قوي أم أمين ؟
23 صفر 1431
فهد السيف

  تعلق في ذاكرتي، صورة ذلك المعلم –رحمه الله حيا كان أو ميتا- بوجهه الجاد، وملامحه المنهكة، وحرصه على تلاميذه، حيث كان حريصا ألا يفوته شيء من حصته، وربما حضر إلى المدرسة وقد بدا على وجهه الإرهاق أحيانا، بل أعرف عنه كما تعرف أنت ويعرف كثير من القراء عن معلميهم أنهم كانوا يعلمون تلاميذهم وقت العصر دون مقابل، حرصا على تعليم تلاميذهم ما لم يستطيعوا تعلمه في الصباح.

 

 

وتنتقل بي الذاكرة نحو معلمي اليوم الذين تحسنت أوضاعهم في كثير من الجوانب، فالمباني المدرسية أصبحت على قدر من الجودة، وكذلك أصبحنا نرى في مدارسنا وسائل العرض، وتنوع أساليب وطرق التدريس، بل لقد أصبح معلمونا اليوم على قدر جيد من المعلومات التربوية التي بدأت تشيع في الأوساط التربوية على وجه أخص، مما لم يحط به كثير من معلمي الأمس.

 

 

كثيرا ما تدور سجالات في التفضيل بين الأجيال التي تمارس التربية في الأسرة والمدرسة، وأي الجيلين كان أجدر بالتربية، جيلنا الحاضر، أم الجيل الماضي؟

فهؤلاء يقولون: إن فهم التربية لدى الأجيال الحالية قد تطور، وقد أصبحت التربية لديهم ثقافة ينبغي تعلمها، في حين كانت التربية في السابق تؤخذ بالوراثة، ولم يكن يعرف عن التربية سوى الضرب الذي قد يمارس بصورة بشعة أحيانا، ولقد حدثني أبي –رحمه الله- يومًا أنهم إذا قالوا: إن فلانا يربي أبناءه، فإن الذهن لا ينصرف إلا لممارسة الضرب معهم، وأما الأساليب التربوية الأخرى فكانت تمارس ضمن نطاق ضيق، وهذا الأمر تشترك فيه المدرسة أيضا، واليوم نشاهد المربين يدرسون التربية، ويعرفون في كثير من الأحيان خصائص المراحل العمرية، ويتعرفون في دراستهم التأهيلية أساليب وطرق التدريس، ويستخدمون وسائل حديثة في إيصال المادة العلمية، مثل: أجهزة العرض والحواسيب وغيرها.

 

 

وأولئك يقولون: ها نحن اليوم نرى نتاج التربية ضعيفا، وأصبح المربون اليوم كسالى حتى في تربية أبنائهم، ولم تعد متابعتهم دقيقة كما في السابق، وأصبحت ترى المعلم لا يؤدي دوره المطلوب في فصله، فهو يدخل إلى فصله متثاقلا، ويجلس على كرسيه، وربما جلس يقلب صفحات جواله، ويخرج الطالب لم يفقه إلا القليل، في حين كنا نرى سابقا المعلمين يمارسون التعليم بكل إخلاص وتفاني، فكانت للمعلم هيبته وتقديره ومحبته.

 

 

وإنه وإن كان كلا الطرفين يبالغ في الثناء على جيله المفضل، وفي الإقذاع على الجيل الآخر، فإن جزءًا كبيرا مما يدون في تلك السجالات له نصيب من الصحة، وكان الأحرى أن يحرر موطن النزاع، ليظهر لنا أن الجيل الأول كان جيلا متفانيا حقا، في حين نجد الجيل الحاليّ متكاسلا، كما أن الجيل الحالي تعلم كثيرا من أساليب التربية التي ربما خفيت على الجيل السابق.

 

 

وهذا يعني أن الجيل السابق كان أمينا، وهذا الجيل أصبح قويًا، (إن خير من استأجرت القوي الأمين) وفي تعبير معاصر نستطيع أن نقول إن الجيل السابق كان يملك الفاعلية التربوية، وهذا الجيل يملك الكفاءة التربوية، والمربي بحاجة للجمع بين الكفاءة والفاعلية.

وإذا اتفقنا على هذه النقطة، وتجاوزنا الخلاف السابق فسوف نصل إلى الجانب الأهم وهو الجانب العملي والمفيد، وهو كيف يمكننا اليوم أن نرتقي بمستوى المربين؟

سنتفق أولا أنه لا بد من زيادة مستوى القوة والكفاءة لدى المربين، فلا يزال هناك قصور واضح، ولا تزال هناك خلفيات تربوية خاطئة بحاجة لتصحيحها.

 

 

ثم ينبغي أن نتفق على أن الجيل الحالي محتاج بشكل مكثف إلى زيادة مستوى الأمانة والفاعلية، فرغم معرفة كثير منهم بالأساليب التربوية، إلا أنه –إذا كان معلما- فإنه يراقب المخلوقين، وينسى الخالق –سبحانه- ويصبح التعليم لديه مجرد وظيفة تعني له دخول الفصل والخروج منه، دون تدقيق فيما يدور في الفصل، بل وربما كان دخوله فصله متأخرا وخروجه منه مبكرا إذا لم يدرِ به أحد.

 

 

وإن التربية على الأمانة مهمة صعبة، تتطلب قدرا كبيرا من الإيمان ومراقبة الله، والإحساس بالمسؤولية نحو هذا الجيل، ووجود الهم التربوي في نفس المربي، والحرص الشخصي.

وللوصول إلى هذه المرحلة ينبغي أن تتضافر الجهود وتتكاتف لترسيخ مفهوم الأمانة، من خلال جميع القنوات المتاحة، بدءًا بوجود القدوات في جميع الوظائف الإدارية وقيامها بمهماتها على الوجه المطلوب، ومرورا بوسائل الإعلام ذات الأثر الفاعل، وكذلك التذكير المستمر في الجو التربوي بهذه الأمانة، إضافة إلى تدعيم المناهج التربوية التي تعنى بترسيخ الكفاءة التربوية أن تضيف معها مفهوم الفاعلية، لأنه هو وقود الكفاءة، وباجتماعهما نخرج بجيل يجمع بين الصفتين.

 

 

إن هذا المقال ليس علاجا أو حلا لمشكلة، ولكنه مجرد شرر أرجو أن يوقد أوار النار، ويشعل فتيل النقاش حول القضية، لنخرج بتوصيات مفيدة.