليابانى..الخ. وهى حالة تختلف كثيرا عن حالة الصراع خلال الحرب الباردة (مثلا) اذ كان هناك قطبان لا ثالث لهما او خلال انفراد الولايات المتحدة بادارة العالم ما بعد الحرب الباردة حين كانت أمريكا وحدها من يقرر ويدير وينفذ، إلى درجة حشد كل القوى الدولية مجتمعه فى العدوان على العراق فى مطلع التسعينات. الحال الآن مختلف فى كل الصراعات الجارية فى العالم، الحربى منها والاقتصادى والسياسى وعلى صعيد التحالفات، والتحالفات المضادة، وكلها غير محددة الملامح. .الخ.

 

الكل مازوم وفى مازق وخطوط الصراع متداخلة. أوروبا صاعدة لكنها فى صعودها واقعة تحت ضغوط من داخلها تتعلق بمن دخل جديدا إلى دارها من دول أوروبا الشرقية التى هى ثقل تعطل الآنطلاق حاليا وان كانت مستقبليا هى من يعطى لأوروبا فكرة انها أوروبا لا نصفها. وهى كذلك تخشى الروس المدججين بالسلاح حتى اعلى رؤوسهم كما تخشى الحليفة أمريكا التى تطمح أوروبا أن تحل محلها فى إدارة العالم، فى حركة استراتيحية عكسية لما جرى من قبل أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية. .والتفاصيل تطول، لكن الاهم هو ان الطريق صار متعدد الاتجاهات ومطلوب السير فى كل اتجاهاته فى وقت واحد اذ عين أوروبا لا تغفل عن الصين والهند والبرازيل وايران، وكلها اطراف منازعة فى المستقبل.وفى الآنتقال لروسيا، فنحن امام حالة خطرة للغاية. هى دولة كبرى عسكريا لكنها دولة اقليمية القدرة الاقتصادية والعلمية. هى تطمح إلى العودة للهيمنة على من خرج من تحت عباءة الاتحاد السوفيتى السابق لكنها ليست على ايديولوجيته.

 

كما هى تواجه تلك الدول والشعوب وخلفهما أوروبا وأوروبا وأمريكا، دون ان تكون هناك حالة كتلك التى سمحت لها بان تحتل وتستولى على دول أوروبا الشرقية (الحرب العالمية الثانية)، كما تلك البلدان المستهدفة لم تعد كما كانت، اذ صارت جزءا الآن من منظومة أوروبا الموحدة ومشاركة بشكل متدرج فى حلف الاطلنطى. ومن جانب اخر تطمح روسيا لأوروبا قوية على حساب الخصم الاكبر الولايات المتحدة لكن قوة أوروبا تاتى بدولة جوار اقوى من روسيا، بما جعل الطريق معقدا وشائكا.وهى ان ارتطبت بالصين شعرت بقلق من الجار المارد وان ابتعدت عنه فهى لا تقوى على مواجهة أمريكا وأوروبا. وبالذهاب إلى الصين، فالوضع هو الاخر بالغ التعقيد. هى دولة قارة مليارية السكان مضاف اليهم ما يساوى حجم الكتلة السكانية العربية، وهى لذلك مهما نمت بسرعة يظل مشوراها طويلا ومعقدا بسبب ضخامة عدد السكان، اذ هى تحاول انجاز ما انجزته الولايات المتحدة عبر مائتى سنة وبالحروب، من خلال وسائل سلمية وفى عقدين من الزمان.

 

وهى تقترب من روسيا لانها تعرف عظم القدرة العسكرية الروسية على الأقل لان الصين هى المستورد الأكبر لسلاحها، لكنها تعرف بخبرتها التاريخية ان الروس لهم مطامح الدولة العظمى المهيمنة، وذلك ما وصل بعلاقاتها مع الصين من قبل إلى حد القطيعة والصراع معها، فيما سمى بالصراع الصينى السوفيتى. وهى تعرف مدى ما ينصب لها من دوائر حصار استراتيجى فى الاقليم من الهند لليابان إلى تايوان فتخشى التمدد بساقيها إلى مدى ابعد فى قارات العالم المختلفة وإلا صارت راسا بلا اقدام من بعد، لكنها تدرك ان لا تطور لقدرتها كدولة عظمى دون الوصول بنفوذها إلى كل دول العالم فى مختلف الصراعات والقارات.وهى تصارع أمريكا بينما اقتصاد البلدان فى زواج كاثوليكى لم تصل العقول بعد إلى كيفية الفصل بينهما. وهى تقترب من اليابان وتهابها للخبرة التاريخية والصراع بين البلدين، ولان قوتها هى تاتى خصما من قوة ودور اليابان.

