خطة جنوبية – غربية: السودان إما العلمنة أو التفكيك الثلاثي
28 محرم 1431
جمال عرفة

باق من الزمن ثلاثة أشهر كي يحسم السودان مصيره في الشمال بانتخاب رئيس وبرلمان جديد في 11 أبريل المقبل، وباق من الزمن 12 شهرا كي يحسم جنوب السودان في 9 يناير 2011 مصيره بالانفصال (غالبا) أو الوحدة.. وسط توقعات تشير لأن السودان ككل مقبل علي المجهول.

أزمة السودان لا تتعلق فقط بانتخابات 2010 التي يعتبرها قادة الحركة الشعبية الجنوبية فرصة لمنافسة الرئيس البشير نفسه علي رئاسة الدولة عبر مزاحمة رئيس حكومة الجنوب (سلفاكير) له في الانتخابات الرئاسية، وذلك ضمن هدف جنوبي يسعي لخلق سودان موحد علماني غير إسلامي، وإنما تتعلق بانفصال الجنوب وما سوف تشكله هذه الدولة الانفصالية من توتر وربما حروب مع الشمال السوداني، فضلا عن خطورة هذه السابقة علي التوترات الأخرى في دارفور مثلا.
فالهدف – الذي يتفق عليه الغرب وقادة الحركة الشعبية المتمردة السابقة – هو معادة حكم الإسلاميين في حزب المؤتمر الوطني الحاكم والسعي للقضاء عليهم وإنهاء حكمهم وإلغاء تمسكهم بإنفاذ الشريعة الإسلامية كمنهج حياة في السودان.
ولذلك تضع الحركة الشعبية في مخططها تنفيذ مخطط أوسع وأعرض لمستقبل السودان يقوم علي شقين (الأول) عام يتعلق بالسعي لتغيير هوية السودان ككل ولعب دور اكبر في الحكم في كل السودان، و(الثاني) خاص بالجنوب والسعي للانفصال به في نهاية المطاف لو فشلت خطتهم في تحويل السودان ككل لسودان علماني.

 

ويجري تنفيذ هذا من خلال مشاركتهم – الجنوبيين- أولا في الانتخابات البرلمانية والرئاسية هذا العام بالتحالف مع قوي المعارضة الأخرى للحزب الحاكم والسعي لإقصاء الحزب الحاكم أو منافسته بقوة في البرلمان وربما انتخابات الرئاسة، وفي حالة عدم نجاح خطتهم لعلمنة السودان ككل يجري تنفيذ الشق المضمون وهو انفصال الجنوب عبر استفتاء 11 يناير 2011.

 

خطر الوحدة أو الاستقلال !
والمشكل أنه سواء سار السودان في خط الوحدة، أو انفصل الجنوب بدولة مستقلة، فالسودان سيدخل مرحلة الخطر وتتزايد التدخلات الغربية لتفتيته بهدف جوهري هو منع تشكيل إمبراطورية سودانية ( بحكم مساحة السودان الضخمة وموارده الهائلة).
فأزمات السودان لم تعد هي فقط انفصال الجنوب، وإنما هناك مخاطر من حركات التمرد في دارفور وحركات تمرد أخري في مناطق شمالية وشرقية يدعمها قوي دولية هدفها تفتيت السودان خصوصا وأن من يحكمونه لديهم منهج إسلامي وفكر عقائدي منسجم مع الشريعة الإسلامية.
بل أن انفصال الجنوب نفسه سيمثل خطرا كبيرا علي السودان.. فبرغم أن هناك فريق داخل الحركة الإسلامية السودانية وصل إلي قناعة بأن انفصال الجنوب ربما يكون لصالح الشمال، باعتبار أن الجنوب والحرب معه شكل عقبة أمام التحول الإسلامي الكامل وتطبيق الشريعة الإسلامية، وانفصاله يعطي الشمال فرصة لتنفيذ مشروعة الإسلامي والنهضة بالدولة السودانية بعد انفصال الجنوب منها.
إذ أن الجنوب ليس موحدا وليس صحيحا أن الحركة الشعبية هي المهيمن الوحيد وصاحبة الصوت العالي هناك فهناك العديد من الحركات السياسية الجنوبية القبلية بشكل أساسي تتصادم مع الحركة الشعبية.

