غرائب الغرب
19 ذو الحجه 1430
د. محمد العبدة

ليس مستغربا ماجاءت به الأنباء في هذه الأيام من أن أكثرية الناس في سويسرا صوتوا لمنع المآذن في مساجد المسلمين, سويسرا التي اشتهرت بأنها بلد حيادي وسكانه خليط من الألمان والفرنسيين والإيطاليين ,وهي مصيف المترفين من العرب, وبنوكها ممتلئة بآلاف الملايين من أموالهم ليس غريباً, فالساسة في الغرب ورؤساء الأحزاب ليس عندهم مانع في سبيل نجاحهم في الانتخابات من تهييج الرأي العام وتخويفه من الإسلام ,هذا الدين الذي هو أصلا مثار حذر وتشنج من كثير من الأوروبيين ,والقاعدة النفعية عند ساسة الغرب هي (أن نفعل ما نريد وأن يفعل الآخرون ما نريد) وهذه الطبقة من صناع القرار لها مصلحة في صنع أعداء للغرب بعد سقوط الاتحاد السوفيتي فوجدوا ذلك في الإسلام .

 

قد يظهر لبادي الرأي أن هناك تناقضا بين ما يقوله هؤلاء عن الحريات وحقوق الإنسان وبين تصرفاتهم العملية .ولكن الحقيقة هي أن الغرب له حساباته الخاصة تجاه الإسلام ,وإذا رجعنا الي الوراء قليلاً, فإن ما يسمي بالتيار الإصلاحي في البلاد العربية في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين الميلادي ,هذا التيار دعا الي التعامل مع أوروبا وعدم قطع العلاقات معها ,وطالب أوروبا بإنهاء الاستعمار والعودة إلى الحوار والتفاهم ,ولكن الغرب لم يطمئن إلي أدبيات هذا التيار الذي استخدم مصطلحات الحرية وحقوق الإنسان ,وحقوق الشعوب في تقرير المصير.بل اختار الساسة الغربيون كما يقول الباحث جورج قرم "التعامل مع زعماء العشائر والطوائف المذهبية والعرقية ,وهي التي جرى ويجري توطيدها ومأسستها "(1)

 

ومن أوضح الأمثلة علي عقلية وطرائق الساسة في الغرب في التعامل مع المسلمين ماذكره الأمير شكيب أرسلان من أن "الدول الغربية أثارت علي البولشفيك (الشيوعيين في روسيا ) الأميرال (كولتشاق) والجنرال (دينيكين) والمملكة البولونية,وحاولت إثارة الأرمن والكرج (جورجيا) ولكن الغرب كان حذراً من تحريك قوة إسلامية علي البوليشفيك ,فلم يرق لهم تسليح العجم ولا الأفغان , وما ذاك إلا لأنهم يرون الخطر الإسلامي أعظم من الخطر البولشفي, مهما كان الخطر البولشفي عظيماً"

 

إنهم يرفضون المساعدة من المسلمين خوفاً من أن تكون سبباًفي تقوية جانبهم.

وتذكر جريدة الشهاب الجزائرية التي كانت تصدر عن جمعية العلماء الجزائريين ,أنه عندما توفي الأمير خالد حفيد الأمير عبد القادر الجزائري في دمشق ,أقيمت صلاة الغائب في الجزائر,فكتبت جريدة (الطان) الفرنسية تستنكر هذا ,ويعلق الشيخ ابن باديس :"إن أمة هذه الجريدة أقامت في مختلف بلادها فوق الألف تمثال لتخليد عظمائها في ميادين الحرب والسياسة والعلم والفن ,ثم تقاوم هذه الجريدة أمتنا عندما رأت أننا نقيم صلوات عامة ,وأن يتقبل الله خالداً برحمة ,حتي ذكر الموتي يجب أن ننساه لكي يرضي هؤلاء السادة .ونقول لهم إننا لن نرضيكم أبداً ولن نعمل علي إرضائكم .. ".

 

إن القوانين التي سنتها الحكومة البريطانية الحالية وعرضتها علي البرلمان الذي لم يوافق عليها ,هذه القوانين تجسد مرض الخوف من الإسلام ,وكأنها تقول للناخبين :نحن نحميكم ونسهر علي أمنكم.. هذه الأمثلة لاتعني القطيعة مع الغرب ,خاصة أن كثيرا من شعوب الغرب لايعلمون كثيراً عما تفعله حكوماتهم ,وهذا مما يشجع علي الحوار بل على الأسلمة. وربما كان خطأ الإصلاحيين أنهم اتجهوا نحو الساسة وصانعي القرار ولم يتجهوا نحو الشعوب التي لاتعلم كثيراً عن الإسلام .

 

لقد تجذر الإسلام في أوروبا وأصبح شيئاً واقعاً, والحل هو في وحدة الأقلية المسلمة وكيف يواجهون المشاكل التي تعترضهم ,وطريقة التفاهم مع الأوروبيين. وهل سترجع أوروبا إلى الوراء ، إلى محاكم التفتيش ، هذا بعيد ، فلا يبقى إلا أن يتفهم العقلاء منهم أن تعدد الثقافات أصبح أمرا واقعا ، وعلى المسلمين أن يعدوا أنفسهم للحوار الصادق الجاد ، ويعلموا حقوقهم وواجباتهم .

يقول الكاتب الإسباني (رافائيل جومينز):"لابد من العمل علي إيجاد مساحة من التوافق التي تسمح بالعيش المشترك فهذه الأقليات أصبحت جزءاً لا يتجزأ من نسيج المجتمع العام فالإسلام في أوروبا حقيقة يصعب تجاهلها ".

 

نعم هناك مساحة للعيش المشترك ,ولكن ليس للاندماج الذي تذوب فيه الهوية والشخصية , ويزور الوعي الإسلامي ويتجه إلى خط الانحراف تحت مسمى (الواقع ) فالإسلام ظاهر لا خفاء فيه ,وإذا لم يتدارك المسلمون الأمر .. فاليوم مآذن وغداًستكون المساجد!!
1-شرق وغرب ص 74
2-حاضر العالم الإسلامي ج1 ص333