 

وهى تقترب من الهند وتعرف ان الصراع الاستراتيجى قادم معها، لكنه صراع لا يمكن حسمه استراتيجيا..الخ. أما أمريكا فهى فى هول عظيم. هى فى وضع اقتصادى خطر، يتطلب منها إجراءات لا يقدر على تحملها المجتمع والنخب كما تلك الإجراءات تاتى خصما من المفاهيم والتقاليد التى جعلتها أمريكا. وهى دولة ذات قدرة عسكرية هائلة يتطلب استخدامها او الحفاظ عليها اموال طائلة لم يعد يتحملها الاقتصاد بما يتطلب المراجعة، لكنها غير قادرة عليها لما لذلك من اعكاسات خطرة على دورها ومصالحها وعلى وضعيتها وعلى المعارك المتورطة فيها. وهى لا تستغنى عن السطوة والسيطرة فى أوروبا،لكن ضعف قدرتها يدفعها لفتح مساحه حركة دولية لأوروبا، لكنها تدرك بالمقابل انها لو تركت فرصة واسعه لمساهمة أوروبا فى صياغة وادارة الوضع الدولى فذلك يعنى التخلى عن قيادتها المنفردة والمتفردة فى العالم الغربى. .الخ.

 

هنا لا تعود الدول الكبرى مرتبكة وفاقدة القدرة على السير فى طريق العداء والمواجهة مع بعضها البعض اذ تتعقد الحسابات على نحو غير مسبوق فى تاريخ البشرية –لتعدد وتقارب قوى الاقطاب الصاعدة والهابطة-بل تصبح موازنات القوة والقدرة وحسم الصراعات فى كل اقاليم العالم مضطربة.

 

الأقاليم مرتبكة
كل أقاليم العالم مرتبكة وفى غاية الاضطراب، ليس فقط لأن الموازين الدولية مرتبكة ولكن لان تغيرات جسام تحدث فى كل الاقاليم، دون استثناء. فى الاقليم الاسيوى فان عمليات تبدل وتغير خطرة تجرى هناك. الصين تصعد وتصبح لاول مرة منذ زمن طويل هى الدولة الكبرى، وهى التى كانت تواجه احتلالا يابانيا من قبل. واليابان التى كانت تحتل كوريا وبلدان اخرى وتشارك فى الحرب العالمية الثانية كدولة كبرى، فتحولت بعد الحرب العالمية الثانية إلى دولة محتلة أمريكيا، ثم قامت قومتها واصبحت الدولة الثانية على صعيد القوة والقدرة الاقتصادية تعود الآن بعد نهوض الصين لتزحف إلى الخلف مع كل عام، فى وقت صعدت فيه كوريا الشمالية إلى درجة التسلح النووى. .الخ.

 

هنا تحدث حالة حادة من التحولات حتى لم يعد احد قادرا على التفكير فى الغد، باطمئنان.
وفى جنوب الصين تتحول الهند على نحو مدهش إلى قوة عالمية وتتبدل تحالفاتها وعداواتها وتبدا رحلة البحث عن مصالحها فى العالم بعيدا عن الحدود المباشرة لها. قوتها ضغط على الصين وباكستان وافغانستان، وهى الآن قادرة على الجمع بين تحالفها القديم مع روسيا وتحالف جديد مع الولايات المتحدة واسرائيل، وتعد نفسها للدخول فى مساحات من السيطرة فى المنطقة العربية او كما يقال فى الشرق الاوسط، ولاشك انها تبحث عن مصالحها هناك فى البنجاب وماليزيا وتايلاند وميامار وغيرها.

