يوميات صائم.. بين ضَعف وضِعف!
23 رمضان 1431
خالد عبداللطيف
بين "ضَـعف" و"ضـِعف" تتفاوت درجات الصائمين (كما تتفاوت درجات المؤمنين) تفاوتاً عظيماً..!
بين "ضَعف" عن العمل، ووهن وإخلاد إلى الكسل، وبين همة تتطاول إلى "جزاء الضِعف" بحسن الظن وجميل الأمل!

قال المولى جل وعلا :{ لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ}.

 

وقال سبحانه (فيمن أفلح وسما): {فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ}.
وما بين أشواق روح إلى الدرجات العلى.. وارتكاس نفس في دركات الحرمان.. طبقات ودرجات؛ تسمو إلى هذه.. أو تدنو من تلك!

صوّر ذلك ابن رجب في "لطائف المعارف" في حديثه عن "وظائف شهر رمضان" تصويرا بديعاً، فقال رحمه الله: "والصائمون على طبقتين:

 

 إحداهما: من ترك طعامه وشرابه وشهوته لله تعالى، يرجو عنده ‏عوض ذلك في الجنة، فهذا قد تاجر مع الله وعامله، والله تعالى (لا يُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) ولا يخيب معه من عامله، بل يربح عليه أعظم الربح...
الطبقة الثانية من الصائمين:
من يصوم في الدنيا عما سوى الله، فيحفظ الرأس وما ‏حوى، ويحفظ البطن وما وعى، ويذكر الموت والبلى، ويريد الآخرة فيترك زينة الدنيا، فهذا ‏عيد فطره يوم لقاء ربه وفرحه برؤيته:‏
         أهل الخصوص من الصوّام صومهم              صون اللسان عـن البهتان والكـذب
            والعـارفـون وأهـل الأنـس صـومهم               صون القلوب عن الأغيار والحجب".

فيا ترى.. أين نجد أنفسنا بين هذين الصنفين؟!

 

كان الأحنف بن قيس رحمه الله جالساً يوماً فجال بخاطره قوله تعالى:{لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفلا تَعْقِلُونَ}فقال: علي بالمصحف لألتمس ذكري؛ حتى أعلم من أنا ومن أشبه؟
فمر بقوم {كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} ومر بقوم {يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ..}،  ومر بقوم {يُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ..}، ومر بقوم {يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ}.فقال - رحمة الله عليه -: اللهم لست أعرف نفسي في هؤلاء!
ثم أخذ يقرأ، حتى مر بقوم {إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ}، ومر بقوم يقال لهم: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} الآيات. فقال : اللهم إني أبرأ إليك من هؤلاء!
حتي وقع على قوله تعالى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}. فقال: اللهم أنا من هؤلاء!
إنها حقيقة هذه النفس العجيبة.. التي إن تعلقت بهم الآخرة؛ حلّقت في آفاق العلى. وإن تعلقت بهموم الدنيا؛ غرقت أو أوشكت في مستنقع الطين!
فهل نجعل من رمضان فرصة الارتقاء؟!
وأي فرصة إن لم يكن؟!