 

وهناك حرب أهلية حقيقية تجري هناك حاليا ومنهج الحركة الشعبية في التعامل مع أي حركة أو عشيرة تنافسها هو القمع ولذلك هناك مخاوف حقيقية في الخرطوم ألا يؤدي انفصال الجنوب إلي سلام، وإنما سيخلق توترا جديدا بين دولتي الشمال والجنوب خصوصا أن الجنوب يتسلح حتي أسنانه وسيزيد هذا بعد الانفصال، كما أن الحرب الأهلية في الجنوب سوف تنعكس بلا شك علي الشمال وتظل تلاحق استقرار السودان ككل !.
فجنوب السودان شهد خلال عام 2009 فقط أعمال عنف قبلية غير معتادة بين القبائل الجنوبية حصدت - وفق تقدير "ديفيد جريسلي" منسق مهمة الأمم المتحدة في جنوب السودان - ما لا يقل عن 1200 ضحية حتي الأول من سبتمبر 2009 ارتفعوا إلي حوالي 1400.
وهناك تقارير عن أن هذا العدد اقل من الرقم الحقيقي بسبب صعوبة إحصاء أعداد القتلي بدقة، ولكن الخطورة أن هذه الحرب القبلية الأهلية لم تتوقف فقط علي القتل وإنما أسفرت أيضا عن تشريد 250 ألف شخص منذ بداية هذا العام، وحرق منازل ونهب متاجر وأضرار في المنشات العامة.

 

وهذا ناهيك عن اضطهاد مسلمي جنوب السودان والتضييق عليهم وعلي لبس الحجاب وحرق مؤسسات للزكاة ومقرات للحزب الحاكم (المؤتمر الوطني) واعتقال مسلمون وشماليون !.
ولا يوجد خلاف بين خبراء الشأن السوداني علي تصاعد الانقسامات القبلية وغياب الآمن خارج المراكز الحضرية والحكومة الجنوبية التي تفتقر للخبرة وينتشر فيها الفساد فضلا عن انتهاج سلطة الحكم الذاتي في الجنوب سياسة القمع.
وهو أمر يشهد به أيضا مركز أبحاث المجموعة الدولية لمعالجة الازمات الذي أصدر تقريرا يقول : "قد تشهد فترة ما بعد الاستقلال -عندما ينتهي القاسم المشترك الخاص بتقرير المصير- اقتتالا كبيرا وصراعا متزايدا على أسس قبلية ".
فهناك خطورة كبيرة من انتشار السلاح في أيدي الجميع في جنوب السودان وفشل حكومة الجنوب في تلبية الاحتياجات الأساسية لسكان الجنوب لانشغال أعضاءها في صرف أموال النفط التي يحصلون عليها من الشمال – حصة الجنوب من اتفاق قسمة الثروة- في أمور غير جوهرية.

 

وهناك قادة جنوبيين منشقين عن الحركة الشعبية - مثل لام أكول - يلقون باللائمة علي حكومة جنوب السودان، ويقولون أنها فشلت في إدارة الأمور بشكل جيد، وتحابي قبيلة الدينكا كبري القبائل التي ينتمي لها أفراد الجيش الشعبي الجنوبي علي حساب قبائل صغيرة مثل "الشلك" و"النوير"، ويصل الأمر – بحسب "أكول" – للإرهاب الفكري الذي تمارسه حكومة الجنوب في جوبا ثم يتهمون المؤتمر الوطني بالصراعات التي تحدث في الجنوب رغم أنهم سبب أساسي فيها !؟.
وقد ذكر تقرير أخير صادر عن (معهد السلام الأميركي) وهو مركز أبحاث مستقل في 8 يناير الجاري 2010 أن : "كثير من الجماعات تساورهم شكوك بشأن قدرة (الجيش الجنوبي) على حماية المجتمع.. حيث يشهد هذا الجيش الهائل الذي يكافح الجنوب لدفع مرتبات جنوده اقتتالا داخليا ويتهم بانتهاكات لحقوق الإنسان ".