 

وفى الشرق الاوسط تصعد تركيا وتنفض عن نفسها كل ما عاشت فيه طوال القرن الماضى. هى كانت حد حلف الاطلنطى فى المواجهة مع الاتحاد السوفيتى، فصارت تعقد اتفاقا استراتيجيا مع روسيا، وتمد ايديها وتسير بارجلها إلى داخل المنطقة العربية مغيرة اتجاها سارت عليه لنحو القرن،بادئة بسوريا ولبنان والعراق. وهى كانت وقعت اتفاقا استراتيجيا مع الكيان الصهيونى فصارت تنسلخ منه يوما بعد يوم، حتى يكاد المرء سقول ان كل يوم يشهد اضافة حجة والبحث عن موقف للسير فى هذا الاتجاه. وفى كل ذلك هى لا ترفع عينيها عن أوروبا ابدا، هى ما تزال على سعيها للانضمام للاتحاد الأوروبى الرافض لها، لكن وصولها إلى ذلك يمر عبر تحالف وشراكة مع روسيا !

 

وتصعد ايران وتطلب نصيبا فى الاقليم دون قوة تواجهها بنفس التخطيط والممارسة من داخل الاقليم العربى.صار العراق جسرا ولم يعد سدا، ولم يعد اليمن سعيدا فقد وصل النفوذ الايرانى بالسلاح إلى هناك، ولم يعد لبنان ارضا للفدائيين الفلسطينيين ولا موقعا يقود حركته السنة، بل صارت ايران هناك مباشرة وعلنا وبلا مواربة. وصارت البحرين مهددة وكذلك انفتح الصراع فى داخل دول كثيرة والايدى الايرانية هى التى هناك دوما. ايران صارت تقول انها فى الطريق لبناء قطب دولى، فما بالنا بحدود طموحاتها فى المنطقة.

 

وهنا تتراجع دول فلا تتقدم الدول السابقة دون تراجع دول اخرى كانت هى الضابط لايقاع حركة التغيير والاستقرار فى الاقليم، ولذلك يعم الارتباك إلى درجة سمحت لدويلات ان تقوم بدور الدول الاقليمية –وللفكاهة :وربما الدول العظمى – فى ادارة الاقليم.
وفى افريقيا تحدث حالة غير مسبوقة من تطور الدول، اذ تلعب القروض والشركات الصينية المشتركة مع راس المال الافريقى دورا خطيرا فى انهاض افريقيا إلى الحد الذى جعل أوروبا تعود للتحالف مع أمريكا فى افريقيا فى مواجهة الصين، كما بعض المسئولين الأوروبيين صاروا يحذرون افريقيا من استعمار صينى جارى.

 

وفى أمريكا اللاتينية اصبحت الارجنتين بلدا مصدرا للمفاعلات النووية واصبحت البرازيل قطبا دوليا صاعدا وعضوا فى مجموعة الدول العشرين وصارت فنزويلا تجمع الدول فى مواجهة الولايات المتحدة. .الخ، وهو ما اربك المعادلات القديمة، حين كانت كوبا هى الدولة اللاتينية الوحدية التى تصارع أمريكا فى القارة.

 

 

تراجع العولمة
وامر الارتباك لا يضرب التحالفات الاستراتيجية (السياسية والعسكرية ) فقط، بل ان الاقتصاد صار عنوانا للمازق هو الاخر.
كان اهم واخطر ما جرى فى العالم ما بعد انهيار الاتحاد السوفيتى السابق، هو تحول العالم إلى نظام السوق الواحدة الموحدة وتشكيل منظمة التجارة العولمية، وتضاعف حجم التجارة العالمية وفتح الاسواق امام السلع الاجنبية وتقليل الرسوم الجمركية حتى الوصول بها إلى درجة الصفر وفق جداول متدرجة صارت الضغوط تجرى لانجازها، وهنا كان الضاغط من اجل ذلك هو الدول الغربية وعلى راسها الولايات المتحدة.

