رأي متشدد من قلب الأزهر
23 شوال 1430
أمير سعيد













عرف الأزهر على مر العصور بالتسامح المذهبي، ونجح على مدى أكثر من ألف عام في أن يجعل الآراء المعتبرة في إطار العلم الشرعي مندوحة للمسلمين للأخذ بما يترجح لديهم منها؛ فكان منهم الحنفي والشافعي والحنبلي والمالكي، وكان العلماء من المذاهب المختلفة يتناظرون ويتناقشون وبينهم من المودة ما يعرفها كل غازٍ وطأ أرض مصر فكانوا أمامه بنياناً مرصوصاً.

لم يعب الأزهر يوماً أن كان الشيوخ فيه مختلفين حول مسائل ما، ما دامت خلافاتهم في حيز المعتبر والراجح والمرجوح، وما بقيت آراؤهم في نطاق العلم الشرعي الرصين المنزه عن الأهواء والآراء الضعيفة والشاذة، بل شرفه دوماً أن يعطي الأنموذج الذي أخفق في اتباعه كثيرون ممن يرفعون ألوية الحرية وهم أبعد ما يكونون عنها وعن سلوكياتها المنفتحة.

كانت أروقة الأزهر زاخرة بتنوع الآراء التي تثري الفقه والعلوم والآداب بما تنتجه قرائح العلماء، ولم تزل كذلك، تحفظ الدين برحابة صدور علمائه وسعة علمهم وثقافتهم.

والآن نحن أمام نموذج متشدد من فرض الرأي بالإكراه في الأزهر، ونعني أنه إن كان لأصحاب الرأي في عدم وجوب النقاب سلف في قولهم؛ ففي القول بوجوبه أيضاً سلف؛ فكيف إذن تأتى أن ينسف الرأي المعتبر بجرة قلم، ثم يعاد فيقال إن المنع كان للمرأة أمام المرأة، وكأن المنتقبات يرتدينه أمام أنفسهن وفي خلواتهن!!

إن ما شهدته الأيام الأخيرة في مصر، في التعاطي مع مسألة النقاب وارتدائه كشف عن غياب مفاهيمي لافت يجترئ في تطبيقه على أبسط حقوق النساء، ويتجاوز حدود اللياقة في فرض الآراء ولو ظُنت لأول وهلة تمهيداً للانفتاح والتحرر؛ إذ إن فرض الآراء بهذه الطريقة الغريبة التي مارسها شيخ الأزهر ثم تراجع عنها لهي محل استهجان أخلاقي قبل أن يكون مسألة حقوقية، ثم هو امتحان بالغ الصعوبة لقائمة طويلة من المنظمات والهيئات التي ترفع لافتات حقوقية وإنسانية ثم هي لا تعرفها عندما تخالف آراء أصحابها.

الحرية التي يتحدثون عنها لا تتجزأ، والقبول بحرية الآراء المخالفة هو أولى خطوات الانتماء لثقافة التسامح عند القائلين بذلك، وما عداه هذر وادعاء، وما ينجم عنه ليس إلا شيوع ثقافة الاستبداد والغلظة وإن تدثرت بأردية التحرر والانفتاح؛ فالقيود لا تحمل على الانطلاق وإن كانت من الذهب والماس، ولن ينتج التشدد إلا نظيره..

إنهم يزعمون أنهم الأكثر حداثة وتقدماً، لكن فاتهم أن العلماء السابقين قبل قرون طويلة كانوا "أكثر حداثة" من هؤلاء المستبدين بالرأي!! يقبلون التنوع ولا نقبله، ويختلفون بأدب ولا نفعل.

وحين ننظر للمشهد الذي وضع فيه شيخ الأزهر جامعه بتاريخه وتراثه، نعاين صورة بائسة لمحاولة متشددة لفرض رأي بالإكراه الوظيفي، ثم معالجة مؤسفة عبر بيان هزيل وطريف في آن معاً، يتحدث عن زاوية لم تخطر حتى على ذهن التلميذة ذاتها، وهو ارتداء التلميذات والطالبات للنقاب أمام بعضهن البعض!! وكأن شيخ الأزهر دخل الفصل فجأة فهاله أن ترتدي الصبية نقابها أمام زميلاتها، ولم يكن المعهد الديني قد تتكهرب منذ الفجر وعاين الجميع هندامهم قبل الذهاب إليه استعداداً للقاء المسؤول الكبير!!

وحتى على هذا النحو الخيالي والفلكوري لم يكن لمجلس الأزهر أن يجتمع لمعالجة سلوك يحدث بين التلميذات أنفسهن، ومئات القضايا الملحة سياسياً ـ ومنها هدم الأقصى المحتمل ـ واجتماعياً واقتصادياً وثقافياً تتراكم على طاولته دون حسم أو بيان.

إنه التشدد في غير محله، والتداعي فيما لا يستأهل، والاجتماع لسبب لا يستحق، إلا إذا كان المقصود في النهاية هو "إرهاب" التلميذة "المتمردة" على رأي الشيخ الأوحد.. ربما، وإذ ذاك ليس لي أن ألوم د.فيوليت داغر رئيسة اللجنة العربية لحقوق الإنسان بباريس حين تقول: "إن هذا الحدث هو امتداد للمنظومة الإرهابية الرسمية التي تمتلك زمام الأمور في وطننا العربي والتي لم تعد تتحمل حتى وجود شعبها معها على الأرض"..