 

وقال تقرير لمنظمة "اي كي في باكس كريستي" وهي منظمة هولندية غير حكومية أن الجيش الجنوبي "بشكل عام ليس جيشا موحدا ولكنه مجموعة من الميليشيات السابقة والجماعات العرقية وهناك حاجة مستمرة لاحداث توازنات للحفاظ على وحدته ".
وهذه الحقائق وغيرها الكثير تؤكد أن الجنوب غير مهيأ بالفعل للاستقرار في ظل دولة انفصالية، وأن هذه الدولة الانفصالية – لو انفصل الجنوب – لن تكون لها المقدرة علي النجاح والتصرف كدولة مستقرة مسئولة في المنطقة.

 

وهناك مخاوف حقيقية لدي الخرطوم ودول الجوار والولايات المتحدة وحلفاؤها أيضا من أن ينتهي الأمر بالدولة المستقلة في الجنوب لأن تصبح نموذج لما يسمي "الدولة الفاشلة" الغير قادرة علي إدارة شئونها أو العاجزة، ما سوف يجعلها عبء علي الدول المجاورة ويؤثر علي الاستقرار في منطقة الجنوب الأفريقي ككل ومن ثم يضر مصالح الدول الأفريقية ومصالح الدول الغربية الموجودة في هذه المنطقة أيضا.
بل أن هذه الدولة الجنوبية قد تتحول إلي "إسرائيل جديدة" تظل تعتمد علي الغرب في دعم اقتصادها ومدها بالموارد المختلفة وتثقل كاهلها المثقل أصلا منذ الأزمة المالية العالمية، فضلا عن إثارتها لأزمات في الوسط الأفريقي المحيط بها نتيجة حروبها الأهلية الداخلية وموجات الهجرة أو انتقال شرارة العنف خارج الإقليم الجنوبي.
السودان يتجه بالتالي إلي المجهول ويزيد من مخاطر مستقبله أن المؤامرات تتعاظم وتتكالب عليه محليا وإقليميا ودوليا.
فمحليا هناك خصوم لحزب المؤتمر الوطني من القوي والحركات المتمردة أو العلمانية أو المتعاونة مع الغرب، يرغبون في ذهاب هذا الحزب الحاكم إلي الجحيم وعودة السودان إلي حالة الفوضى، وعلي رأس هؤلاء الحركة الشعبية وحركات دارفورية متمردة متعاونة مع "إسرائيل".

 

وإقليميا لا تخفي العديد من دول الجوار عداءها للخرطوم ونظامها الحالي بسبب المنافسة التقليدية في المنطقة وفرض النفوذ، فضلا عن المخاوف من نشوء دولة سودانية قوية لو توافر لها الاستقرار الفعلي بلا مشاكل وألتفت أبناؤها للبناء والأعمار أما دوليا فهناك مطامع أجنبية قديمة في السودان ظلت تحوم حوله حتي وجدت ضالتها في دعم حركات التمرد الجنوبية والغربية والشرقية بهدف تجزئة السودان وتفتيته ومنعه من إنشاء دولة قوية في أفريقيا تعوق النفوذ الغربي هناك.
والخطورة الحالية هي تكاتف وتحالف هذه الأخطار الثلاثة المحلية والإقليمية والدولية، وهؤلاء يعولون أولا علي انتخابات أبريل المقبل لعلها تضعف الحكم الإسلامي والحزب الحاكم أو يأتي برلمان متعدد، أما لو انتهت الانتخابات باستمرار تعزيز التيار الإسلامي – ممثلا في رموز الحزب الحاكم – سيطرته علي السلطة، هنا سيأتي تنفيذ الشق الأخطر بالتركيز علي السعي لفصل الجنوب عبر استفتاء تقرير المصير أملا أن يكون خطوة لمطالبة متمردين من دارفور بالمثل !.