 

لكن عالم ما بعد الازمة الاقتصادية يسير فى اتجاه اخر الآن، اذ صارت دول العشرين التى تقود الاقتصاد العالمى الآن هى من يفرض الاجراءات الحمائية على صناعاتها فى داخل اسواقها، وسط دلائل تشير إلى ان عام 2010 سيكون عام التراجع المتزايد فى ظاهرة العولمة التجارية. فى الايام الاخبرة من عام 2009، اعلن فى الولايات المتحدة عن فرض رسوم نهائية على واردات صلب صينية، فى أحدث خطوة في النزاع التجاري بين البلدين. لكن القائمة طويلة ومرشحه للتصاعد اكثر. دول مجموعة العشرين وخلافا للتعهدات بعدم اتخاذ اجراءات تعيق التجارة والاستثمارات العالمية، اقرت خلال العام الماضى وحده 300 من التدابير الحمائية داخل اسواقها لحماية صناعاتها (وهى ذات الدول التى استفادت من العولمة فى تنمية اقتصاداتها) وتخطط خلال العام المقبل إلى اقرار 190 اجراء تحد من حرية التجارة العالمية التي حذر صندوق النقد الدولي من انهيارها وتراجعها في العام الجاري بنحو 12 %. الاتحاد الأوروبي أقر 90 اجراء بينما كانت روسيا الأولى بين الدول بنحو 37 اجراء تليها الارجنتين ب21 اجراء حمائيا بينما كانت الصين الضحية حيث اعتمدت الدول ضدها أكثر من 145 اجراء حمائيا، جرى معظمها من قبل الولايات المتحدة.

 

وامر التراجع عن مفاهيم واجراءات العولمة التى مثلت حمى اقتصادية خلال الفترة الماضية، لم يعد ظاهرا فى الاجراءات الحمائية -التى هى مؤشر على عودة الدولة إلى التعافى من الضغوط التى كانت تعرضت لها خلال بداية العولمة -بل هو يشهد انتكاسة كبيرة على صعيد العلاقات بين الدول الكبرى نظرا لتاثيرتها العكسية الآن على اقتصاداتها وهو ما ظهر مؤخرا فى التلاسن بين الصين والولايات المتحدة حول تسبب الصين فى الوضع الاقتصادى الأمريكى، اذ اعتبر الرئيس الأمريكى اوباما استمرار اخفاض العملة الصينية سببا للعجز الأمريكى، وهو ما ردت عليه الصين بالرفض.

 

مازق المنطقة
فى النموذج الاوضح والاقرب إلى عقولنا لايضاح الحالة الدولية تبدو منطقتنا هى نموذج اوضح لارتباكات العالم كله. المنطقة تعيش فى حالة توازن عجيبة اوصلت كل الاطراف إلى حالة المازق الحاد دون استثناء.
الطرف الصهيونى الأمريكى واقع فى مازق شامل، ولعل ذلك هو السبب الاول فى كثرة الحديث عن الحرب التى هى الية تغيير التوازنات بين مرحلة واخرى فى المنطقة. لكن الطرف الاخر،فى المعادلة الراهنة لا يستطيع بدوره القيام بعمل هجومى واسع ذو طبيعة استراتيجية تغير التوازنات لمصلحته.

 

الآن لا يسطيع التحالف الأمريكى الصهيونى شن الحرب لتعديل التوازنات فى المنطقة خوفا من حرب شاملة لا يعرف احد إلى اين تذهب بالقوة الأمريكية وبالوجود الصهيونى، كما ما يسمى بمحور الممانعة لا يطلب الحرب ولا يستطيع ممارسة حرب استراتيجية ذات طابع هجومى، لا يعلم نتائجها الكلية. وهنا بيت القصيد.

 

ما الأمر؟
واقع الحال ان المراقب المدقق هو وحده من لا يصاب بالدهشة ولا يشعر بالحيرة ولا يعانى من الإظلام فى الرؤية لما هو حادث، بل هو يعتبر ما هو حاصل امرا طبيعيا.
هى مرحلة انتقال خطرة تمر بها البشرية وفق مكوناتها السكانية ودولها ومجتمعاتها، وذلك هو ما يجعل الخطوط الواضحه قليلة فى الوقت الراهن.
والمهم الآن هو ان ندرك المعنى الاولى والمباشر. هذه الحالة تعنى الكثير وتتطلب الكثير، اذ لو كان الوضع الراهن يجرى وفق معطيات القرن الماضى لكان القول الدقيق هو أننا أمام أجواء وتحضيرات لحرب عالمية.
المهم الآن ان تدرك قوى المقاومة فى الأمة بكل اطيافها وطرقها وتوجهاتها، طبيعة الظرف وان تتريث حيث الظرف خطر للغاية.