لِمَ العجب إذا استهزأ نجاد بكوشنير؟!
22 ذو الحجه 1430
د. احمد محمود عجاج




خلال سؤال الرئيس الإيراني أحمدي نجاد عما قاله برنار كوشنير عن إيران وانتقاده للسلطة الحاكمة، قال أحمدي نجاد بلغة الواثق والهازئ: "كوشنير؟ تقصد وزير خارجية فرنسا؟ سمعنا أنه يتحدث كثيرا وهو غالبا لا يعرف ماذا يقول".  هذا الرد الحازم وغير المعهود دبلوماسيا لا يمكن قراءته إلا من منظارين استدلالين: إما إن الرئيس نجاد مصاب بهوس العظمة أو أنه بالفعل يتحدث بلغة الواثق لاعتقاده أن بلاده قد خرجت من سياق التبعية إلى مدار التأثير والنفوذ، ولا يمكن تجاهلها بعد الآن؛ لا يمكن الجزم بحتمية أحد الاستدلالين لكن يمكن القول أنهما معا مترابطان ولا يمكن قراءة أحدهما دون الآخر.

ثمة أسباب موضوعية لابد من اعتبارها، وأولها أن إيران منذ انطلاقة الثورة كانت تعمل بجد على أن تكون قوة مهيمنة وفاعلة ليس فقط في الداخل الإيراني بل في محيطها الإقليمي وحتى العالم. وهذه الفاعلية منطلقها الإيديولوجية الخاصة التي تميز إيران والتي يبرز خطوطها الكبرى مسؤولون إيرانيون من حين لآخر.

هذه الإيديولوجية تقوم على دعامتين: وراثة الإرث الفارسي ومجده واستملاك الإرث الديني الشيعي؛ فالإرث الفارسي يعطي لإيران وزنها المادي ويغذي هوس العظمة، والإرث الديني الشيعي يمدها بالبعد الروحي وحب التضحية. هذا الإرث الفارسي الشيعي أعطى إيران دفعا قويا للبروز كدولة فاعلة على الساحة الدولية، ومدها بأوكسجين الحياة في أشد الأزمات صعوبة وبالذات حرب الثماني سنوات مع العراق.

 لقد وعى القادة من خلال تجاربهم الماضية أنه لا ينفع إلا بناء الذات وأن بلادهم بحكم المسؤولية التاريخية الملقاة على عاتقها " التمهيد لعودة المهدي المنتظر" يجب أن تحمي نفسها من الأعداء ولابد لذلك من بناء جيش قوي وحيازة السلاح النووي.

لأن إيران دولة أيديولوجية كان شأنها أن تعمد إلى نشر أفكارها وتجهد من أجل إيجاد مواطئ أقدام لها في محيطها الإقليمي عبر بذل الأموال وتجميع الأعوان وتحفيز الأقليات واستمالة المؤيدين وكسب الأنصار؛ وقد تمكنت خلال فترة  قصيرة من أن تصبح راعية للشيعة في العالم، واستطاعت أن تجبر حتى الرئيس المصري على أن يشكك في ولاء المواطنين الشيعة لبلادهم لا بل استطاعت أن تسحب ولاء آخرين لا يدينون بمذهبها ومن قلب العالم العربي. هذا النجاح طبيعي جدا لأن حالة الفراغ في المحيط العربي هائلة وإمكانية التحرك فيه كبيرة، ولا يمكن لأحد وقف نفوذ الإيديولوجية إلا بأيديولوجية مضادة، تكشف عورات الأولى وتدفع الناس للانصراف عنها لا بل إلى محاربتها، وهو ما ليس متوفرا في العالم العربي.

لا شك أن الدول العربية الخائفة من التمدد الإيراني تعي هذا الخطر لكن وعيها جاء متأخرا جدا وبعد أن تمكنت إيران من بسط اليد على أماكن حساسة داخل تلك الدول مثل لبنان وفلسطين واليمن ولربما في مناطق أخرى أشد حساسية؛ لذلك أن علاج هذا التمدد بالعقاقير المهدئة وليس بالكي أعطى إيران فرصة أكبر لتعزيز النفوذ، وامتلاك مزيد من الأوراق. وكي نكون منصفين لا تجد الأنظمة العربية حلا سريعا لهذه المعضلة لأنها واقعة بين المطرقة والسندان؛ فهي أنظمة بلا أيديولوجية وتخشى الإيديولوجية وأنظمة تخشى المواجهة لضعف في البنية الداخلية ولغياب الفاعلية العسكرية، وقد تبين لها في أزمات سابقة في لبنان وفلسطين أن اليد الإيرانية طويلة وقادرة وفاعلة.

إن المسألة الإيرانية الآن خرجت من يد العرب لا بل أصبح العرب في يد إيران، ولذلك فإن إيران في حرب الأعصاب مع الغرب، تهدد ليس فقط بإمكانياتها المادية بل أيضا بالورقة العربية، وتجعل الغرب يحسب لها ألف حساب قبل كل خطوة يخطوها. وقد أفهمت إيران الغرب، وبالذات فرنسا، أنها لا يمكن أن تدخل إلى المنطقة العربية إلا من البوابة الإيرانية، وقد أثبتت الأحداث الأخيرة في لبنان صدق تلك المقولة، وأثبتت أحداث غزة أن إيران لها وجهة نظر لا يمكن لـ"إسرائيل" ولا لأمريكا أن تتجاهلها. ولذلك ليس غريبا أن نجد رئيس إيران يمتعض من انتقادات كوشنير للوضع الداخلي الإيراني، ويصف هذا الوزير بعبارة الجهل وعدم معرفة ما يتفوه به.

إن عبارة الاستهزاء بحق الوزير الفرنسي تدل بالذات على شخصية الرئيس نجاد وثوريته ورؤيتها المتحدية للعالم، وتدل أيضا على أن إيران قد وصلت إلى مرحلة التشبع، والحماس لجني ثمار ما زرعته. هذه الذروة الحماسية والاستعجال الإيراني يقابلها جلد غربي ورغبة في تأخير المواجهة لأن الغرب يعرف، وقد تعلمنا من ممارساته، أن المسألة في النهاية تتعلق بالمصالح، وأنه إذا ما ضُمنت مصالحه  فلا حيف ولا خوف من الظهور الإيراني. أما إذا اندفعت إيران ومالت كفة الهوس أكثر مما يجب، فإن المواجهة واقعة وسيكون الخاسر الأكبر فيها إلى جانب إيران العرب. يعرف الرئيس الإيراني ذلك كله، ويعرف العرب، والغرب ذلك أيضا؛ لا عجب إذن أن يتفوه نجاد بعبارات فظة لأنه يعرف حجمه ويعرف حجم فرنسا.